مشروع رائد للتعلم عن بُعد يُعزز التدريب المهني في سويسرا
عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحاً في سويسرا والسادسة مساءً في الصين. مجموعتان من الطلاب تفصل بينهما مسافة 8000 كيلومتر يُحيّون بعضهم البعض ويباشرون بتسجيل دخولهم إلى أجهزة الكمبيوتر اللوحية الخاصة بهم ليُعلن درس اليوم عن بدايته في مركزٍ للتدريب المهني عن بُعد في بلدة ‘أوتسفيل’ في كانتون سانت غالَّن، شرق البلاد.
مشروع رائد تدور أحداثه في مركز التدريب المهني الذي يهتم بتعليم مجموعة من مُتدربي شركة ‘بوهلَررابط خارجي’ السويسرية يشكلون اللبنة الأولى لتجربة فريدة من نوعهارابط خارجي، تتيح لهم فرصة تلقي التدريب المهني عن بُعد بمساعدة التكنولوجيا المتطورة. وفي درس اليوم، يطَّلع الطلاب المشاركون في المحاضرة على رسم تخطيطي ثلاثي الأبعاد لإحدى المكائن بغية التعرف على أجزائها المختلفة.
ولكن، ما هو الدافع من وراء إطلاق شركة ‘بوهلَر’ لِمثل هذا النظام المُكلف للتدريب المهني؟ في الواقع كانت الشركة المُختصة بِبِناء منشآت طَحن وتخزين الحبوب والغلال، والتي تُشَغِّل آلآف الموظفين في جميع أنحاء العالم، قد وجدت نفسها أمام مشكلة رئيسية قبل بضعة أعوام، عندما قرَّرت مَنح مُتدربيها الفرصة للعمل في مواقعها الأخرى خارج سويسرا. وحينها، برز السؤال حول كيفية تمكين هؤلاء المتدربين من الإستمرار بدراساتهم الصّفّية عندما يكونون بعيدين عن وطنهم الأم.
كان يتحتم علينا أن نغير ثقافتنا بغية إجتذاب العمال الشباب والحفاظ عليهم كريستوف أوزوالد، رئيس الموارد البشرية في شركة ‘بوهلر’
“لقد وجدنا أنفسنا أمام مُفترق طُرُق فيما يتعلَّق بالتلمذة المهنية”، كما يقول كريستوف أوزوالد، رئيس الموارد البشرية في شركة ‘بوهلر’، الذي أوضح أن التدريب المهني كان قد بدأ يُنظَر إليه باعتباره خياراً أقل جاذبية للطلاب. “كان يتحتم علينا أن نغير ثقافتنا بغية إجتذاب العمال الشباب والحفاظ عليهم، وهو ما جعل هذه الوسيلة عاملا استراتيجيا”.
وهكذا، توصلت الشركة إلى إطلاق تجربة تنطوي على تثبيت بعض الشاشات، وخلق إتصال عبر الأقمار الصناعية يسمح للمُتدربين المتواجدين في الخارج بالتواصل مع صفوفهم الدراسية في سويسرا.
ولم تمض سوى ثلاثة أعوام حتى ازدادت أعداد هذه الشاشات لتصل إلى ست شاشات مُثبتة في جميع أنحاء الصف الدراسي، وبشكل إستراتيجي يسمح للمدرس وجميع المتدربين بالتفاعل مع مجموعتين مشاركتين أخريين من موقعين مُختلفين حول العالم في الوقت نفسه. واليوم، تدير شركة ‘بوهلر’ بالمجموع 54 صفاً دراسياً حول العالم يعتمد على ما يُسمّى بنظام ‘الدراسة عن بعد’ في مشروع يحمل إسم “الفصل الدراسي 2.0”.
وفي الصف الرئيسي الموجود في بلدة ‘أوتسفيل’ Uzwil في كانتون سانت غالَّن، يمكن مشاهدة شاشة خضراء تتيح إمكانية الشرح على نماذج ثلاثية الأبعاد، ولوحة أزرار يستخدمها المُدَرِّس للإنتقال بين العروض، ونظام كاميرات ذكي يركز على المُتكلم. ومع كل الحرارة المُنبثقة من جميع هذه الأجهزة، من الطبيعي أن يشعر الموجودون بالدفء.
