معضلة المنطقة الرمادية بين العملاء العاديين.. والطغاة المستبدين!
أشاد كثيرون في داخل البلاد وخارجها، بالموقف السويسري من الأرصدة المُـودعة لدى المصارف السويسرية من قِـبل رموز الاستبداد، ممَّـن لا يزالون في السلطة أو ممَّـن غادروها. وبما أن هذه الأموال قد تُـسيء لصورة النظام المصرفي السويسري وتؤثر على سُـمعته، فقد اختلفت الآراء حِـيالها وتأجَّـج النقاش بشأن ما إذا كانت القوانين المطبّـقة حاليا كافية للتعامل مع هذه القضية أم أن الأمر يحتاج إلى إجراءات وتدابير أكثر صرامة؟
فمن جانب، أشادت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا بسويسرا، واصفة إياها بأنها “واحدة من البلدان الأكثر تميزا في العالم بخصوص إعادة الأموال المنهوبة إلى البلدان النامية”.
وفي البيان الذي تضمن الإعلان عن بدء العمل منذ غرة فبراير 2011 بقانون “ليكس دوفاليي”، المتعلق بإعادة أموال المستبدّين إلى بلادهم، ذكرت وزارة الخارجية السويسرية بأن “القانون الجديد يضيف حزمة واسعة من التدابير ويؤكِّـد الدور الريادي لسويسرا بشأن إعادة الأموال المُـكتسبة بطرق غير مشروعة”.
ومن جانب آخر، نجد بأن التصريح الرسمي السويسري تجاهَـل حقيقة أن القانون سابق الذِّكر، لا ينطبق إلا على عدد قليل من البلدان، ليس من ضِـمنها لا تونس ولا مصر.
كما أن إعجاب صحيفة نيويورك تايمز تُـفنده مجريات الأحداث. ففي 19 يناير قرّرت الحكومة السويسرية التجميد الفوري للأصول المُـحتملة للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته، وفي 11 فبراير اتّـخذت قرارا آخر بتجميد الأصول المالية المُـحتملة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وعائلته ومعاونيه، ولكن الذي يُـقلق منظمة “إعلان برن” للمساعدات التنموية، هو أن قرار التجميد لم يصدُر إلا بعد إزاحة كِـلا الرئيسين، التونسي والمصري، عن السلطة.
وقال أندرياس ميسباخ، عضو مجلس إدارة منظمة إعلان برن لـ swissinfo.ch: “توجد معضِـلة كبرى بالنسبة للحكّـام الطغاة الذين لا يزالون في السلطة. فأموالهم لا تطفو على السطح إلا بعد إسقاط أنظمتهم. ومن حيث المبدأ، يتوجّـب على سويسرا أن تقوم بتجميد الحسابات والأصول مُـسبقا، ما دامت لن تبقيها طيّ الكتمان”.
ويذكر ميسباخ سببيْـن لعدم الالتزام بذلك، معتبرا أن “سويسرا لا ترغب في أن تجُـر على نفسها خلافات مع هؤلاء الطُّـغاة القابعين في الحُـكم، كما أن المصارف والبنوك غير مستعدّة للتضحية بمصالحها التجارية، ما دام الأمر لم يفتضح”.
تدَخّـل الحكومة
وجدير بالذكر، أن القانون بشأن غسيل الأموال يُلزم المصارف بضرورة التحقّـق من مصادر أموال كبار السياسيين ومراقبة معاملاتهم المالية، أي أنه يجب على البنوك أن تُثبِـت بأن هذه الأموال نظيفة وقانونية، وهو أمر ليس بالسّـهل، نظرا لوجود منطقة رمادية يصعب فيها التمييز بين الأموال المشروعة وغير المشروعة.
ولعلّـنا نشير إلى أن الأموال المُـحتملة لمبارك والمُـودعة في المصارف السويسرية، قد تدخل ضمن هذه “المنطقة الرمادية العريضة”، وفقا لما ذكره لـ swissinfo.ch دانييل تيلسكلاف، الخبير في مكافحة غسيل الأموال، بالإضافة إلى وجود كثير من الحالات التي تكون فيها “الأموال تتبع لشركات تجارية مرتبطة بالأنظمة، ويتعذّر الفصل ما بين الأموال المشروعة وغير المشروعة، باعتبار أن جميع الحكومات الغربية ترتبط بتعاملات تجارية مع هذه الشركات، دون أي تحفظ”.
ويضيف تيلسكلاف قائلا: “لم يتِـم الإبلاغ عن المعاملات والحسابات التي قد تكون لابن علي، الرئيس التونسي المخلوع، إلا بعد صدور الأمر من قِبل الحكومة الفدرالية إلى المصارف والمؤسسات المالية الأخرى”.
هيئة الرقابة على الأسواق المالية
وحاليا، لا يُـمكننا الجزم فيما إذا كانت البنوك والمصارف السويسرية قد أخلّـت بواجباتها في التدقيق في مصادر أموال كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وربما حان الوقت لكي تقوم هيئة الرقابة على الأسواق المالية بتوضيح هذه المسألة.
وفي نفس السياق، يرى أندريا ميسباخ أنه من الممكن أن تكون “البنوك ضحية، كما يُـمكن أن يكون هنالك وسطاء. فمبدأ افتراض البراءة ينطبِـق على البنوك، ولكن من المحتمل أيضا أن تكون قد ارتكبت تجاوزات”.
ومن حيث المبدأ، تتحمّـل إدارة البنك مسؤولية اتخاذ القرار بالسماح بفتح حساب باسم أي زعيم أو أي رمز سياسي، كما أن القانون يلزمهم بتقديم تقرير إلى مكتب الاتصال بشأن غسيل الأموال عن كل المخالفات.
