مسرح مارلام بزيورخ… احتفاء مستمر بالتنوّع والتعدّد
منذ ثلاثين سنة، لم ينقطع مسرح مارلام بزيورخ عن معالجة موضوعات مثل العولمة، من حيث الفرص، والمخاطر، والهجرة، والعنصرية، والخوف المرضي من الآخر. وعادة ما يعكس إنتاجها متعدد اللغات، رؤى وأنماط تفكير مختلفة. وما مسرحيات "لا في الجنة ولا في النار"، و"مسك الغزال"، و"شهرزاد الآن"، و"كم من بحار بيننا"... إلا أمثلة معدودة من ضمن سلسلة طويلة من الأعمال الهادفة والجادة.
هذه الحصيلة الجيّدة يعود الفضل فيها بالأساس إلى بيتر براشلر، أحد المؤسسين المشاركين لهذا المسرحرابط خارجي، وقد أنجز حتى الآن أزيد من 30 عملا مسرحيا حول ظواهر مجتمعية متعددة حول الإسلام وتأويلاته المتعددة، والحب والخيانة في سياقات ثقافية متباينة، والمجتمعات المحافظة ومكبوتاتها، من خلال التركيز خاصة على القضايا التي تهم سويسرا والشرق الأوسط. وبالفعل، يُعتبر براشلر، أهم مسرحي سويسري يمتلك تجربة في مجال الإنتاج الفني المشترك مع جهات في العالم العربي.
من العالم القروي إلى العالم القرية
يشرح براشلر خلال مقابلة أجرتها معه swissinfo.ch في مكتبه بزيورخ الأسباب التي قادته إلى امتهان فن المسرح فيقول: “نشأت في قرية صغيرة بكانتون شفيتس، وليس في مدينة أو مركز حضري كبير. أعتقد أن هذيْن المعطيين مهمّان جدا فيما يخص المسرح”. ثم يوضّح ذلك قائلا: “في القرى الصغيرة تُسرد الكثير من القصص، الجزار يفعل كذا، والقسيس يتصرّف بذاك الشكل، والمدرّس،.. وهذه تحب ذاك، وهكذا تُقصّ الكثير من الحكايات”.
مارلام
هو أوّل مسرح متعدّد الثقافات في زيورخ وفي سويسرا ينشط منذ ثلاثة عقود. وهو عبارة عن شبكة متخصصة في الإنتاج المسرحي العابر للحدود وبالتعاون مع مسرحيين من خلفيات ثقافية مختلفة. وهذا المسرح ليس له أي لون ديني أو سياسي، وهو يشرف على العديد من المشاريع داخل سويسرا وخارجها. ويحرص على أن يكون في تواصل مباشر مع الجمهور في فضاءات صغيرة او كبيرة داخل سويسرا او خارجها. ويوجد المقرّ الرئيسي لمارالام في زيورخ.
لكن في نفس الوقت يواصل براشلر: “في القرية الصغيرة توجد مفارقة: من ناحية، هناك رقابة اجتماعية كبيرة، ومن ناحية أخرى، لا شيء يخفى عن أعين الناس”. وفي الواقع، في فترة الخمسينات والستينات، التي شهدت ولادة ونشأة بيتر براشلر، لم يكن هناك الكثير من وسائل الإلهاء كاليوم، فلا شبكة عنكبوتية، ولا هواتف نقالة”. فكيف أمكن لشاب يعيش في قرية بكانتون شفيتس المعروف بمحافظته وانغلاقه عن نفسه أن يكون اليوم بهذا الإنفتاح عن العالم وعن الثقافات الأخرى؟
قبل انبلاج فجر العصر الرقمي، كانت هناك وسيلتان للتواصل مع الخارج انطلاقا من العالم القروي: الراديو والكتابة: وعن الدور الذي لعبتاه هاتان الوسيلتان في مسيرته، يقول براشلر متحدّثا إلى swissinfo.ch: “أوّل تواصل لي مع العالم العربي كان دائما خلال الليل حينما كنت أتجوّل بين المحطات الإذاعية فتأتي أصوات غناء كنت أنجذب لسماعها، كان بالنسبة لي عالم غريب، وكنت أعرف أن هذا هو العالم العربي”. وأما الكتابة، وخاصة الكتابة الأدبية “فلم تكن أقلّ أهمية في حياتي، يضيف مدير مسرح مارالام، فالأدب يجعل الإنسان منفتحا على ثقافات أخرى، ليس فقط الثقافة الألمانية (التي نحن في تماس مباشر معها)، ولكن أيضا على الثقافات الأخرى كالروسية والفرنسية،..”.