وحول هذه الدروس، تقول المتدربة سابرينا التي عادت لتوها من الخارج بعد قضائها ثلاثة أشهر في موقع شركة ‘بوهلر’ في مينيابوليس (شمال الولايات المتحدة)، إن المشاركة في الفصول الإفتراضية “أجبرتها على المزيد من التركيز”.
“كان علينا أن نُركِّز إنتباهنا لأن نوعية الصوت لم تكن جيّدة جداً دائِماً”، كما تقول. وتضيف :”أنت تعرف بأنك مُطالب بِمَعرفة جميع المعلومات التي يقولها المعلم، وإلاّ ستجد نفسك متأخراً عن البقية. كما كان علينا أيضاً تنفيذ المزيد من المهام بمفردنا لعدم توفرنا على كامل الوقت المُحدد للحصص الدراسية، مما أوجب علينا التوثق دائما من تحصلنا على كافة المعلومات المطلوبة”.
بدافع وتوجيه من الشركات
من جهته، يرى دونالد كلارك أن شركات على شاكلة ‘بوهلر’ تمثل مستقبل الإبتكار في مجال التدريب المهني. ويعتقد الرئيس التنفيذي وأحد مؤسسي شركة Epic Group plc الرائدة في مجال تكنولوجيا التعليم الإلكتروني التي يقع مقرها في المملكة المتحدة، أن عروض التلمذة المهنية – بما في ذلك التعلم عن بُعد – يجب أن تكون بدافع من إحتياجات الشركات، سيما وأن غالبيتها تتمتع بالخبرة في هذا المجال بالفعل.
“تستخدم جميع الشركات في العالم تقريبا تقنية التعلم الإلكتروني عن بُعد أو التعلم عبر الإنترنت في أقسامها التدريبية”، كما يقول. ويُضيف أن هذه الممارسة “متأصلة بالفعل، وعندما يدفع أرباب العمل المال للتدريب المهني، فإنهم يرغبون بان تتميز هذه الممارسة بكفاءة عالية”.
لهذا السبب، يدعو كلارك إلى الحَد من دَور الكليات والمدارس في مجال التدريب المهني، والتركيز بدلاً من ذلك على التدريب في الشركات ومن خلال الإنترنت. وهو يشير إلى تقنيات مثل الواقع الإفتراضي كأدوات رئيسية للإستخدام، والتي تَسمح في يومنا هذا بالفِعل بممارسة الممرضات المُتدربات علاج مرضى إفتراضيين، وكذلك المُتدربين على بيع الزهور بتشكيل تصفيفات افتراضية.
المزيد
التكوينُ المهني السويسري أصبح مُتاحا بالإنجليزية
يرى كلارك “إبتعاد البندول عن نُظُم التدريب المهني المُستندة على الكليات” في جميع أنحاء العالم عموماً وتوجهه صَوب أساليب تعليمية أكثر مرونة، تسمح للطلاب بِمُباشرة دراستهم في أي وقت من السنة بدلاً من مُجَرَّد العُطَل الفصلية على سبيل المِثال.
مع ذلك، يرى كلارك ان البرامج التعليمية في دول مثل سويسرا وألمانيا، التي تتجذر فيها أنظمة التعليم المهني بِعُمق، مازلت تستند على المدرسة بشكل كبير بالمقارنة مع أماكن أخرى كالشرق الأوسط أو الصين، حيث “يحتل التدريب عبر الإنترنت مكانة كبيرة جداً”، كما يأتي مُعظمه بدافع وتوجيه من الشركات.
أمّا كريستوف آرن، أحد كبار الباحثين في المعهد الفدرالي السويسري للتعليم والتدريب المهنيرابط خارجي فيشير إلى تقديم برامج تدريب المعلمين في سويسرا لإمكانات تكنولوجيا الإتصالات المتنقلة والتعلم الإلكتروني بوصفها ممارسة مُعتادة. مع ذلك، ما زالت الصورة حول ما يحدث في مجال التدريب المهني في جميع أنحاء البلاد غير واضحة.
اللغة الإنجليزية كمفتاح
بالرغم من ذلك، يُعتَبَر النظام السويسري – الذي يتعلَّم فيه 70% من الطلاب بشكل جزئي أثناء مُمارسة العمل بدلاً من المدرسة التقليدية – أحد أكثر الأنظمة نجاحا في العالم. وقد قام العديد من المُمثلين رفيعي المستوى من دول أخرى، كالولايات المتحدة، بزيارات إلى شركات سويسرية مثل ‘بوهلر’، مُستهدفين الإطلاع على النَهج الذي تتبعه في مجال التلمذة الصناعية، على أمل تعزيز برامج مُماثلة في بلدانهم.
