مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل تقلب شركة غوغل مدينة زيورخ رأساً على عقب؟

صورة لأبنية وسكك حديدية
مكاتب غوغل في زيورخ: مكان يضم 2400 من العاملين. Keystone

اتضح أن التحول الرقمي واللإدهار التكنولوجي يُغيّر وجه المدن. كما أن زحف الشركات التكنولوجية الناشئة يؤدي عادة إلى إبعاد الفنانين والحرفيين الصغار والأجانب عن مراكزها الحيوية. فهل يهدد مثل هذا السيناريو مدينة زيورخ أيضاً؟

وجه رجل متقدم بالعمر
“التطور له أثر بعيد المدى”: يقول نيكلاوس شير منتقداً. Keystone

بضمها لأكثر من 2400 من العاملين المنحدرين من أكثر من 85 دولة، تعتبر زيورخ اليوم أكبر مقر بحثي وتطويري لشركة غوغل خارج الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 2017 حصلت الشركة ـ إضافة لمقرها حتى ذلك الحين ـ على مكاتب جديدة تقع بمحاذاة محطة القطار الرئيسية تماماً. وبهذا وفرت الشركة مكاناً يُتيح لخمسة آلاف موظف بالعمل فيه.

كذلك فعلت كل من شركتي آبل وفيسبوك/أوكولوس، حيث حصلتا في الأشهر الأخيرة على مكاتب في مواقع بقلب مدينة زيورخ. وصحيح أن فرق العمل السويسرية التابعة لهذه الشركات العملاقة القادمة من وادي السيليكون (بولاية كاليفورنيا)، لازالت تعتبر صغيرة نسبياً، إلا أن جذب زيورخ للإقتصاد الرقمي قد ازداد بقوة في السنوات الأخيرة.

وكما هو الحال في مدن أوروبية أخرى، فإن الازدهار التكنولوجي يساهم في زيورخ كذلك بتغيير الأحياء السكنية التي كان يقطنها العمال في السابق. ويتضح هذا جلياً في شارع “لانغ شتراسه” في الدائرة الرابعة من عاصمة المال والأعمال في سويسرا، إذ بدأت الصناعات الصغيرة ومحال الطعام والشراب المتواضعة تفسح الطريق أمام محال بيع الهواتف المحمولة والمقاصف الأنيقة. كما بيعت البيوت القديمة، وجرى تحديث الشقق السكنية، ثم تم تأجيرها لأجانب ذوي دخول مرتفعة.

كذلك يستمر فيسبوك في التوسع..

منذ خريف عام 2016 وشركة التواصل الاجتماعي العملاقة فيسبوك حاضرة في مدينة زيورخ من خلال شركة “أوكولوس” التابعة لها. وقد بدأت هذه الشركة عملها في مكاتب تقع في شارع المحطة “بنهوف شتراسه” الشهير بمدينة زيورخ.

طبقاً للجريدة التجارية فإن ما جذب “تلك الشركات العملاقة نحو زيورخ كانت هي الخبرة الكبيرة، خاصة تلك التي يقدمها المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ فيما يتعلق بما يعرف بـ “الرؤية الحاسوبية”، أي تلك التقنيات التي تُمَكِّن الحاسوب والأجهزة من التعرف على بيئتها المحيطة والإهتداء بها”.

إلا أن عدد العاملين (بتلك الشركات) قد ازداد ـ وفقاً للصحيفة ـ بصورة هائلة في الفترة الأخيرة” “فبعد استحواذها على شركة “زيورخ آي” المنبثقة عن المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، كانت شركة “أوكولوس” تضم قبل عام واحد أكثر من عشرة من خيرة المطورين والباحثين ذوي التأهيل العالي. وفي الأثناء، أصبحت المكاتب الجديدة تأوي حوالي 35 شخصاً. إلا أنها تتسع إجمالاً لستين موظفاً.

وفي الوقت الحاضر يتم شغل ثلاثة وظائف إضافية كل شهر. “وحالياً هناك 14 وظيفة معروضة، منها بالطبع وظائف لخبراء في مجال “الرؤية الحاسوبية”، وكذلك أربعة مناصب أخرى لمن يقوم بإيجاد موظفين جدد”، بحسب تقرير الصحيفة التجارية.

