مركزٌ بحثي يجمع فرقاء العلم والسياسة في الشرق الأوسط
ينتظر الخبراء أن يبدأ "مركز ضوء السنكروترون للعلوم التجريبية والتطبيقات في الشرق الأوسط" في استعمال حزم الإشعاع المكثف، الناتجة في مجالات العلوم المختلفة، اعتبارًا من شهر مايو 2017. هذا المشروع يُشكل سابقة في منطقة الشرق الأوسط على المستويين العلمي والسياسي.
على بعد 35 كيلومترًا، شمال غرب العاصمة الأردنية عمان، وبالتحديد فى مدينة علان، بمحافظة البلقاء، بالمملكة الأردنية الهاشمية، يجري الإنتهاء من إنشاء أكبر مركز للبحث العلمي في منطقة الشرق الأوسط، وهو “مركز ضوء السنكروترون للعلوم التجريبية والتطبيقات في الشرق الأوسط”رابط خارجي، المسمى اختصارًا “سيزامي” (SESAME)، والذي كان مقررًا أن يبدأ العمل بتسريع إلكترونات، في حلقة قطرها 133 مترًا، في نهاية شهر ديسمبر 2016، لكنه تأجل بسبب تأخر الدول المؤسسة والمراقبة، عدا الأردن وتركيا، في سداد التمويلات المادية والحصص السنوية المقررة، بعدما سبق أن تعطل انطلاقه عقب مقتل فيزيائيين إيرانيّين، من بين أعضاء المجلس الخاص بالمشروع، في هجومين بسيارتين مفخختين عامي 2009، و2010.
المشروع انطلق إثر اقتراح تقدم به هلمان وينيك، أستاذ الطبيعة بجامعة ستانفورد الأمريكية، بأن يهدي معمل “بيسي” بألمانيا، جهاز سينكروترون، ذا طاقة 800 مليون إليكترون فولت، إلى دول الشرق الأوسط، للمساهمة في تطوير الأبحاث في العلوم التجريبية في بلدان المنطقة. وكان من المفترض أن يكون هذا الجهاز في جامعة القاهرة، لكنها لأسباب غير معلومة رفضت استضافته، فتقرر إقامته بالأردن.
وفي هذا الصدد، علق الخبير النووي المصري، الدكتور كريم الأدهم، الرئيس الأسبق لمركز الأمان النووي، على ذلك بقوله: “إذا صح ما يتردد عن أن جامعة القاهرة رفضت استضافة المشروع، فإنها تكون أخطأت، وكان لابد عليها أن ترجع لأهل الإختصاص، من العلماء المتخصصين”، مشيرًا إلى أن “وجود مشروع كهذا في مصر كان سيعود عليها بالخير الكثير”.
للعلم حسابات مختلفة عن السياسة
وفي تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch، أضاف الأدهم أن “منطقة الشرق الأوسط، بصفة عامة، ومصر بصفة خاصة، في حاجة ماسة لهذا المشروع، والذي ينتظر أن يعود عليها بالخير الكثير، خاصة في أبحاث الطب، والطاقة، والبيئة والآثار، والأبحاث العلميّة البحتة في الكيمياء والفيزياء”، معتبرًا أنه يمثل نقلة علمية وحضارية كبيرة للشرق الأوسط..
الخبير النووي أشار أيضا إلى أن مثل هذه المشروعات العلمية، تساهم في ترميم العلاقات بين الدول المتنازعة، حيث تجمع بين طياتها العلماء والباحثين من الدول المؤسسة للمشروع، والمشاركة فيه، والداعمة له، وهو ما يُمكن أن يساعد على إذابة الخلافات القائمة بين بعض الدول، مؤكدًا أنه “عندما يلتقي العلماء والباحثون على طاولة البحث العلمي، فإنهم لا يحسبون الأمور بحسابات السياسة”.
في السياق، أوضح الأدهم أن “مصر لديها عدد كبير من العلماء والباحثين، في مختلف المجالات، وتمتلك فريق عمل كامل مستعد للمشاركة في إنجاح هذا المشروع، الذي يُمكن اعتباره المشروع القومي لمنطقة الشرق الأوسط، والذي يجب أن تلتف حوله الدول والحكومات”، ملفتا إلى أن “عددًا غير قليل من الباحثين المصريين، تلقوا التدريبات اللازمة، في اليابان وروسيا وألمانيا وغيرها من الدول ذات الخبرة في هذا المجال”.
تفاصيل تقنية
المشروع فيزيائي نووي، وهو عبارة عن جهاز يجعل الإلكترونات تتحرك حول أنبوب دائري، عن طريق القوة المغناطيسية، وغيرها من المعدات، والتى تجعلها قريبة من سرعة الضوء، وهكذا يتولد الإشعاع الذى تم تصفيته، ويتسبب فى تدفق خط الأشعة.
