“مُستعدون للعمل مع الجميع وليست لدينا خطوط حمراء”
في عالم تنتشر فيه النزاعات المسلحة وما يُرافقها من إنتهاكات جسيمة بحق المدنيين، قد تبدو فكرة نشر المعايير الإنسانية الدولية عند الأطراف المسلحة غير الحكومية ضرباً من الخيال ومسألة لا طائل من وراءها. ولكن هذا بالضبط ما تفعله منظمة سويسرية إنسانية منذ 16 عاماً - وبنجاح.
على الرغم من أن الجميع كان سعيداً بعد اختتام المفاوضات بشأن اتفاقية حَظر الألغام المضادة للأفراد (المعروفة أيضاً بإتفاقية أوتاوا) في عام 1997، لم يمنع ذلك قلق بعض الخبراء؛ فهذا النوع من الألغام يُستخدم أساساً من قبل المجموعات المسلحة غير الحكوميةرابط خارجي لرُخص ثمنها وسهولة صنعها، ما يعني أن هذه المعاهدة لم تُعالج حسب رأيهم سوى جزء من المشكلة في الواقع.
وكما توضح إليزابيث ديكري-فارنررابط خارجي الرئيسة التنفيذية والمؤسِسة المشارِكة لمنظمة نداء جنيفرابط خارجي التي تهتم بتحسين حماية المدنيين في مناطق النزاعات المسلحة من خلال تشجيعها المجموعات المسلحة غير الحكومية على إحترام المعايير الإنسانية :”فَرَضت معاهدة أوتاوا إلتزامات على الدول الموَقِعة، ولكن ماذا عن المجموعات المُسلحة غير الحكومية التي لا يمكنها أن تصبح طرفاً في المعاهدات الدولية ذات الصلة بالمعايير الإنسانية لافتقارها للأهلية القانونية؟ من رحم هذا السؤال وُلدت منظمة نداء جنيف واستهدفت بشكل رئيسي حينها توفير آلية تتيح لهذه المجموعات التعبير عن التزامها بحظر الألغام المضادة للأفراد، والتي تمثلت بـ “صك إلتزام نداء جنيفرابط خارجي“، الذي يعكس هذه المعاهدات الدولية – اتفاقية أوتاوا في تلك الحالة – ولكنه مُتاح لتوقيع هذه الأطراف”.
واستنادا إلى نفس المبدأ، أطلقت ‘نداء جنيف’ لاحقاً صكي إلتزام جديدين، أحدهما حول حماية الأطفال في النزاعات المسلحة، والآخر حول حَظر العنف الجنسي والتمييز بين الجنسين في حالات النزاع المسلح. وتتيح هذه الصكوك للمجوعات المسلحة غير الحكومية التعهد باحترام قواعد إنسانية محددة وتملُّك هذه القواعد ومساءلتهم عنها علنا. وكما تقول ديكري فارنر :”لم تعد القواعد في هذه الحالة مفروضة من قبل المجتمع الدولي الخارجي، لكنها نابعة من قرار المجموعة الخاص”.
قواعد سلوك تختصر القانون الدولي
في السياق، ترى ديكري – فارنَر أن الإعتراف بالدور الواقعي والفعلي للمجموعات المسلحة غير الحكومية ومسؤولياتها مسألة حاسمة لو أراد المجتمع الدولي الحيلولة دون وقوع السكان المدنيين الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لنفوذ أو سيطرة هذه الجماعات ضحايا للنزاعات. وكما كتبت لـ swissinfo.ch، فإن “أغلب الصراعات المسلحة اليوم هي بين المجموعات المسلحة غير الحكومية والقوات الحكومية، أو بين هذه المجموعات أنفسها. وغالبا ما تُرتَكَب الإنتهاكات من قبل هذه المجموعات. وحيث لا يمكن لهذه المجموعات أن تصبح طرفا في المعاهدات الدولية التي تركز على حقوق والتزامات الدول أساساً، فإنها قد لا تشعر باضطرارها لاحترام قواعد لم تتقدم بها ولم تلتزم بها رسمياً. لذا فإن العمل معها عنصر حاسم في أي جهد لتعزيز شعورهم بمُلكية واحترام القواعد القائمة، وتحسين الحماية التي يحتاجها المدنيين بالتالي”.