“إن التطور الذي يشهده “طريق أوروبا” له أثر بعيد المدى على الحي الواقع في الدائرة الرابعة بأكمله”، كما يقول نيكولاس شير، والذي كان حتى عام 2009 يشغل منصب المدير التنفيذي لرابطة مستأجري زيورخ والعضو السابق للبلدية عن “القائمة البديلة”. وهو يعيش ويعمل منذ أكثر من أربعين عاماً في الدائرة الرابعة. 

فأسعار الأراضي هناك قد ارتفعت بمعدل يزيد عن الضعف منذ بداية الألفية. وبسبب الشقق والغرف المفروشة، أي ما يعرف بشقق رجال الأعمال، والتي تؤجر لفترات قصيرة للعاملين الجدد بالشركات العالمية الكبرى وللسياح، تم سحب مئات الشقق من سوق المساكن الاعتيادي في السنوات الأخيرة. ولكن هذا ليس ذنب الشركات التكنولوجية وحدها على أية حال، مثلما يؤكد شير.

احتجاجات ومقاهي مناهضة لغوغل

من ناحية أخرى، شهدت العاصمة الألمانية تفجر حالة الإحباط على خلفية الإيجارات الآخذة في الارتفاع وعمليات التطوير الحالية، وأخذ هذا التصعيد صورة احتجاجات شعبية صاخبة. ففي إبريل2018  خرج آلاف من الناس إلى الشوارع، محتجين على شركة “غوغل/ألفابيت”.

وجدير بالذكر أن شركة غوغل قد استقرت من خلال تمثيل صغير منذ فترة طويلة في برلين. وقبل عامين اتخذ القرار بإنشاء المقر المعروف بـ “كامبوس برلين” التابع لغوغل. ومن المتوقع أن يتم افتتاحه في الخريف القادم بحي كرويستبرغ. ويدير غوغل مقرات مشابهة في عواصم أخرى مثل لندن ومدريد وتل أبيب وسيول وساوباولو وفرصوفيا. وتعمل هذه المقرات في المقام الأول كمراكز وحواضن للشركات التكنولوجية الناشئة.

ولا يزيد عدد موظفي غوغل الذين سيعملون بمقر برلين فعلياً عن خمسة إلى عشرة موظفين. ويؤكد رالف بريمر، المتحدث الإعلامي لشركة غوغل أن الحوار مع المنظمات والجيران والشركاء قائم بهدف “تحقيق قيمة مضافة لحي كرويستبرغ بوجود هذا المقر فيه”.

سعادة للسياسيين.. وإحباط للمواطنين!

يرى الكثير من المواطنين أن هذا الأمر غير قابل للتصديق. “إنهم يخشون أن يتحول غوغل إلى عامل جذب للشركات التكنولوجية الناشئة من كل أرجاء العالم”، يقول فيلكس هارتنشتاين من معهد الاقتصاد والمدينة ببرلينرابط خارجي المعروف اختصاراً بـ “إنفيستا”، والذي يختص بتحليل تأثيرات الاقتصاد الرقمي على المدن. فقد تحولت برلين في العِقد الأخير إلى مركز أوروبي مزدهر للتكنولوجيا. فهناك مئات من الشركات الناشئة التي تؤسس هنا تطبيقات إلكترونية جديدة، وخوارزميات للعالم الإفتراضي ومحال تجارة أليكترونية على الشبكة العنكبوتية. وفي عام 2017 تم استثمار 3٬7 مليار دولار أمريكي في شركات ناشئة ببرلين. كما أن عشرين بالمائة من النمو الإقتصادي في العاصمة الألمانية قد تحقق – طبقاً لوزارة الإقتصاد الأمريكية – بفضل القطاع الرقمي.

بناء أمامه إشارة غوغل
مكاتب جديدة بمحاذاة محطة القطارات الرئيسية تماماً: ماذا سيجلب هذا التغلغل من قِبَل غوغل لمدينة زيورخ؟​​​​​​​ Keystone

وهذا من دواعي سرور السياسيين، بحسب تصريحات ميخائيل مولر، المحافظ الحالي لمدينة برلين الذي يرى في اهتمام صناعة التكنولوجيا بمدينته إيذاناً بازدهار اقتصادي. أما في زيورخ، فتعرب عُمدة المدينة وكذلك الزعماء السياسيون عن سعادة مشابهة بسبب نمو شركة غوغل بمدينتهم الواقعة على ضفاف نهر ليمّات، وكذلك بسبب استقرار الشركات التكنولوجية الناشئة بها. فالعاملون بمثل هذه الشركات يكونون في أغلب الأحيان شباباً، يحظون بتأهيل جيد وكثيري الحركة، كما يؤكد السيد هارتنشتاين. وكثيراً منهم لم يتزوجوا بعد، لذلك يمكنهم دفع الإيجارات الآخذة في الإرتفاع. أما الشركات الناشئة الشابة فتتفشى فيها ظروف العمل المتأزمة، ولا يكاد دخل الفرد فيها يكفي سوى لإيجار غرفة في شقة مشتركة. والنتيجة: ارتفاع الإيجارات في برلين ما بين عامي 2004 و2016 إلى أكثر من 70 بالمائة في المتوسط.