مارلام .. باني الجسور
بعد خروجه من كانتون شفيتس وإلتحاقه بكانتون زيورخ، حيث درس فن المسرح في أكاديمية التمثيل هناك، وهي أعرق مؤسسة في مجالها في المناطق الناطقة بالألمانية، والتي تحوّلت الآن إلى المدرسة العليا للفن، لاحظ براشلر انعدام وجود أية مؤسسة ثقافية، لا على مستوى زيورخ فحسب بل حتى على المستوى الوطني، متخصصة في معالجة ظواهر العولمة، والهجرة، والإندماج، والعنصرية، والعيش المشترك، وحتى البعض منها الذي يتطرّق إلى هذه القضايا فيقدّمها من منظور متحيّز وأحادي الجانب، وبالنهاية هو يقدّمها بشكل نمطي يرضي ما يحمله من أفكار مسبقة عن الآخر، أكثر مما يعكس الحقيقة.
أما بالنسبة لبيتر براشلر وزملاؤه الذين شاركوه في تأسيس مسرح مارلام (كلمة متروك لكل شخص تحديد دلالتها) فالمسألة أعقد من ذلك، فهم يشاطرون إدروارد سعيد، المفكّر المسيحي من أصل فلسطيني، الذي يرى أن من يكتب القصة أو السيناريو يصيغ حقيقتها بالطريقة التي تتماشى مع مصالحه وهواه، وكان هذا الأخير يضرب مثالا على ذلك بالقول: “حينما يتحدّث الجزائريون عن حرب التحرير، فإنهم يحكون قصة غير التي يحكيها الفرنسيون عن تلك الحرب”. وهنا يقول براشلر: “نحن أيضا في مسرح مارلام قلنا إنه يجب علينا أن نتعامل مع أشخاص مختلفين ومن منظور مُغاير، وألا تكون رؤيتنا بعيون سويسرية أو أوروبية فقط مادامت المواضيع التي نعالجها تمس عوالم أخرى”.
إنه وعي حاد ومبكّر بأن كلّ خطاب وكل عمل إبداعيّ هو في النهاية ممارسة للنفوذ والسلطة، وربما تكون سلطة الخطاب أشدّ أثرا من سلطة المال.
لا غرابة بعدئذ إن وجدنا لاجئا من أصل تاميلي على قائمة المؤسسين، وممثلين في نفس المسرحية من أصول ثقافية مختلفة، ويتكلّمون خلال الأداء بلغات متباينة، وكتاب قصص وسيناريوهات من بلدان وعوالم مختلفة كما حصل مؤخرا مع مسرحية “كم من بحار بيننا” التي تعالج مسألة “الهجرة غير الشرعية” بالنسبة للبعض، و”الحرقة” بالنسبة للبعض الآخر، حيث استندت المسرحية إلى نصيْن، واحد من منظور الجنوب (تونسي)، وآخر من منظور الشمال (سويسري)، والشيء نفسه نجده في المسرحيات الأخرى كمسرحية “لا في الجنة ولا في النار”. فكل أعمال مسرح مارلام تنهل من أكثر من معين وتعكس أكثر من منظور.
أعمال لفتت الأنظار
رغم التزام هذا المسرح وانضباطه للمفاهيم والمقاربات التي تأسّس عليها، فإن الظواهر التي عالجها تعدّدت وتنوّعت بحسب المرحلة وبحسب الجمهور المستهدف وربما أيضا وفقا لما كان متاحا.