وللتغلب على هذه التحديات، طورت “نداء جنيف” 15 قاعدة رئيسية لسلوك المقاتلينرابط خارجي المنخرطين في الصراعات المسلحة، تختصر صميم القانون الدولي الإنساني ويُلقى تنفيذها على عاتق المجموعات المسلحة. “لو إحترمت المجموعة المسلحة بعض هذه القواعد فقط، سيكون لذلك تأثير إيجابي على إحترام المدنيين خلال الصراع”، وفقاً لـ ديكري – فارنر.
منظمة نداء جنيف
هي منظمة غير حكومية محايدة ونزيهة تعمل على تعزيز احترام المجموعات المسلحة غير الحكومية للمعايير الدولية الإنسانية في النزاعات المسلحة وغيرها من حالات العنف، ولا سيما تلك المتعلقة بحماية المدنيين. وهي تتفاوض مع العديد من هذه المجموعات وتمنحها الفرصة لتوقيع “صكوك التزام” تُعبّرعن تمسكها بهذه المعايير في مجالات حَظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، وحماية الأطفال، وحظر العنف الجنسي والتمييز بين الجنسين أثناء هذه النزاعات ومسؤوليتها عن هذه القواعد.
عملت منذ إطلاقها رسمياً في مارس 2000، في نحو 25 بلداًرابط خارجي، ودخلت في حوار مع أكثر من 100 مجموعة مسلحة غير حكومية في جميع أنحاء العالم. ولحد الآن، تم التوقيع على 49 صك إلتزام لحظر الألغام المضادة للأفراد، و18 صك لحماية الأطفال في النزاعات المسلحة و16 صك لحظر العنف الجنسي والتمييز بين الجنسين. كما لجأت بعض المجموعات المسلحة غير الحكومية إلى إجراءات أخرى لمواءمة سياساتها وسلوكياتها مع المعايير الدولية الإنسانية.
يتم تمويل منظمة نداء جنيفرابط خارجي في المقام الأول من قبل جهات مانحة مؤسسية (الدول وحكوماتها) ووكالات الأمم المتحدة، والمفوضية الأوروبية، كما تتلقى التبرعات من الشركات والأفراد. وتساهم سويسرا بنحو 34% من ميزانية المنظمة الإجمالية.
يتشكل مجلس إدارة المنظمة من عدد من الشخصيات السويسرية المعروفة بضمنهم وزيرة الخارجية السويسرية السابقة ميشلين كالمي راي، والسفير السويسري السابق فرانسوا نوردمان.
الرصد والمحاسبة
كما يوضح هشام خضراويرابط خارجي، مدير عمليات منظمة نداء جنيف، فإنه “يتم التحضير بعناية كبيرة قبل توقيع أي مجموعة مسلحة غير حكومية على صكٍ للإلتزام؛ حيث نجلس مع قادتها لإعداد خطة تطبيق واضحة ومناقشة الخطوات التي سيتبعونها لتطبيق بنود الصك، والتي تُدوَّن بوضوح لدى منظمتنا ولدى الطرف المعني”.
ويُلزِم صك الإلتزام المجموعات المسلحة غير الحكومية الموقِعة على السماح لـنداء جنيف بالتحقق من امتثالها لما تم الإتفاق عليه في الصك، الأمر الذي يتم على ثلاثة مستويات: رصدٌ ذاتي تنفذه المجموعة المسلحة من خلال تقارير سنوية ترفعها إلى ‘نداء جنيف’ بشأن التدابير المُتخذة لتنفيذ ما جاء في الصك؛ ورَصد مستقل تنفذه ‘نداء جنيف’ من خلال جمع المعلومات من مجموعة من الجهات الفاعلة الخارجية الموجودة على أرض الواقع (مثل وسائل الإعلام والمنظمات الدولية والمحلية)؛ والبعثات الميدانية التي تنفذها المنظمة لمتابعة تنفيذ هذه الصكوك، والتحقق في حالة وجود إدعاءات بوقوع انتهاكات.
بطبيعة الحال، لا يضمن التوقيع على صك الإلتزام بحد ذاته احتراماً أفضل للمعايير الإنسانية “لكنه يشكل أداة مفيدة لمحاسبة الموقعين ومساءلتهم عن تعهدهم علناً”، كما تقول ديكري – فارنَر.
