منظمات سويسرية تدعو إلى “الحق في الموت” في الخارج
تبذل منظمة القتل الرحيم السويسرية "ديغنيتاس" (DIGNITAS) جهوداً حثيثة على الصعيدين السياسي والقانوني في عدد من البلدان الأخرى، بغية إضفاء الشرعية على الإنتحار بمساعدة الغير (أو ما يسمى بالقتل الرحيم) في جميع أنحاء العالم. وهي تبرر عملها الترويجي هذا بالقول بأن النخب السياسية والدينية في الخارج لا تحترم إرادة الشعب، الأمر الذي لا يخلو من بعض الحقيقة.
في سويسرا، يُسمح باللجوء إلى الإنتحار بمساعدة الغير (أو ما يُسمّى بالموت الرحيم). وتوجد هناك العديد من المنظمات في البلاد التي توفر هذه “الخدمة”. وحيث تحَظر معظم دول العالم هذه الممارسة، بدأ العديد من الأجانب بالتوافد إلى سويسرا للحصول على المساعدة لتحقيق رغبتهم الأخيرة.
رغم ذلك، فإن بعض المنظمات السويسرية التي تنادي بـ “الحق في الموت” لا تتوقف عند هذا الحد فقط، بل تمارس جهودها لإضفاء الشرعية على الإنتحار بمساعدة الغير خارج حدود الكنفدرالية. وفي هذا المجال، تحتل منظمة “ديغنيتاس – العيش بشكل لائق – والموت بشكل لائقرابط خارجي” موقع الصدارة. ووفقا لتصريحاتها الخاصة بهذا الشأن، تريد ‘ديغنيتاس’ أن تحد من اعتماد الراغبين بإنهاء حياتهم عليها، لكيلا يُضطر الأشخاص المُصابون بأمراض خطيرة، والراغبون في الإنتحار للسفر إلى سويسرا، وتامين المساعدة للإنتحار في بلدانهم.
وفي هذا الصدد، تعتبر الجمعية نفسها “منظمة قتالية” ملتزمة بمكافحة “التشدد العالمي”رابط خارجي، حتى تمنح جميع الدول سكانها الحق في حرية الاختيار وتقرير مصيرهم في نهاية حياتهم، بما في ذلك المساعدة على الإنتحار.
تلتزم منظمة ‘أكزيت’ في المناطق المتحدثة بالألمانية من سويسرا (EXIT Deutsche Schweiz) رابط خارجيهي الأخرى بدور سياسي وقانوني. إلّا أن هذه المنظمة غير الربحية “لا تعمل إلّا في داخل سويسرا، وهي غير قادرة – وغير راغبة أيضاً – في التدخل في سياسات الدول الأخرى”، كما يقول يورغ فيلَر، مسؤول الإتصالات في ‘أكزيت سويسرا الألمانية’ وعلى سبيل المثال، لا تشارك ‘أكزيت’ في المدخلات السياسية للاتحاد الأوروبي أو ما شابه ذلك. وعلى حد قول فيلَر: ” لا يمكن سوى للدولة المعنية أن تحدد كيفية التعامل مع مواطنيها في نهاية حياتهم”، مضيفا بأن مسألة الموت الرحيم شديدة التأثر بالنواحي الثقافية في البلد المعني. ويقول: “تتوفر سويسرا على حل حر، لكن من غير المنطقي أن تقوم بفرض هذا الحل على ثقافات أخرى”.
مع ذلك، لا تقف ‘ديغنيتاس’ لوحدها في هذه المعركة. فعند الاطلاع على موقعرابط خارجي مؤسسة “الروح الخالدةرابط خارجي” (Eternal SPIRIT) يمكن قراءة ما يلي: “تلتزم مؤسسة ‘الروح الخالدة’ بتشجيع تشريع الموت الإختياري بمساعدة الغير في جميع البلدان”. كما تقول منظمة ‘أكزيت’ في سويسرا الرومانديةرابط خارجي (Exit A.D.M.D. Suisse romande) إنها تلتزم “إلى حد ما” بإضفاء الشرعية على الإنتحار بمساعدة الغير في جميع أنحاء العال.، في إطار عضويتها ضمن الرابطة العالمية لمنظمات القتل الرحيمرابط خارجي.