وجهتَـا نظر
وفي المقابل، أوضح تيلسكلاف، حسب رأيه، بأن “نظام الرقابة المطبَّـق حاليا، يؤدّي دوره بشكل فاعل”، معتبِـرا في نفس الوقت، أنه “لا يمكن منع غسيل الأموال بشكل مُـطلق، حتى وإن صِغنا قوانين ونُـظم إضافية، ذلك أن كل الدول التي تتوفّـر لديها سلطات رقابة حقيقية، ليس من الضروري أن يكون لديها أداء أفضل”.
ويتابع قائلا: “وعلى كل حال، من الضروري أن تقوم الحكومة بالتحريز أو بإطلاق إشارة، مفادُها أن قضية المعاملات المالية الخاصة بالشخصيات السياسية ستُـؤخذ على محمَـل الجِـد، فعلى البنوك تَـوخِّـي الحذر حِـيال هذا الموضوع”.
أما ميسباخ، فإن له رأيا مغايرا، حيث يحدِّد “الضعف الأساسي” يكمُـن في النظام الحالي الذي يقول عنه بأنه “من الطبيعي أن تكون له حدود، ولكن إذا كان النظام لا يعمل أو لا يؤدّي الغرض، فالواجب أن يتم تجاوزه”.
فعلى سبيل المثال، كان على الحكومة السويسرية الحجز على أموال الرئيس التونسي وأصول المقربين منه قبل سقوط نظامه، وكذلك الشأن بخصوص الرئيس المصري المخلوع، ويضيف ميسباخ قائلا: “كذلك، يمكن أن يتِـم بشكل رسمي تحديد أي الزعماء والقادة السياسيين، الذي يُسمح له فتح حساب لدى أحد البنوك السويسرية ومَـن ليس له الحق”.
تجميد الأموال وإعادتها
ورغم التبايُـن بين وجهتيْ نظر الخبيريْـن، إلا أنهما متَّـفقان على أن مشكلة غسيل الأموال في سويسرا طرأ عليها تحسّـن كبير في السنوات الأخيرة، ومع ذلك، لا يزال هنالك مجال للتطوير. والمطلوب حاليا، بحسب ميسباخ هو “إجراء التحقيقات الصائبة والشفافة”.
وبالنسبة لتيلسكلاف “مثال ابن علي – ومَـن على شاكلته ممَّـن تخفي الأيام – يُظهر بأن المشكلة لم تُحَـل بعدُ”، لاسيما وأن سويسرا باعتبارها واحدة من المراكز المالية الرئيسية في العالم، من الطبيعي أن تبقى على الدوام عُـرضة لمِـثل هذه المتاعب.
وخلص الخبير في مكافحة غسيل الأموال قائلا: “أعتقد أنع من المغالطة القول بأن سويسرا لن يحصل معها مثل هذه الإشكالات مُـستقبلا، ولكن الأوْلى والأصَح، القول، بأنه من الطبيعي أن تكون سويسرا عُـرضة للأموال السوداء، ولذلك هي بحاجة لنظام يمنحها سلطة الكشف عن هذه الأصول المنهوبة وتجميدها وإعادتها إلى بلدانها”.
وفي مقابلة مع الصحيفة السويسرية “NZZ ام سونتاغ”، ذكرت ميشلين كالمي – ري رئيسة الكنفدرالية، بأن سويسرا تريد أن تطمئِـن العالم بأنها ليست جنّـة “للأموال القذِرة” وأضافت: “لا يمكن أن نفتح أبوابنا لأشخاص يختلِـسون أموال الدولة ويضعونها في جيوبهم الخاصة”.
يجب على المؤسسات المالية من مصارف وبنوك أن تكون متيقِّـظة أكثر بشأن حسابات الشخصيات السياسية.
وبحسب توماس سوتر، من الرابطة السويسرية للمصرفيين، أن المقصود بالقادة السياسيين، ليس فقط القادة والزعماء والسياسيين المستبدِّين، ولكن أيضا السياسيين المنتخَـبين ديمقراطيا.
في الوقت الحاضر، تتوفر قاعدة بيانات خاصة بالسياسيين، يمكن للبنوك الاستفادة منها.
تتوفر لدى بعض البنوك طُـرق خاصة، كحلول بشأن القضايا المالية الخاصة بأفراد الطبقة السياسية.
لابد أيضا من وضع الحاشية أو الأشخاص المحيطين بالقادة تحت المِـجهر، كما في حالة الرئيس التونسي المخلوع ابن علي، حيث أن قائمة الدائرة المحيطة به بلغت نحو أربعين شخصا، بناء على ما قالته ميشلين كالمي راي، رئيسة الكنفدرالية ووزيرة الخارجية.
ووفقا لسوتر، تكمُـن المشكلة في أن بعض الدكتاتوريين كانوا – حتى وقت قريب – يُـعتبَـرون مقبولين سياسيا، وفجأة جاء اليوم الذي اعتُـبِروا فيه مرفوضين.
مثل هذه القضايا تعقِّـد عمل البنوك، حيث من الصَّـعب عليها أن تقدِّر إذا ما كان يلزمها التوجّـه إلى سلطات مكافحة غسيل الأموال أم لا.
مراقبة حسابات كبار السياسيين تدخل كجزء من المراجعة السنوية، التي تجريها المصارف في سويسرا وفي الخارج، وتقوم شركات مختصّـة بعمليات التفتيش المفاجِـئ، للتأكُّـد من حُـسن سيْـر الأمور.
في معظم الأحيان، يقوم لصوص الاستِـبداد بتسلّـم الأموال من خلال معاملات أو وسطاء في الخارج، وهذا الأمر يُعقّـد مهمة الرقابة السويسرية، وربما أثر على سمعة البلاد ومصارفها.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.