بيت يتم تهديمه
هدم البيت الأخير، الذي كان صاحبه يرفض هدمه عام 2016 في زيورخ: رمز لتلك المدينة المتبدلة. Keystone

ضحية ابداعهم الخاص

أما الخاسرون فهم أولئك الناس ذوي الدخول المنخفضة، ومنهم الكثير من المهاجرين وأبناؤهم. كما يضاف إليهم الراقصون والممثلون والموسيقيون ومن يتقنون فن التكيّف مع الواقع، الذين كان يجتذبهم التنوع وموضة الأناقة الرثة والإيجارات الرخيصة للورش الفنية والمساكن. “فقبل عشر سنوات فقط، حاول البعض إنشاء اقتصاد ابتكاري في برلين بصورة مقصودة”، يقول هارتنشتاين. “لكن هاهي الشركات التكنولوجية الناشئة تبتلعه الآن”.

الكثيرون ممن نزحوا إلى هنا بعد إنجاز الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية، شعروا بأنهم طعنوا من الخلف: “فالمدينة التي ساهموا في بنائها خلال سنوات طويلة، تقوم الآن شركات مثل غوغل باستهلاكها وامتصاصها”. أما شريكه في العمل هانزـ هيرمان ألبيرس فيُكمل قائلاً: “فبسبب تدفق رأس المال الجديد والهائل أصبحت المدينة الآن كفضاء ديمقراطي على المحك. فالناس يشعرون أنه يُضَيق عليهم الخناق ويلاحظون أن حقوقهم تُقَلص”.

يضاف إلى ذلك، أن غوغل ليست كأية شركة أخرى. لقد كثر الحديث حول تهربها من الضرائب، كما أنها تمثل – بالنسبة للكثيرين – تجسيداً لأخطبوط بيانات، يتاجر في البيانات الشخصية لمستخدميه ولا يأبه كثيراً بحماية البيانات وبالخصوصية. بل إن ذلك العملاق التكنولوجي (في عام 2017، بلغت أرباحه 110 مليار دولار أمريكي) يتدخل مع شركة “سايدواك لابس” في تخطيط المدن بفعالية.

ففي تورنتو الكندية ستقوم تلك الشركة المنبثقة عن غوغل بمشاركة إدارة المدينة في تطوير أرض مساحتها 325 هكتاراً بالقرب من مركز المدينة مباشرة، بهدف تجريب جميع التقنيات الرقمية للمدن الذكية.

“نحن نعاصر حالياً نوعاً من الثورة الارتدادية على التكنولوجيا لدى الكثير من الناس”، يقول هارتنشتاين. “حيث يتخذون من شركات تكنولوجيا المعلومات الكبرى وخططها موقفاً متشككاً باطراد. من هذه الناحية تصبح شركة غوغل بالطبع رمزاً لذلك العداء، إذ ينعكس عليها الكثير من ذلك النقد”.

صناديق دعم الأحياء وضرائب على التكنولوجيا

أما إلى أي مدى يمكن لشركات التكنولوجيا العملاقة أن تغيّر وجه إحدى المدن، فهذا ما يظهر من خلال نموذج سان فرانسيسكو. فهناك أدى ارتفاع أسعار العقارات إلى نزوح السكان الأصليين عنها (آنظر الإطار المصاحب). “إن سان فرانسيسكو بمثابة نصب تذكاري”، يقول آلبرس. لذلك فإن كلا الرجلين آلبرس وهارتنشتاين ـ وهما من مؤسسي معهد “إنفيستا” ـ يدعوان إلى تنبيه الشركات إلى مسؤولياتها، كي تخفف من التبعات الاجتماعية لتمركزها في المدن الأوروبية.