وقد يحدث أن لا تلتزم الأطراف الموقِعة بما تُمليه عليها هذه الصكوك. “هذا يقلقنا بالتأكيد. وفي حالات كهذه، وبعد أن تثبت لنا العديد من الزيارات الميدانية والنقاش مع المجموعة المعينة بأن الإنتهاكات مازالت موجودة، يمكننا – وقد حدث ذلك – أن نشير إلى عدم إلتزام الطرف المُعين بما جاء بالصك في وسائل الإعلام أو من خلال موقعنا على الإنترنت، وبأن المدنيين هم من يدفع الثمن وأن هذا لا يجوز”، يعلِّق خضرواي. وهكذا مثلاً، كتبت “نداء جنيف” عن عدم إلتزام وحدات الحماية الشعبية (وهي مجموعات مسلحة كردية في شمال سوريا – التحرير) المعروفة بـ (YPG)- الذين وقعوا على صك إلتزام لحماية الأطفال من تأثيرات النزاعات المسلحة في عام 2014 – على موقعها على الإنترنت. “مع ذلك، نبقى جاهزين لمساعدة هذه الأطراف لكي يكونوا أكثر إلتزاماً، ونحتفظ بحوار معهم لمعرفة ما إذا كانوا يواجهون صعوبات في التطبيق”.
بين الإشادة والإنتقاد
وفي تعليقه على التقارير المتضاربة بشأن إحدى المجموعات المسلحة غير الحكومية التي تتواصل ‘نداء جنيف’ معها في العراق وهي “الحشد الشعبي”، حيث يتهمها البعض بالممارسات اللاإنسانية ضد المدنيين خلال معارك التحرير ضد تنظيم “داعش”، فيما يشير البعض الآخر إلى إشادة منظمة نداء جنيف بـ “تعاملها الإنساني”، يقول خضراوي :”تنفذ منظمتنا برامج مع كافة الأطراف المسلحة غير الحكومية في العراق، وهذا مهم جداً بسبب الحاجة الماسة لتحسين فهم القانون الدولي الإنساني من قبل جميع الأطراف هناك، ولاسيما الحشد الشعبي بسبب تواجدهم في العديد من مواقع القتال”.
وكما يضيف: “من المؤكد أن هناك إنتهاكات من قبل جميع الأطراف. ونحن نُنبه الطرف المُنتهك إلى عدم جواز حدوث ذلك، لكننا نلجأ لأسلوب الحوار، لأنني وجدت من خلال عملي الطويل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الإكراه لا ينفع. علينا أن نتحاور – لكن بجدية – وأن نتابع ما يحدث خطوة بخطوة، وأن نتحدث مع المسؤولين في المجموعة عند حدوث خروقات”.
وبرأي خضراوي، يعود أحد أهم أسباب هذه الإنتهاكات إلى الإفتقار للتدريب”يضم الحشد الشعبي مثلاً تشكيلة كبيرة من الأشخاص الذين انضموا إلى هذا الوحدات من مناطق مختلفة. لكنهم يفتقرون إلى أي تدريب أو معرفة بالقانون الدولي الإنساني، لأن أحداً لم يفكر بالأهمية الكبيرة لتوعيتهم قبل توكيلهم هذه المهمة. نحن نوفر هذه التدريب – ليس للجيش الحكومي، فهؤلاء تدربوا في الكليات العسكرية ولديهم مواردهم – ولكن للأطراف المُسلحة غير الحكومية التي لا تتوفر على هذه الإمكانيات”.
“لا تقدم أي نوع من الشرعية”
من جهتها، تشدد ديكري – فارنَر على حقيقة أن توقيع أي مجموعة مسلحة غير الحكومية على أحد صكوك الإلتزام لا يمنحها أي اعتراف أو شرعية أو صفة رسمية أو المزيد من السلطة أو النفوذ – وهذا منصوص عليه بوضوح في صك الإلتزام نفسه.
وكما كتبت لـ swissinfo.ch، فإن “‘نداء جنيف’ منظمة غير حكومية إنسانية ومحايدة، وهي لا تقدم أي نوع من الشرعية. كما تتضمن كافة صكوك الإلتزام بندا مُستوحى من المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربعة، يُقِرُ بها الموقع أن توقيعه لا يؤثر على الوضع القانوني للمجموعة المسلحة غير الحكومية”.