حالات اختبار وبيانات سياسية
لكن كيف ينعكس الالتزام الدولي للمنظمات السويسرية في مسألة “الحق بالموت” بالضبط؟ أريكا برايزيغ، رئيسة مؤسسة ‘الروح الخالدة’ على سبيل المثال، تُظهر التزامها من خلال الظهور والحديث على منابر أجنبية، والمشاركة في البرامج الحوارية والبرامج التلفزيونية، كما قامت بإلقاء محاضرة أمام المحكمة الأوروبية لتشريع القتل الرحيم.
في المقابل، تذهب منظمة ‘ديغنيتاس’ إلى أبعد من ذلك بكثير، كما يتضح من الممارسات التالية:
حالات اختبار: قامت ‘ديغنيتاس’ بخوض ودَعم إجراءات قانونية مختلفة، كما يقول فريق ‘ديغنيتاسرابط خارجي’ في معرض رَدِّه على سؤال حول هذا الموضوع. وهو يضرب الامثلة بحالات حدثت أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أو المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية. وكما يقول الفريق، فإن ‘ديغنيتاس’ ومنذ تأسيسها قبل 20 عاماً، هي المنظمة الوحيدة في العالم التي شاركت دولياً وبنجاح في التطوير القانوني من خلال السوابق بشأن “المسائل الأخيرة في الحياة”.
مُداخلات في عمليات التشاور: تقول ‘ديغنيتاس’ إنها “شاركت في العديد من جلسات الإستماع البرلمانية، في إنجلترا وألمانيا وأستراليا وكندا”. كما قامت المنظمة بكتابة تعليقات وتوجيه ملاحظات إلى البرلمان الأسكتلنديرابط خارجي وإلى لجنة في الحكومة البريطانيةرابط خارجي.
استقبال وتوجيه السياسيين أو المحامين أو اللجان: قامت لجنة من المملكة المتحدةرابط خارجي بزيارة ‘ديغنيتاس’ في عام 2005، للحصول على فكرة جيّدة بشأن ممارسة الإنتحار بمساعدة الغير في سويسرا. وفي وقت لاحق، قالت البارونة جاي أوف بادينغتون خلال مناقشة برلمانية في مجلس اللوردات: “لقد مضت أكثر من 20 سنة على مناقشتي الأولى لمسألة القتل الرحيم. ومنذ ذلك الحين، كنت عضوة في لجنتين مختصتين بهذه الممارسة، وقمت بزيارة منظمة ‘ديغنيتاس’ في سويسرا، وتدقيق قانون الموت بكرامة (Death with Dignity) في ولاية أوريغون (الولايات المتحدة). لقد تعلمتُ الكثير من هذه التجارب، كما تطورت وجهات نظري حول هذا الموضوع بمرور الوقت وتوطدت”. بالإضافة إلى ذلك، توافد عدد من المحامين أو اللجان أو السياسيين إلى ‘ديغنيتاس’ من دول أخرى مثل تايوان أو أستراليا، في مسعى للحصول على إيضاحات حول النظام السويسري.
شبكات دولية: ترتبط ‘ديغنيتاس’ بشبكة كبيرة من المنظمات على مستوى العالم، هي تعمل مع عدد من المنظمات الأخرى، وليس مع حركة ‘الحق في الموت’ فقط. ووفقاً لبياناتها “تتعاون ‘ديغنيتاس’ مع مختلف المنظمات والمهنيين في جميع أنحاء العالم، الذين يلتزمون بحرية الإختيار وتقرير المصير في هذه المسائل، ويعملون على إدراج المسؤولية الشخصية في وضع نهاية للحياة”.
إنشاء منظمات ضغط جديدة: في عام 2005، ونزولاً عند مبادرة ألمانية، وبِدَعم من منظمة ‘ديغنيتاس’ في هانوفر، تم تأسيس الجمعية المستقلة “ديغنيتاس – العيش بكرامة – الموت بكرامة (قسم ألمانيا). وكما قال مؤسس ‘ديغنيتاس’ لودفيغ مينيللي لوسائل الإعلام الألمانية في ذلك الوقت: “نحن نساعد الأشخاص الذين يُريدون إنهاء حياتهم لأسباب وجيهة، ونحن نرغب بأن يكون ذلك مُمكناً في ألمانيا أيضاً”. ووفقا لفريق ‘ديغنيتاس’، لا توجد هناك مخططات حالياً لإنشاء المزيد من الجمعيات، لأن هذا “ليس ضروريًا”، حيث تؤسَّس المنظمات في العادة من قبل أشخاص ناشطين محلياً. أما ‘ديغنيتاس’ “فتسدي لهم المشورة وتقدم الدعم”.