ينتج المشروع أشعة السنكروترون، ويُعَد نوعًا خاصًّا من مسرعات الجسيمات، لتصل إلى سرعة قريبة جدًّا من سرعة الضوء، ويمكن استخدام أشعته في تطبيقات مختلفة، تخدم في حقول الطبّ، وأبحاث الطاقة والبيئة والآثار، والأبحاث العلميّة البحتة في الكيمياء والفيزياء.
يوضح الخبراء المختصون، أن هناك فرق بين السنكروترون والسيكلوترون، فعلى الرغم من أن كليهما من المُعجّلات، إلا أن السنكروترون يقوم بتعجيل الجسيمات المشحونة، لكى تقوم بعمل تفاعل نووى، أما السيكلوترون فيقوم بتعجيل الإلكترونات، حتى يأخذ منها شعاعًا من الضوء بشدة عالية، لدراسة المواد من الداخل، ورؤية حركة الجزيئات بداخلها.
كما يمكن استخدام ضوء السنكروترون، فى مجالات متعددة، بالإضافة لدعم التعاون العلمى، وتبادل الخبرات بين العلماء والباحثين، من منطقة الشرق الأوسط، وأقرانهم فى المراكز البحثية العالمية.
أول منشأةٍ من نوعها بالشرق الأوسط
في الواقع، يُعدّ “سيزامي”، أول منشأةٍ من نوعها في المنطقة، وأول مؤسسةٍ بحثيةٍ دوليةٍ حكوميةٍ تُنشأ في الشرق الأوسط، وقد جاء المشروع بمبادرة من الحكومة الألمانية، التي أهدت القائمين عليه سنكروترونًا صغيرًا، تم تطويره، وإدخال التوسعات الجديدة عليه، كما ينتظر أن يكون المشروع مصدر الجيل الثالث من الضوء.
ولم تكن فكرة المشروع، الأولى من نوعها، حيث أقامت الدول الأوروبية، المركز الأوروبى للأبحاث النووية “سيرن”، التابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، والتي أُنشئت في جنيف، على الحدود الفرنسية السويسرية، عام 1952، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لجمع فُرَقاء أوروبا المتحاربين، تحت مظلة علمية تخدم في أغراض السلم، بدلًا من التناحر.
ويقدم المشروع القديم “سيرن”، الدعم الكامل، ماليًا وعلميًا للمشروع الجديد “سيزامي”، الذي تم إنشاؤه عام 2002، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، بهدف نشر ثقافة السلام من خلال التعاون الدولي في مجال العلوم، ومد جسور علمية وثقافية بين المجتمعات المختلفة، وذلك من خلال السماح للباحثين بالعمل معًا والتعاون في منطقة يُعتبر التعاون فيها محدودًا جدًّا على مستوى الأبحاث المتقدمة.
دول مؤسسة وأخرى مراقبة وداعمة
للمشروع الجديد، أعضاء مؤسسون، وأعضاء مراقبون وداعمون، أما المؤسسون فهم: إيران وباكستان وإسرائيل وتركيا وقبرص ومصر والسلطة الفلسطينية والأردن والبحرين. أما الأعضاء المراقبون والداعمون والرعاة فهم: سويسرا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا واليابان والكويت والبرتغال وروسيا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إضافة إلى هيئات دولية مثل اليونسكو.
وعلى الرغم من وجود خلافات سياسية ودبلوماسية بين بعض الدول الأعضاء، إلا أن المشروع جمع علماء هذه الدول تحت مظلة العلم الذى يقرب بين الشعوب، تمامًا كما وُلدت “سيرن” في وقت كانت تعاني فيه الدول الأوروبية من توترات سياسية، سببتها الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة، قبل أن تنجح المنظمة في تخطي كل تلك الصعوبات، وتخلق مناخًا إيجابيًّا تسوده لغة العلم والسلام.
يمثل المشروع حالةً فريدةً من التعاون الدولي، فبعد أن تبرعت ألمانيا بجزء من الأدوات الرئيسية للمشروع، تبرعت كل من سويسرا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وتركيا وباكستان وقبرص وإيطاليا بالعديد من المعدات لإنجاح المشروع. فقد قدمت تركيا 280 ملفًا لرباعيات الأقطاب التي صُنعت في إسبانيا، بينما جاءت ثنائيات الأقطاب من المملكة المتحدة، وإمدادات الطاقة الخاصة بها من إيطاليا، فيما وفرت سويسرا أجهزة التحكم، والمزيد من إمدادات الطاقة.
“دبلوماسية العلم” في مواجهة التحديات
يشار إلى أنه في أول يومين من شهر ديسمبر 2016، عُقِدَ في عمّان، المنتدى الإقليمي لدبلوماسية العلوم والتكنولوجيا، تحت عنوان: “نحو شراكات تحويلية شاملة من أجل مستقبل مستدام”، وشارك في تنظيمه كلٌ من الجمعية العلمية الملكية في الأردن، ومؤسسة البحث والتطوير المدني الدولية ومركز الإسكوا للتكنولوجيا.
وخلص المشاركون في المنتدى، إلى أن “دبلوماسية العلم”، ووضع خريطة طريق لها، هو الحل الأمثل لتعزيز دور العلم والعلماء في الإقليم؛ بغية إيجاد حلول تنموية للتحديات المشتركة وتحسين واقع الشعوب.