غير مُرحّب بها دائماً
وقبل التوجه إلى أي منطقة نزاع مسلح، تنفذ ‘نداء جنيف’ عملية تقييم أمني للأوضاع في تلك المناطق. “يتسم هذا التقييم بجدية عالية، حيث نجري إتصالات مباشرة مع المجموعة المسلحة غير الحكومية المعنية، والسلطات الحكومية، والأطراف الأمنية والسياسية للتعرف على الوضع من جهتهم، كما نأخذ المعلومات من المجتمع المحلي – مثل شيوخ العشائر في الدول العربية – وكذلك من الجهات الإعلامية”، كما يوضح خضراوي.
كما تتبادل ‘نداء جنيف’ الكثير من المعلومات مع منظمات أخرى مثل المنظمة الدولية للصليب الأحمر، ولاسيما بشأن تحليل الأوضاع في مناطق النزاعات المسلحة.
ومع تفهم غالبية الدول للطبيعة الإنسانية لنشاطات ‘نداء جنيف’، تبقى هناك حكومات أخرى لا ترحب بعملها، لأنها ترى أنها تعمل مع أطراف يعتبرونها إرهابية. وللتغلب على هذه العقبة “تسعى نداء جنيف للجلوس مع ممثلي هذه الحكومات قبل البدء بأي مهمة، أما من خلال بعثاتها الدبلوماسية في جنيف، أو في البلد المعين نفسه لكي نعطيهم فكرة كاملة عن الطبيعة الإنسانية الصرفة لعملنا”، بحسب خضراوي. “مع ذلك، ترفض بعض الدول هذه الفكرة وعلينا إحترام موقفها. وعلى سبيل المثال، هناك صعوبات مع تركيا بسبب تعاملنا مع حزب العمال الكردساني، ولكننا جاهزون دائماً للتواصل معهم لإبادة أي سوء فهم أو نقص في المعلومات من جهتنا”، على حد قوله.
مع ذلك، تصل رسالة ‘نداء جنيف’ إلى جميع الأطراف المعنية عن طريق وسائل الإعلام أو الإنترنت، ومن خلال برامجها المنوعة التي تأخذ شكل أفلام فيديو، ورسائل راديو، وكتيبات عن القانون الإنساني الدولي، أو من خلال حملة “مقاتل لا قاتلرابط خارجي” المتوفرة على شكل تطبيق يمكن تحميله على الهواتف النقالة.
“لا خطوط حمراء لدينا”
ومع الإعلان عن إنطلاق معركة استعادة الموصل، وتزايد المخاوف من إحتمال حدوث كارثة إنسانية جديدة في العراق، يبرز السؤال عن مدى استعداد ‘نداء جنيف’ للتواصل مع تنظيم “الدولة الإسلامية”.
“ليس لمنظمة نداء جنيف خطوط حمراء”، يجيب خضراوي، “نحن جاهزون للعمل مع أي مجموعة مسلحة غير حكومية هي طرف في نزاع معين. إن مهمتنا إنسانية بحتة، وعندما توجد مجموعة مسلحة غير حكومية تؤثر بصورة سلبية على المدنيين، علينا ان نتحدث معها لنرى كيف نستطيع تغيير الوضع. مع ذلك، لا توجد لحد الآن إتصالات مباشرة مع هذه الأطراف. لكن برامجنا الإعلامية تصل إلى كل مكان، وقد ترى هذه المجموعة بعد إطلاعها على هذه المواد أن الإتصال معنا مفيد لها”.
وبعد 16 عاماً من العمل الدؤوب، تم التوقيع على 49 صك إلتزام يحظر الألغام المضادة للأفراد، و18 صك لحماية الأطفال في النزاعات المسلحة و16 صك لحظر العنف الجنسي والتمييز بين الجنسين.
لكن ديكري – فارنَر لا ترى أن هناك نجاح أهم من الآخر. وهي تعلَّق متسائلة :”أيهما أهم: نجاحنا في تسريح أطفال كانوا يعملون كجنود مع إحدى هذه المجموعات؟ أو توصلنا لإزالة الألغام من إحدى القرى، أو أن نرى تَبَني مجموعة مسلحة لقواعد سلوكية جيدة والتزامها بالمعايير الدولية؟ ليس هناك مقياس للتقدم في الواقع. نحن نواصل جهودنا خطوة بخطوة، لتشجيع الجماعات المسلحة غير الحكومية على احترام القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين. وكل خطوة باتجاه هذا الهدف هي نجاح للمنظمة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.