من بين هذه الأعمال مسرحية “لا في الجنّة ولا في النار”، والتي تدور حول الإسلام ومدارسه المتعددة. وعن دوافع طرحه لهذا الموضوع، يقول براشلر: “كان هذا الموضوع مطروحا للنقاش في حينه، وأيضا لأنه جاء بعد مرحلة أقمت فيها في الشرق، ولاحظت هناك أن الخلفية الدينية حاضرة بإستمرار، وثالثا لأن الدكتور علي الشلاه سبق أن بدأ العمل حول هذا الموضوع، وكان في تواصل مع العديد من الأدباء والكتاب، وقد سمح لنا كل ذلك بإنتاج عمل أصيل وجديد لم تعرفه سويسرا من قبل”. ويمكن القول إن هذه المسرحية هي عبارة عن سرد “لتجارب مشتركة” عن ماهية الإسلام. وتشكّل هذا العمل من خمسة مشاهد كتب نصوصها خمسة مؤلفين مختلفين، وأدتها ثلاث ممثلات: عراقية وسويسريتان.
المزيد
سرديات “تجارب مشتركة” حول ماهية الإسلام
موضوع آخر ومعالجة أخرى ويتعلّق الأمر هذه المرة بظاهرة “الهجرة غير الشرعية” وفقا لمنظور الشمال و”البحث عن مستقبل أفضل” وفقا لمنظور الجنوب، وللتعبير عن هذا التباين بين العالميْن والذي لا يزيده الزمن إلا اتساعا، كان عنوان هذه المسرحية “كم من بحار بيننا“. تتشكّل هذه التجربة الفنية من عدّة طبقات تهدف بحسب منتجيها إلى “إطلاق حوار يتمّ فيه، من خلال الكلام والأداء فوق الركح، توضيح أنماط مختلفة من وجهات النظر ومن التجارب من ناحية، وإطلاق دعوة إلى التأمّل والتفكير في الدلالات والرسائل والنتائج التي انجرّت ولا تزال عن تسونامي الأحداث المتسارعة التي عاشتها وتعيشها ضفتا البحر الأبيض المتوسّط من ناحية أخرى”.
وقد أنجز هذا العمل بالتعاون بين جهات تونسية وأخرى سويسرية، واستند إلى نصيْن، واحد كتبه الفكاهي التونسي، عون البغدادي، وآخر كتبه الفيلسوف السويسري رولان ميرك، وكل ذلك تحت أعين ورقابة مهندس الإخراج والمدافع القوي عن التسامح والحوار بين الشمال والجنوب بيتر براشلر. وقد ساهم في الأداء فوق الركح كل من مهران مهداوي (سويسري من أصل إيراني)، والمبدعة السويسرية ميرات بودامير.
لكن مارالام لم تغفل بقية القضايا الإنسانية عموما كمسألة الحب والخيانة، وظاهرتي الكبت والإغتراب. وقد أنجزت في هذا الباب العديد من الأعمال الفنية بالإشتراك مع العديد مؤسسات في بلدان عربية. ومن هذه الأعمال مسرحية “مسك الغزال”، التي أنتجها مسرح مارلام بالتعاون مع مسرح عشتار الفلسطيني وبدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية بروهلفيسيا، وكتبت نصها حنان الشيخ، مؤّلفة عربية من لبنان، وتُرك الأداء فوق الركح إلى مجموعة من الممثلات الفلسطينيات اللواتي أدّيْن في نفس الوقت دور النساء والرجال. وقد عالج هذا العمل ظواهر مثل الفراغ الروحي، والإغتراب، والذكورية، وانتقاص حقوق المرأة العربية، وكذلك سلّط الضوء على التناقضات الذاتية التي تنخر المجتمع الفلسطيني والمغيّبة بحجّة الصراع ومقارعة الاحتلال.
المزيد
عندما تكون المرأة العربية ضحية المسلّمات والمحرّمات
أما العمل الآخر والحريّ بالتوقّف عنده، فهو مسرحية “شهرزاد الآن”، عمل يتكوّن من جزئيْن، قدّم الجزء الأوّل في إيفيردون (كانتون فو) في إطار الإحتفال بعيد ميلاد سويسرا السبع مائة، ثم في كانتون شفيتس في إطار فعاليات تتعلّق بالأجانب،. أما الجزء الثاني فقد عرض في إطار مهرجان المسرح بالقاهرة.
