ما الذي يدفع الشركات الغربية إلى عدم الانسحاب من السوق الروسية؟
منذ أن شنَّت روسيا الحرب على أوكرانيا، والشركات الغربية تتعرض لضغوط شعبية وسياسية تطالبها بالخروج من السوق الروسية، إلا أننا لم نر بعد هذه الشركات تغادر روسيا بشكل جماعي. فلماذا لا تُنفِّذ الكثير من هذه الشركات وعودها بالتوقّف عن الأستثمار في روسيا؟
لم يمض أسبوع على الغزو الروسي لأوكرانيا حتَّى سارعت شركة “أي بي بي” إلى الإعلان عن نيَّتها وقف أعمالها في روسيا، لتكون بذلك أول شركة سويسرية متعددة الجنسيات تتخذ قرارا بهذا الحسم. وبعد بضعة أشهر من الحرب، أقدمت الشركة على خطوة أكبر وأعلنت نيَّتها تصفية كامل استثماراتها هناك.
اليوم، وبعد مضيِّ أكثر من عام على بدء الصراع، تواصلت SWI swissinfo.ch مع المتحدِّث باسم “أي بي بي” الذي أخبرنا أنَّ الشركة لا تزال “تسرّع في خطواتها لاستكمال الانسحاب بما يتوافق مع جميع اللوائح والعقوبات النافذة”. وتجدر الإشارة إلى أنَّ شركة “أي بي بي” كانت تملك في روسيا، قبل اندلاع الحرب، مصنعين وكادر بشري يضم حوالي 750 فرداً.
ومع أن بعض الشركات العملاقة مثل ماكدونالدز ورينو وسيمنز خرجت فعلاً من روسيا، إلا أن شركة “أي بي بي” ليست الوحيدة التي لم تغادر الفدرالية الروسية بعدُ. فقد كشفت دراسةرابط خارجي حديثة تعاونت على إجرائها جامعة سانت غالن مع المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)، أن غالبية شركات الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع العاملة في روسيا إما أنها لم تحرك ساكناً أو لم تستكمل بعد خططها لتصفية استثماراتها.
المزيد
البقاء أم الرحيل؟ مُعضلة كبرى تُواجه الشركات السويسرية في روسيا
ففي الدراسة التي أجراها سيمون إيفينت ونيكولو بيزاني، استناداً إلى قاعدة بيانات أوربيس “ORBIS”، وهي مكتبة ذائعة الصيت تجمع البيانات المالية للشركات، تبيَّن أن 2,405 شركة فرعية تملكها 1,404 شركة من أوروبا أو مجموعة السبع كانت تعمل في روسيا في 24 فبراير، عندما شنَّت روسيا الحرب على أوكرانيا. وبعد المقارنة بعدد الشركات من هذه الدول التي لا تزال تمارس نشاطاً تجاريًّا في روسيا في أواخر نوفمبر 2022، خلص الباحثان إلى أن 8.5٪ فقط أو أقل من واحدة من كل عشر شركات، قد صفَّت استثماراتها في شركة روسية تابعة واحدة على الأقل.
منذ نشر النسخة الأصلية من هذا المقال، تلقت جامعة سانت-غالن والمعهد الدولي للتنمية الإدارية بلوزان (IMD) انتقادات اعتبرت بأنهما يُبالغان في تقدير عدد الشركات التي لا تزال ناشطة في روسيا بسبب المنهجية التي اعتمداها. وجادل جيفري سونينفيلد، الأستاذ بجامعة ييل الأمريكية بأن الدراسة تشمل العديد من الشركات التي لديها انشطة في الخارج.
ووفقا لتقرير صادر عن قناة الاذاعة والتلفزيون العمومية السويسرية الناطقة بالألمانية SRF، استخدم باحثو جامعة سانت-غالن والمعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) بيانات من الشركات العاملة في روسيا التي يوجد لديها موقع واحد على الأقل في دولة غربية. أما أحد الأمثلة على ذلك فهو محرك البحث Yandex، وهو عبارة عن شركة روسية متعددة الجنسيات يُوجد مقرها في هولندا.