ولكن التحدي الأكبر في إستنساخ النظام السويسري يكمن غالبا في جزئية الفصول الدراسية، بسبب الصعوبة التي تواجهها الشركات التي تدرب عامليها لبناء شراكات مع مدارس محلية بإمكانها تعليم هؤلاء المهارات الأكاديمية اللازمة. وهنا يُطرح السؤال: هل يمكن لبرنامج مماثل لذلك الذي تقدمه ‘بوهلر’ أن يوفر الحلقة المفقودة عن طريق التعلم عن بعد؟
ماركو فراوخيغَر، مدير مركز التدريب المهني الذي يساعد على تعليم المتدربين في شركة ‘بوهلر’ يقول إن “هذا السؤال يبقى مفتوحا”. مع ذلك، يعمل مدير برنامج ‘الصف الدراسي 2.0’ حالياً برفقة زملائه على إضافة التدريب المهني باللغة الإنجليزية، كخطوة أولى ربما نحو فتح أبوابهم – وفصولهم الدراسية الإفتراضية – إلى بقية العالم.
“نحن نريد أن نكون مهيأين لتثقيف [المُتدربين] في الخارج، واللغة الإنجليزية هي المفتاح لذلك”، كما يقول. ويضيف: “نريد لهم أن يكونوا قادرين على القيام بتأهيل مهني دولي كامل”.
أهمية البداية المُبكرة
وفقا لـ كارمين بالومبو أحد الأساتذة في مركز التدريب المهني، فإن مخاطر نجاح أو فشل ‘الصف الدراسي 2.0’ مرتفعة الآن بشكل خاص، مع عدم إمتلاك الطلاب المشاركين لأي وقت يضيعونه – فهم في عامهم التدريبي الأخير، وعليهم إجتياز الإمتحانات وإعداد المشاريع النهائية.
وحيث أنَّ ‘الصف الدراسي 2.0’ هو مشروع داخلي، كان بمقدور المدرسة أن تنهض به دون الحاجة إلى موافقة خاصة من المكتب الذي يشرف على المناهج الدراسية لبرامج التدريب المهني المعترف بها على مستوى الفدرالية. ويقول آرن من جانبه إنه غير مُطَّلِع على أي متطلبات وطنية لعروض التعلم الإلكتروني.
ويقول: “لا بد أن هناك خطة قائمة للتعلم، ولكن لدى المدارس والشركات الحرية في تقرير كيفية تدريس المواد”، لكنه يستدرك قائلا: “مع ذلك، سوف يتدخل المراقبون الخارجيون بالتأكيد في حال ظهور شيء غير ملائم”.
وكما اتضح لاحقاً، كان أصعب الناس إقناعاً بهذا المشروع هم الكادر التدريسي. إذ أعرب نحو 80% من المدربين الذين يقومون بالتدريس في برنامج ‘الصف الدراسي 2.0’ عن معارضتهم لمفهوم التعلم عن بُعد في الأيام الأولى. ووفقاً لـ فراوخيغَر، فقد تقبل هؤلاء الفكرة لاحقاً من خلال التدرُب مع كلية تعليم محلية، والعمل في فرق المشروع مع نظرائهم في الدول الأخرى التي تتوفر فيها شركة ‘بوهلر’ على مواقع عمل.
من جهته، يعتقد بالومبو إن هناك إمكانيات خاصة للتعلم الإلكتروني في السنة الأولى أو الثانية من التدريب المهني، ويقول: “آمل أن يبدأ الطلاب العمل بهذه الأسلوب بالفعل في المدرسة الثانوية، حيث يمكننا أن نطلب من الطلبة اليافعين إخراج هواتفهم النقالة والبحث عن إجابات على الإنترنت”.
بدوره يتفق آرن في أن الحل يكمُن في مُمارسة هذه التجربة بشكل مُبكر. “ينبغي أن تبدأ تجربة تكنولوجيا التعلم الإلكتروني في المدارس الابتدائية والثانوية، ولكن إذا لم يكن هذا هو الحال، فسوف تكون التلمذة المهنية مُطالبة بتقديم شيء [في هذا المجال]”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.