الدعاية: في عام 2015، قامت ‘ديغنيتاس’ بحملة استغرق عشرة أيام، استنكرت خلالها رغبة الساسة الألمان في منع الإنتحار بمساعدة الغير، من خلال وضعها ملصقات إعلانية في محطات مترو الأنفاق في برلينرابط خارجي، الأمر الذي تسبب بحدوث في بعض الإضطرابات.
غضب في الخارج
لكن كيف تتقبل الدول الأخرى تدخل المنظمات السويسرية في شؤونها – ولا سيما في مثل هذه القضية المثيرة للكثير من الجدل من الناحية الأخلاقية؟ كما يبدو، لم تتم ملاحظة هذه المسألة في وسائل الإعلام في البلدان المَعنية. وقد يعود ذلك إلى طبيعة الممارسات الناجحة لجماعات الضغط. وغالباً ما تتم هذه الممارسات بشكل أفضل في الخفاء وبعيداً عن أعين الجمهور، الأمر الذي ينطبق على كافة أنشطة ‘ديغنيتاس’ باستثناء حملة الملصقات في برلين. لكن أي شخص يناقش أنشطة ‘ديغنيتاس’ أمام أطراف تعارض القتل الرحيم، سوف يجد نفسه في مواجهة الغضب الذي يمكن ان يتوقعه هناك. “إن أخذ الحكومات تقارير جماعات الضغط المؤيدة للانتحار بمساعدة الغير على مَحمَل الجد عند النظر إلى مسألة تشريع هذه الممارسة، لهو موقف يخلو تماماً من أي مسؤوليةً”، كما قال ألكس شادَنبيرغ المدير التنفيذي للتحالف الكندي للوقاية من القتل الرحيمرابط خارجي لـ swissinfo.ch. وأشار شادَينبيرغ إلى كفاح منظمته في عام 2015 ضد تشريع القتل الرحيم، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، في الوقت الذي سادت فيه مصالح ‘ديغنيتاس’.
في ذات السياق، قال ماتياس كوب الناطق الإعلامي باسم مؤتمر الأساقفة الألمان لـ swissinfo.ch : “بالطبع فإننا ننظر إلى هذا الإلتزام السياسي الهائل والعابر للحدود حتى، لما يُسَمّى بمنظمات القتل الرحيم باعتباره مشكلة كبيرة”. وحتى لو عارضت ‘ديغنيتاس’ ذلك من خلال مُلصقاتها، لكن المُشرّع الألماني َحَظر الممارسة المنظمة للإنتحار بمساعدة الغير. “نحن في ألمانيا، نتحسّس بشكل كبير لكرامة الحياة البشرية، وربما يعود السبب في ذلك إلى تاريخنا”، كما يظن كوب، مُضيفاً بأنهم يشعرون بالإمتنان لذلك.
المزيد
النقاش حول الموت: سويسرا كمكان مثالي للإنتحار
مساعدة أم تبشير؟
حول السؤال عما إذا كانت ‘ديغنيتاس’ من خلال التزامها تهدف إلى نشر منظور سويسري على نحو تبشيري في جميع أنحاء العالم، توضح المنظمة وجهة نظرها بالقول: “إن ‘ديغنيتاس’ تعمل وفق مبدإ المشاركة في المناقشات البرلمانية الوليدة أو القائمة، وحالات التقاضي، والمناقشات العامة وما إلى ذلك”. لكن العامل المحفز لذلك يجب أن ينشأ داخل البلد نفسه. وكما يقول فريق ‘ديغنيتاس’، فإن المبادرة للتغيير تنطلق بشكل أساسي من خلال الأشخاص والمنظمات في البلدان المعنية.
بعبارة أخرى، لا تقوم ‘ديغنيتاس’ بالتدخل، إلّا عندما يتولد لديها انطباع بوجود رغبة لدى السكان لإضفاء الشرعية على ممارسة الإنتحار بمساعدة الغير. كما تدرك ‘ديغنيتاس’ جيّداً بأن لكل بلد ولكل ثقافة “أسلوبها الخاص في التعامل مع مسائل وضع حد للمعاناة وإنهاء الحياة”. وعلى سبيل المثال، لا تلتزم ‘ديغنيتاس’ بالعمل في الدول الإسلامية، لأن مسألة القتل الرحيم لا تبدو موضوعاً قابلاً للنقاش هناك في الوقت الحالي. لكما لا ترى ‘ديغنيتاس’ نفسها كجهة تبشيرية، ولكن كطرف مُناصر للسكان أمام نخبة سياسية ودينية وطبية، تريد تقييد القتل الرحيم، أو منعه بالكامل.