وتجادل جامعة ييل بأن هذا مضلل لأن الشركات الروسية، في معظم الحالات، غير قادرة على مغادرة روسيا ولن تُصنّف على أنها شركات غربية. كما أثارت ناتاليا شافبوفال، مديرة كلية الاقتصاد في كييف، تساؤلات حول مجموعة البيانات في مقابلة أجرتها مع قناة الاذاعة والتلفزيون العمومية السويسرية الناطقة بالألمانية SRF.
وصرَّح إيفينت لصحيفة لوتونرابط خارجي الفرنسية قائلاً “إن النتائج التي توصلنا إليها شكلت مفاجأة كبيرة، فقد تبيَّن أن الشركات تقاوم الضغوط التي تمارسها عليها الحكومات ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية لمغادرة روسيا منذ أن بدأ النزاع. وفي الوقت ذاته، تقدم النتائج لمحة واقعية عن التحديات التي تواجه الشركات التي تحاول مغادرة سوق رئيسية في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة.
ومع استمرار الحرب وفتور الضغط العام، تبدو المؤشرات قليلة على تهافت الشركات على مغادرة روسيا. فرغم الهجوم الروسي المستمر على أوكرانيا، وجد التحليل أن معدل تصفية الاستثمارات بالكاد تغير على مدى الربع الأخير من عام 2022.
القول ليس كالفعل
ويبدو واضحاً التباين في مواقف الشركات، فبعضها أجتزت أصولها من السوق الروسية بينما لم تتزحزح أخرى قيد أنملة، وتشير الدراسة إلى أن السبب في هذا التباين قد يكون مرتبطاً بربحية الفرع الروسي.
في نهاية نوفمبر الماضي، لم تتعد نسبة الشركات التي صفَّت جميع استثماراتها في روسيا 8.5% من إجمالي الشركات التي تمارس نشاطاً تجاريًّا في روسيا، المدرجة في قاعدة بيانات أوربيس. أمَّا من حيث الأرباح فلا تُمثِّل أرباح الشركات المنسحبة من السوق الروسية سوى 6.5٪ من إجمالي أرباح جميع هذه الشركات. وتبيَّن أن الانسحاب بين صفوف الشركات العاملة في القطاعات التي تُدرُّ أرباحاً أكبر، مثل الزراعة واستخراج الموارد، كان أقل شيوعاً.
واستند الباحثان إلى هذه الأرقام لاستنباط أن “الشركات الغربية التي خرجت من السوق الروسية تبدي في المتوسط أداءً ضعيفاً من حيث الربحية”، وبالتالي قد لا تكون خسائرها المالية نتيجة انسحابها بحجم خسائر الشركات التي تحقق أرباحاً أكبر في روسيا.
وكشفت الدراسة أيضاً أن مقر الشركة الأم له دور مهم. فقد انسحبت 18% من الشركات الأمريكية التي تمارس نشاطاً تجاريًّا في روسيا. وفي المقابل، انسحبت 15% من الشركات اليابانية، أما الشركات الأوروبية فلم تتجاوز نسبة انسحابها 8.3%. وكان عدد الشركات الإيطالية التي ظلَّت تمارس نشاطها في روسيا أكبر من تلك التي خرجت من السوق الروسية. ويذكر الباحثان أن هذه النتيجة لا تعني بالضرورة أن الشركات الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية تتعرض لضغوطات أكبر من حكوماتها.
إذ تتعدد الأسباب التي تجعل 90٪ من الشركات لا تزال تمتلك أصولاً في روسيا. ويقترح الباحثان أن العديد من الشركات مستثناة من العقوبات، ويبدو أنها لا ترغب في التخلي عن عملائها وموظفيها الروس. فعلى سبيل المثال، لم تضع شركات الأدوية مثل روش ونوفارتيس خططاً لمغادرة روسيا لأن الأدوية مستثناة من العقوبات لأسباب إنسانية.