بذلك استطاعت بعض الشركات التكنولوجية الكبرى ـ بحسب قول آلبرس ـ إنشاء صناديق لدعم الأحياء على سبيل المثال. ويقوم مجلس من المواطنين بإدارة تلك الصناديق وشراء عقارات من خلالها، بهدف توفير أماكن للصناعات الصغيرة وللمساكن الرخيصة. “لكن هذا يحتاج إلى وعي، كي ندرك أنه بسبب تدفق رأس المال الجديد وبسبب العاملين من ذوي الدخول المرتفعة، قد فسد شيء ما داخل المدن”.

هناك وسيلة أخرى لمجابهة هذا التطور، ألا وهي “الضرائب على التكنولوجيا”، بحسب قول آلبرس وهارتنشتاين. فمدينة سياتل الأمريكية على سبيل المثال تريد إشراك شركة “أمازون” في مكافحة التشرد المتزايد نظراً لمسؤولية هذه الشركة نحو المجتمع، وهذا عن طريق فرض ضرائب بعينها على تلك الشركة. فالعوامل المحيطة بمواقع تلك الشركات قد تصبح ذات قيمة لشرائح واسعة من المجتمع وليس فقط للمستثمرين والسياسيين.

بيت مرسوم عليه بالطلاء
أدى إضفاء الشرعية على البيوت المهجورة التي تم شغلها من غير أصحابها إلى تهدئة الوضع في زيورخ. منطقة كوخاه. Keystone

حتى الآن لم تحدث أية مظاهرات احتجاجية ضد غوغل أو الشركات التكنولوجية الناشئة في زيورخ. فقد مضى على آخر مظاهرة كبرى نظمتها الأحزاب اليسارية واتحاد المؤجّرين والمستأجرين تحت شعار “مدينة زيورخ، لمن؟” خمس سنوات بالفعل. ويرجع هذا الأمر في رأي نيكلاوس شير بالأساس إلى أن المدينة قد استطاعت “تهدئة” المستأجرين عن طريق الشَغل المقنن لمساكن في أطراف المدينة.

وبحكم أن الحكومة المحلية ذات التوجّه اليساري تبحث عن حلول سياسية واقعية، لذلك فإنها تحاول تعويض المساحة السكنية الرخيصة التي فُقدت في قلب المدينة من خلال إنشاء تجمعات سكانية ذات نفع عام في الأحياء الأبعد. أما آحتمال وجود فرصة لكبح جماح هذا التطوير الذي يجري في قلب المدينة أو حتى وقفه، فهو ما يبدو أن أحداً لم يعد يعتقد بإمكانية تحققه في زيورخ، بعكس ما يحدث في برلين.

حتى الآن، تعد سان فرانسيسكو النموذج الأكثر ضراوة للتطوير الذي أحدثته الشركات التكنولوجية الكبرى: فالشركات المتمركزة في منطقة خليج سان فرانسيسكو، مثل فيسبوك وآبل وغوغل، تقوم بدفع رواتب عالية لأصحاب الخبرات المميزة من كل أنحاء العالم. إلا أن هؤلاء لا يريدون السكن في الضواحي الممتدة خارج المدينة مثل “مينلو بارك” أو “بالو آلتو”، وإنما في قلب مدينة سان فرانسيسكو.

فالتمدد الحضري من جهة وتاريخ المدينة المليء بالأساطير من جهة أخرى، كلاهما يتنافس لإثبات جدارتهما في الفوز بسكنى المواهب الأفضل بهما. والنتيجة: أن أصبحت الأراضي في سان فرانسيسكو هي الأكثر ارتفاعاً في كل الولايات المتحدة حالياً. أما الموظفون الذين لا يحظون بوظائف في مجال التكنولوجيا تضمن لهم رواتب عالية، فإنه يتحتم عليهم تحمل مشقة قطع طريق إلى مقر العمل قد يصل إلى ساعتين وأكثر، لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل نفقات المعيشة في قلب المدينة.

في ذات الوقت، بدأت الأسر تختفي بصورة متزايدة من وجه المدينة، حيث أن نسبة السكان من الأطفال دون الثامنة عشرة في سان فرانسيسكو تعد هي الأدنى على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي 13%. بل إنه وفي شوارع رئيسية مثل “هاريسون ستريت” يعيش أناس داخل خيام في الشارع، بعد طردهم القسري من منازلهم. ويقوم المتضررون برشق حافلات غوغل بالحجارة، وهي وسيلة النقل التي تستخدمها الشركة لنقل موظفيها يومياً من سان فرانسيسكو إلى “بالو آلتو”، حيث يوجد مقرها الرئيسي.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية