التونسيون يتآلفون مع مفاهيم وآليات الحوكمة المحلية
قطعت تونس في السنة المنقضية خطوات مهمة في طريق تحقيق اللامركزية من خلال السير قدُما في تكريس "الديمقراطية التشاركية"، وهو مصطلح جديد على البنية المفهومية للتونسيين. غير أن هذا التقدم ما زال مشوبا بكثير من الصعوبات.
إذا أردنا أن نقيس مدى هذا التقدّم وندرك عمق التغيير على هذا المستوى، علينا أن نعود إلى وقائع منتدى الديمقراطية المباشرة الذي أقيم في شهر ماي من العام الماضي في تونس، باعتبارها شجرة ديمقراطية يافعة وسط غابة من الأنظمة الإستبدادية. فقد شارك في تلك التظاهرة عشرات النشطاء وأعضاء منظمات المجتمع المدني، إلى جانب موظفين في مؤسسات الدولة، وتعرفوا من خلال ورشات العمل وجلسات الحوار على مضامين “الديمقراطية التشاركية” وآلياتها والبعض من تجاربها.
وما زاد من أهمية المنتدى الذي وُضع تحت شعار “اللاّمركزية من خلال الديمقراطية التشاركية”، أنه ينسجم مع بند بارز في دستور تونس الجديد (البند 139) الذي نص على “استخدام آليات الديمقراطية التشاركية في الحكم المحلي”. وقالت الدكتورة منى كريِم، أستاذة القانون الدستوري بالجامعة التونسية لـ swissinfo.ch إن الدستور الذي اعتمدته الجمهورية التونسية بعد ثورة يناير 2011 يرمي “للخروج من الدولة المركزية إلى الحكم المحلي بإفراده بابا بأكمله لهذا الموضوع، وهو الباب السابع الذي يشتمل على 12 بندا، في مقابل بند يتيم في دستور 1959”.
فرصة للمجتمع المدني
أكثر من ذلك، أدخل الدستور تغييرا جوهريا على بنية الحكم من خلال منح صلاحيات واسعة لمجالس المحافظات والبلديات على حساب الحكومة المركزية. وفي هذا السياق، شكلت الدورة الخامسة للمنتدى العالمي للديمقراطية المباشرة الحديثة التي أقيمت في تونس العام الماضي، فرصة لمُكونات المجتمع المدني لمطالبة السلطة التنفيذية والبرلمان بالإسراع في سن قوانين جديدة وتعديل أخرى لتوسيع صلاحيات البلديات والمجالس الجهوية.
وعلق عضو سابق في الحكومة فضل عدم كشف اسمه على الخطوات المقطوعة في هذا الطريق، منذ منتدى السنة الماضية، ردا على سؤال لـ swissinfo.ch بقوله مازحا “ألا يكفيكم أن وزير الحكم المحلي صار رئيس الوزراء فابتلعت السلطة الجهوية السلطات المركزية؟” في إشارة لتسمية يوسف الشاهد وزير الحكم المحلي في حكومة حبيب الصيد رئيسا للحكومة مؤخرا. لكن بعيدا عن المُزاح، تبدو المبادرات والفعاليات المُسجلة على مدى سنة غير قليلة.
فقد لوحظ في الفترة الماضية إقامة ورشات لتعريف المشاركين والمشاركات بميزات الحكم المحلي وتعميم النظام البلدي، وهي ورشات تمت في مدن مختلفة مثل المنستير وبنزرت والحمامات والقيروان ومنوبة وقفصة، بما فيها مدن صغيرة داخلية. وقال عبد القادر السعيدي أحد المشاركين فيها إن محاورها تراوحت بين إشكالات الاصلاح في المراحل الإنتقالية نحو الديمقراطية، وبين دور الاعلام في الإنتخابات البلدية، وتدريب النساء على المشاركة الفعالة في الانتخابات المحلية. ومن جهتها، أوضحت الإعلامية سُليمة الجوادي، الناشطة في محافظة منوبة شمال العاصمة أن “مؤسسات رسمية شاركت في إقامة تلك الورشات، ومنها وزارة الشؤون المحلية، ووزارة المرأة والأسرة”.
الورشات استهدفت فئات شابة من الجنسين وأعضاء في الأحزاب السياسية لتدريبهم على تعزيز المشاركة وإدارة مؤسسات الحكم المحلي، زيادة على التكوين الذي تلقاه آخرون في إدارة العملية الإنتخابية محليا. وفي هذا الصدد، قال الخبير جميل حيدر من “مؤسسة هانس سايدل” رابط خارجيالألمانية، الذي كان من مُنظمي تلك الورشات، إن عدد المشاركين لم يقلَ عن أربعين مشاركا ومشاركة في الورشات الأربع التي أقامتها المؤسسة في محافظة سوسة وحدها. ومن المواضيع التي تطرقت لها الورشات كيفية أخذ الكلمة أمام الجمهور ودراسة المناخ السياسي والإنتخابي والتواصل الإعلامي أثناء الحملات الإنتخابية… وأكد أن المشاركات استطعن تجاوز الموانع النفسية التي كانت تعوق مشاركتهن في الحياة العامة، واكتسبن خبرة في كيفية الدعوة للإجتماعات وإقامتها وتعبئة جموع الناس، سواء بوصفهن مرشحات أم باعتبارهن مُسيّرات للإجتماعات والحملات.
وأضاف حيدر أن محافظة قفصىة، التي تُعتبر منسية طيلة أكثر من نصف قرن حظيت أيضا بسبع دورات تدريبية للسيدات. وتشكل محافظات الغرب والجنوب البعيدة عن ساحل المتوسط مصدرا رئيسا للإضطرابات والثورات في تونس، لأن سكانها يعتبرون أنها لم تنل حظها من التنمية، خلافا للمحافظات الساحلية التي استأثرت بنحو 80 في المائة من مشاريع التنمية في ظل حكم الرئيسين حبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011).
مفاهيم جديدة
وهذا ما يُفسر أن عددا من الورشات التي أقيمت خلال السنة المُنقضية منذ اختتام أشغال المنتدى العالمي لالخامس للديمقراطية المباشرة الحديثة، خُصصت لموضوع الحوكمة المحلية وكذلك لمراجعة بنية المجال الطبيعي، وبالتحديد قانون تقسيم التراب والتخطيط العمراني.
يُمكن القول إن كثيرا من المفاهيم الجديدة مثل الميزانية التشاركية باتت مألوفة لدى النشطاء وكوادر المجالس البلدية المؤقتة، التي أقيمت بعد ثورة 2011. وفي هذا السياق، ضربت سُليمة الجوادي مثلا بأعضاء المجلس البلدي المؤقت في مدينة منوبة الذين قالت إنهم اجتمعوا مع ممثلين من المجتمع البلدي للإنخراط في منظومة الميزانية التشاركية، التي تُتيح للمواطنين حق المشاركة في اتخاذ القرارات في شأن المشاريع البلدية ذات الأولوية. وأوضحت الجوادي أن منوبة هي خامس بلدية تنخرط في هذه المنظومة بعد كُل من المرسى ومنزل بورقيبة وتوزر وقابس، قائلة إنها ستُعمّم على جميع البلديات. وفعلا سرعان ما لحقت بها بلديات أخرى منها بن عروس والمنستير ومساكن وسواها.
ميدانيا، استطاع مراسل swissinfo.ch أن يقرأ على جدران مقر بلدية بن عروس، دعوة عامة مكتوبة باللسان المحلي، تحض سكان المنطقة البلدية على حضور جلسة التوقيع على اعتماد منهج الميزانية التشاركية، باعتباره “تجسيدا للامركزية والحوكمة المحلية الرشيدة”. وتم بث الدعوة نفسها عبر مواقع التواصل الإجتماعي. وفي الإطار نفسه أقيمت فعالية في بلدية مساكن (في الوسط) استمرت يوما حضرها الوالي (المحافظ) وممثلو المجتمع المدني وشكلت الخطوة الأولى في إعداد ميزانية تشاركية.
كما أقامت جمعية “البوصلة”،رابط خارجي وهي من أنشط مكونات المجتمع المدني، فعاليات عدة للتوعية من بينها يوم مفتوح للحوار خصصته لموضوع “اللاّمركزية وإشراك المواطن في عملية أخذ القرار على النطاق المحلّي” بمشاركة المجتمع المدني والراصدين المحليّين من مختلف البلديّات بمحافظة سوسة. وجرت في هذا الإطار مناقشات مع المواطنين حول مفاهيم اللامركزية والديمقراطية المحلية وكذلك الإطار القانوني المُنظم للجماعات المحلية، إضافة إلى آليات إنفاذ البند السابع من الدستور المتعلق بالسلطة المحلية. ووضعت “البوصلة” الإصبع على ظاهرة سلبية تتمثل في كثرة غيابات النواب في البرلمان عن اجتماعات لجنة التنمية الجهوية، إذ لم تتجاوز نسبة الحضور 43 في المائة طبقا لتقرير اطلعت عليه swissinfo.ch. وأشار التقرير إلى أن اللجنة لم تعقد سوى جلستين خلال الأشهر الخمسة من نوفمبر 2015 إلى مارس 2016.
عُقدة الانتخابات البلدية
غير أن العقبة الكبيرة في طريق إرساء الديمقراطية التشاركية تكمن في الإضطرار إلى إرجاء الإنتخابات المحلية، التي كان مُرجحا أن تُجرى في 26 مارس 2017، إلى تاريخ غير محدد. وقال شفيق صرصار، رئيس الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات: “إنّ الإنتخابات المحلية الأولى بعد الثورة كانت ستتم في ذاك التاريخ لو تم سن القانون الانتخابي في 22 يوليو الماضي، ومعاودة توزيع الدوائر الانتخابية قبل 30 مايو الماضي، كما كان مقررا، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث”.
بهذا المعنى القائم على مفارقة مريرة يُمكن فهم أبعاد الرؤية التي تضمنها البيان الختامي لمنتدى الديمقراطية المباشرة الذي استضافته تونس، الديمقراطية العربية اليافعة، خلال السنة الماضية، حين شدد (البيان) على أن “الديمقراطية التشاركية تتطلب أكثر من كلمات [تُدون] في الدستور، أو أحكام واردة في القانون، وإنما تحتاج بنية تحتية داعمة – الحرية والشفافية (خاصة لمكافحة الفساد)، وفضاءات آمنة (بما في ذلك الإنترنت)، وإعلام مواطني مستقل، وحركات اجتماعية قوية، وموارد اقتصادية، ومنظمات مجتمع مدني فاعلة – تتيح للناس الإتصال ببعضهم البعض، وإسماع صوتهم”.
آلية الميزانيات التشاركية
ضمّت بلدية بن عروس (ضواحي العاصمة التونسية) في ميزانيتها المرتقبة لعام 2017 جميع المشاريع التي قرّرها مواطنوها، والتي سيتم تنفيذها بداية من العام المقبل. وأعلن عن هذا القرار خلال الإجتماع الأخير الذي ضمّ وفدا من النيابة الخصوصية بالمنطقة من جهة والمندوبين المنتخبين من المواطنين والممثلين للأحياء من جهة أخرى. وكان الهدف من الإجتماع ضبط القائمة النهائية للمشاريع المقترحة من المواطنين، ثم إشراك هؤلاء المندوبين في الإشراف على تنفيذ هذه المشاريع بدءً من الخطوات الإدارية وحتى الإنتهاء من الأشغال.
كانت هذه البلدية قد خصصت 50% من ميزانيتها الإستثمارية لعام 2017 للميزانية التشاركية، وهي تمنح بذلك لعموم السكان الأهلية والصلاحية لتقرير مشاريع طرقات جديدة، وبناء أرصفة، وإضاءة الشوارع، وتجميل المدينة. وهذه المقاربة التشاركية في وضع الميزانية على المستوى البلدي هي ثاني أهمّ ميزانية على مستوى الجمهورية بعد تلك التي اعتمدتها مدينة صفاقس في عام 2015.
رئيس وفد النيابة الخصوصية ببن عروس، السيد سيف الله الشريف أوضح أن “المواطنين في بن عروس أظهروا وعيا مدنيا كبيرا، وقدرة فائقة على دعم وتأييد وإدامة عملية تطوير بلديتهم. وهذا دليل آخر على أنه من الممكن تطبيق مقاربة الميزانية التشاركية في جميع البلديات في الجمهورية التونسية”. كذلك أشار كمال لوحيشي، رئيس النيابة الخصوصية في مدينة بن عروس إلى أنه “بفضل مقاربة الميزانية التشاركية سوف تتعزّز علاقة الثقة بين المواطنين وبلديتهم، وسوف تسهم في تطوير المشاريع المحلية، وهو ما سيسمح لإدارة البلدية لا فقط الترفيع بشكل ملموس في ميزانيات المشاريع المحلية، وبالتالي في التنمية المحلية في المنطقة بل وكذلك الإرتقاء بالتنمية الثقافية للسكان، مما سيكون له تأثير كبير على حياة الناس”، على حد قوله.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.