من جانبه؛ قدم رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية، الدكتور خالد طوقان، مدير عام المركز، تصورًا بمراحل إنشاء المركز، والمهام التي سيقوم بها، وقال إنه سيتم تشغيل هذا المشروع “تجريبيًا” في نهاية عام 2016، بخطين ضوئيين أحدهما أشعة تحت الحمراء، والآخر الأشعة السينية.
ولفت “طوقان”، إلى أن التكلفة المالية التي صُرِفَت على المشروع حتى اليوم، بلغت 72 مليون دولار، من إجمالي التكلفة اللازمة للمشروع، والمقدرة بــ حوالي 125 مليون دولار. بينما تبلغ الموازنة التشغيلية السنوية للمركز 2.3 مليون دولار، وترتفع بشكل مطرد لتصل إلى نحو 5.3 ملايين دولار، في منتصف عام 2017، عندما يبدأ العمل فيه بشكل كامل.
الجهاز يمثل أحدث تقنية علمية
الدكتور خالد طوقان أضاف أنه تم بناء مختبر “سيسامي”، اعتمادًا على تجهيزات أساسية، تم تصديرها من ألمانيا إلى الأردن، ومن ثم استكمالها ببناء مختبر علمي متطور ومتقدم، وقد تم تركيب المرحلة الأولي لإنتاج الشعاع الضوئي، بالتعاون مع مركز سولي Soleil الفرنسي للسنكروترون.
في هذا الإطار، يمثل الجهاز أحدث تقنية علمية للتعرف على التركيب الداخلي للمواد، ورصد حركة الجزيئات أثناء التفاعلات، وتصويرها بالأبعاد الثلاثية، وبذلك يمكن أن يُسهم في إجراء وتطوير الأبحاث في مجالات الصيدلة والبيولوجيا والفيزياء والزراعة والبيئة.
ومن أهم مجالات الأبحاث التي اقترحها الجانب المصري، دراسة التركيب البيولوجي للبروتينات اللازمة لصناعة الدواء وإعداد العقاقير اللازمة للأمراض المنتشرة بالمنطقة مثل فيروس سي والسكر وغيرها.
أخيرا، يتيح المشروع الفرصة للباحثين والعلماء في دول المنطقة للإستفادة من إمكانيات الجهاز بالتساوي، حيث تستطيع كل الدول المشاركة تشغيله باشتراكات مادية، كما تم ربطه بالمراكز البحثية العالمية المماثلة في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان.
قالوا حول المشروع
كريس سميث، رئيس مجلس إدارة “سيزامي”: “إتمام المشروع خطوة تاريخية نحو “دبلوماسية العلم”؛ وهو الجهة الوحيدة خارج الأمم المتحدة التي تضم ممثلين من إسرائيل وإيران”.
الأميرة الأردنية سمية بنت الحسن، إحدى الداعيات إلى المشروع: “له جوانب سياسية بالإضافة لجوانبه العلمية، فهو مركز تجريبي في عدة جانب، ويسهل محادثات حول التعاون نادرًا ما نسمع عنها في منطقتنا رغم أننا نحتاجها بشدة”.
الدكتور خالد طوقان، رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية، ورئيس المركز: “من المتوقع أن تخفِّف هذه المنشأة من وتيرة هجرة العقول النيرة إلى خارج المنطقة، وتعزِّز التعاون بين المجتمع العلمي ومجال الصناعة، كما قد تخلق فرصًا للباحثين الذين يفتقرون إلى الأموال اللازمة التي تضطرهم لمغادرة الشرق الأوسط”.
د. طارق حسين، منسق الشبكة القومية للبحوث النووية: “مصر كونت فريقًا بحثيًا، لتنفيذ بعض المشاريع البحثية لإنتاج الأنسولين من مواد نباتية، ومقارنته بالأنسولين المستخدم حاليًا، بالتعاون مع تركيا وباكستان واليابان، وبحث آخر لإنتاج عقار لعلاج فيروس سي، وهي أبحاث لا تستطيع أي دولة بمفردها القيام بها”.
ويليام كولجلازير، مستشار وزير الخارجية الأمريكي سابقًا للعلوم والتكنولوجيا: “السياسي لا يستطيع العمل على حل كل المشكلات بمفرده، ومعظم التوترات التي تشهدها بلدان الإقليم تعود لأسباب تنموية، يستطيع العلماء إيجاد حلول لها بالتشارك مع السياسيين، إذا أرادوا ذلك”.
كاثلين كامبل، الرئيس والمدير التنفيذي لمؤسسة البحث والتطوير المدني الدولية: “المشروع يستهدف تعزيز ثقافة التواصل بين العلماء، ووضع برامج لتبني شباب العلماء لتطوير قدراتهم، وبناء الثقة مع صانعي القرار، لمشاركتهم في عملية صنع القرار؛ لمواجهة التحديات الإقليمية المشتركة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.