بدورها، تشاطر اريكا برايسّيغ، رئيسة مؤسسة ‘الروح الخالدة’ الرأي القائل بأن النخب السياسية والدينية في البلدان الأخرى هي الأطراف التي تتمسك بحظر هذه الممارسة بالدرجة الأولى، بينما يرغب السكان في الواقع بالحصول على المساعدة على الإنتحار. وكما اخبرت swissinfo.ch: “تتمثل الأطراف التي تعمل ضدنا ولا تحترم رغبات الشعب دائما بالجماعات الدينية بالدرجة الأولى وبالسياسيين أيضاً”.
المواطنون يرغبون بتقرير مصيرهم في نهاية حياتهم
عند إلقاء نظرة على استطلاعات الرأيرابط خارجي، يتضح بأن نظرية منظمتي ‘ديغنيتاس’ والروح الخالدة” (Eternal SPIRIT) لها ما يدعمها بدون أدنى شك: ووفقا للمسوحاترابط خارجي، تعارض غالبية السكان في العديد من الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدةرابط خارجي أيضاً، فَرض حَظر على القتل الرحيم. على الجانب الآخر، يؤيد 56% من المتخصّصين في مجال الرعاية التلطيفيةرابط خارجي فرض حَظر على الإنتحار المُنَظَّم بِمُساعدة الغير. بدوره، أقر البوندستاغ (البرلمان) الألماني في عام 2015 تشريعاً يُقيّد هذه الممارسة على الرغم من معارضة غالبية السكان له، كما تشير استطلاعات الرأيرابط خارجي.
المزيد
منظّمة سويسريّة تطالب المسؤولين البريطانيّين بالسّماح للأشخاص بالانتحار
وكما يبدو، يوجد هناك تباين فعلي بين آراء المواطنين من ناحية، وبعض المهنيين أو السياسيين من ناحية أخرى. وبالتالي فإن ‘ديغنيتاس’ تثير عن حقرابط خارجي مسألة ما إذا كان التشريع المُقيّد للإنتحار بمساعدة الغير يتمتع بشرعية ديمقراطية كافية.
وفي سويسرا أيضاً، أظهرت الاستفتاءاترابط خارجي الشعبيةرابط خارجي واستطلاعات الرأي، رَفض غالبية كبيرة من السكان حَظر مُمارسة القتل الرحيم. وبفضل الديمقراطية المباشرة التي تتمتع بها البلاد، تحول هذا الموقف الليبرالي – وعلى عكس العديد من الدول الأخرى – إلى واقع قانوني أيضاً. وبعد أن عارض سكان زيورخ في عام 2011 بشدة الحد من الإنتحار بمساعدة الغير، تنازلت الحكومة السويسرية إثر ذلك بفترة قصيرة عن فكرة تنظيم هذه الممارسة.
المشاركة تظهر تأثيرها
كما يبدو واضحاً، فقد أظهر التزام المنظمات السويسرية الداعية إلى “الحق في الموت” بعض النتائج الأولية. “هناك تطورات إيجابية في مختلف البلدان التي كانت ‘ديغنيتاس’ منخرطة بالعمل فيها”، كما يقول فريق ‘ديغنيتاس’ بِفَخر، مُعَدِّداً إنجازاته في هذا المجال. وأشار الفريق إلى كندا، التي ألغت حَظر المُساعدة على الإنتحار بقرار قضائي، وكذلك ألمانيا، حيث جاء قرار محكمة القضاء الإداري العليا في إجراء قضائي لـ ‘ديغنيتاس’ في عام 2017، لصالح الحصول على وسيلة من وسائل إنهاء الحياة المحدد ذاتياً، كما جاء تصويت برلمان مقاطعة فيكتوريا (أستراليا) في موفي عام 2017، لصالح “مشروع قانون المساعدة الطوعي”.
بالرغم من هذه المنجزات، إلّا أن مهمة ‘ديغنيتاس’ لم تنته بعد. “لا يزال هناك الكثير مما يتوجّب القيام به، لضمان وجود حرية حقيقية في الإختيار وتقرير المصير، من أجل النهوض بمستوى جودة الحياة ومنع محاولات الانتحار”، كما تقول المنظمة.
(ترجمته من الألمانية وعالجته: ياسمين كنونة)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.