وفي تصريح لصحيفة “لوتون”، قال إيفينت إن الشركات لم تف بتعهداتها للخروج من روسيا، ليست بالضرورة شركات تفتقد المصداقية أو تتعمد المماطلة. فلقد واجهت بعض الشركات عقبات في بيع أصولها إذ “اتضح لها أن العثور على مشتر لشركتها كان معقداً أكثر مما توقعت، أو أن السلطات الروسية تقف في وجه عمليات التصفية المخطط لها”.
وتأتي نتائج الدراسة المشتركة بين جامعة سانت غالن والمعهد الدولي للتنمية الإدارية مُكمِّلة لنتائج دراسة أخرى أشرف على إجرائها جيفري سونينفيلد، الأستاذ في جامعة ييل. إذ وضع فريق الدراسة قائمة تُحدَّث باستمرار تتضمن إعلانات من الشركات التي تمارس نشاطاً تجاريًّا في روسيا. وبعد أنشطة التتبع التي نفَّذها فريق الدراسة، تبيَّن أن ألف شركة على الأقل أعلنت عن نيتها خفض أنشطتها في روسيا إلى حدٍّ أقل من الحدِّ المفروض قانوناً بموجب العقوبات. وفي حين أن قائمة ييل تنظر في جميع أنواع النشاط الاقتصادي في روسيا، تركِّز الدراسة المشتركة بين جامعة سانت غالن والمعهد الدولي للتنمية الإدارية على الاستثمارات في حقوق الملكية على شكل شركات تابعة، حيث تكون التصفية خياراً يتنجرّ عليه خسائر مادية أكبر.
ماذا عن الشركات السويسرية؟
رغم أن الدراسة المشتركة بين جامعة سانت غالن والمعهد الدولي للتنمية الإدارية لا تشمل الشركات السويسرية، إلا أن الباحثين يعتزمون إضافتها في تحديث مستقبلي. ووفقاً لبياناترابط خارجي نشرتها قناة الإذاعة والتلفزيون السويسري العمومي الناطقة بالألمانية ( SRF ) في يناير، بدأت الشركات السويسرية الكبرى مثل أي بي بي وهولسيم وليندت أند شبرينغلي في مغادرة روسيا.
وكانت تسع شركات سويسرية صرَّحت عن وضعها في روسيا استجابةً لطلب من قناة الإذاعة والتلفزيون السويسري العمومي الناطقة بالألمانية. من بينها شركتا سواتس وغبريت، لا تعتزمان مغادرة روسيا. وجاء على لسان المتحدث باسم شركة سواتش المصنعة للساعات “لا يزال لدينا أمل أن هذه الحرب الضارية ستنتهي. ولا يزال فرعنا (المملوك بالكامل لشركة سواتش) قائماً، وأبقينا على جميع موظفينا”.
وتضم قائمة ييل 44 شركة سويسرية، صرَّحت أربع منها أنها تعتزم مواصلة “العمل كالمعتاد” في روسيا، ولم تعلن عن نيتها تغيير مسارها. أما شركة نستله، الشركة الرائدة عالميا في المنتجات الاستهلاكية المعبأة، إلى جانب عملاقي الأدوية نوفارتيس وروش، فهي من بين الشركات الثماني التي “تشتري الوقت”، إذ أفادت تصريحاتها أنها تقيّم الوضع أو تؤجل الاستثمارات إلى حد ما، ولكنها لم تعلن عن نيتها الانسحاب الكامل. وكانت ثماني شركات قد أعلنت عن نيتها مغادرة روسيا، ولكن من غير الواضح مدى تقدُّمها في الانسحاب.
تحرير: فيرجيني مانجين
ترجمة: ريم حسونة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.