المسرحية تعالج مسألة الحب والخيانة، وهو موضوع لا يخلو من إثارة، ولا يترك أحدا على الحياد. أما سيناريو القصّة في جزءه الخاص بسويسرا، فيروي كيف أن صحفية عربية هي ياسمين كنعاني جاءت إلى سويسرا لتحقق في عملية قتل غامضة كانت ضحيتها إمرأة من أصل عربي قتلت على يد زوجها السويسري. وقد حدثت هذه الجريمة في نزل بسويسرا. لكن الصدفة أرادت أن تلتقي الصحفية العربية مع زوجها السابق في نفس الفندق، وكانت ترافقه أيضا زوجته الثانية، وكان بالإمكان حسب بيتر براشلر تسمية هذه المسرحية “رجل بين امرأتيْن”.
وبالنسبة للجزء الذي عرض في مصر، فقد صور شهرزاد في وضع المرأة العربية المقهورة المغلوبة على أمرها. وفي الحالتيْن، تعرّضت هذه المسرحية إلى النقد في الشرق والغرب، فعلى صفحات “نويه تسوخر تسايتونغ”، رأى أحد النقاد أن المسرحية تجعل قوّة المرأة متوقّفة على جمالها فقط، بينما رأى ناقد عربي على صفحات صحيفة الشرق الأوسط أن المسرحية “حوّلت كل إمرأة عربية إلى ذات مقهورة تستحق أن نطلق عليها إسم شهرزاد”.
تجربة رائدة .. في مواجهة تحديات جديدة
منذ نشأته، كان الهاجس الذي يحرّك مسرح مارلام هو تسليط الضوء على الأوجه المظلمة من الظواهر المجتمعية، أو ما يُمثل في الأساطير اليونانية بعالم “الإله هاديس” المخفي، والبعيد عن الأنظار. وكان انبعاث هذه الفكرة لدى بيتر براشلر نتيجة التجربة التي عاشها عندما كان شابا، حيث عمل في مركز للاجئين لمدة أربع سنوات أثناء الحرب الفيتنامية، ويذكر آنذاك كيف أن أشياءً خطيرة كانت تحدث، ثم تظل محفوفة بالغموض.
ويضيف براشلر متحدثا عن بدايات مسرحه: “في البداية كنا نأتي بشيء جديد، وكان الإعلام يهتمّ بما ننتجه، وحصلنا نتيجة لذلك على شهرة وإشعاع كبيريْن”. وفعلا، كان هذا العمل يحظى بدعم شخصيات مهمّة على الساحة الثقافية السويسرية كفرانس هولر، وهوغو لوتشر، وهما أديبان سويسريان مشهوران.
كما يذكر براشلر كيف أن هذه التجربة الإبداعية مرّت بفترات كانت فيها الدعاية الإعلامية جيّدة، وكانت قاعات العروض تعجّ بالجمهور، ثم السنة التي بعدها يتراجع الإهتمام بمارلام، وتتلقى العروض التي تنظمها تهديدات بتفجير قنابل فلا يحضر المشاهدون.
ومثلما حصلت مارلام على جوائز برغم اعتراض بعض الدوائر الثقافية المحافظة، كان ينظر إلى القائمين على هذه التجربة كلقطاء ومهرّجين، وجزء كبير من النخبة الفنية في سويسرا، يقول براشلر “يعتقدون أن ما نقوم به عمل اجتماعي ولا يدخل في دائرة الفن”، وأما العاملين في المجال الإجتماعي “فيعتقدون أننا فنانون وليس لدينا أي فكرة عن العمل الإجتماعي”. مارلام كانت في منطقة محرّمة، إذا صحت العبارة.
وفي ردّه عن سؤال حول موقع مارلام من السياق الثقافي السويسري، أجاب مدير هذا المسرح: “وضع مارلام مرتبط بالمال. سويسرا بلد رأسمالي غني، ومن لديه المال يمتلك شرعية الوجود والظهور. ونشعر بهذا أكثر عندما نقوم بإنتاج عمل حول العرب والمسلمين، قليلون يدعمون مثل هذا الإنتاج، غير أن الكثيرين يعترضون عليه”.
لكن مع ظهور العصر الرقمي، وانتشار الهواتف المحمولة، وشبكات التواصل الاجتماعي، هل بقيت مناطق مظلمة لتسلط عليها مارلام أضوائها الناقدة؟ ربّما، لكن يظل نجاح مارلام بالأساس استمرار تجربتها لأزيد من ثلاثين عام.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.