تساهم سويسرا في تحديث المؤسسات الإذاعية في بلد الديمقراطية العربية الناشئة، بالشراكة مع مؤسسة إيرونديل. في هذا الإطار، تلقى عشرون مراسلا محليا يعملون في المناطق المهمّشة من البلاد تدريبا خاصا في الأعوام الأخيرة.
تم نشر هذا المحتوى على
15دقائق
بينجامين كيلّر- تونس وجندوبة
Deutsch
de
Tunesisches Staatsradio mausert sich zum Service Public
“قبل ثورة 2011، كانت الإذاعة التونسيةرابط خارجي وسيلة دعاية. كنا نتلقى المستجدات المتعلّقة بنشاط الرئاسة، ونبثّها كما هي. تغيير العادات السيئة يستغرق وقتا”. هكذا يلخّص علي منيف الجلاصي (40 عاما)، مدير إذاعة الكاف منذ أغسطس 2014، وهي واحدة من بين خمس محطات محلية تابعة للإذاعة التونسية الرسمية.
هذا الرجل يعرف جيّدا عمّ يتحدث.. لقد التحق بهذه المؤسسة في عام 1998 كصحفي. ولكي ينجح في “تغيير العادات السيئة”، بإمكان هذا المسؤول الشاب الإعتماد على الدعم السويسري اليوم.
في إطار دعمها لعملية الإنتقال الديمقراطي في تونس، تموّل الكنفدرالية برنامجا أطلقته مباشرة بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011، يهدف إلى “الإسهام في تحويل الإذاعة الوطنية إلى وسيلة إعلام في خدمة المواطنين”، على حد عبارة سهيل خيّاطي، المسؤول عن البرامج في قسم التعاون الدولي في السفارة السويسرية في تونسرابط خارجي.
لتحقيق ذلك، تتعاون مؤسسة إيرونديلرابط خارجي، وهي منظمة سويسرية غير حكومية متخصصة في إنشاء وسائل إعلام مستقلّة في مناطق النزاعات مع مؤسسة الإذاعة التونسية. ويقول مارك فيلّورموز، الخبير الإعلامي بهذه المؤسسة في تونس، حيث يعمل هناك رفقة ثلاثة أشخاص آخرين: “نحن نعمل كمرافقين/ مدرّبين هنا، وهو ما يختلف نوعا ما عن الأنشطة التي نقوم بها عادة”. وقد سبق لهذا الخبير الفرنسي البالغ من العمر 57 عاما، أن اشتغل على مدى 23 سنة ضمن فريق إذاعة فرنسا، قضى منها 18 عاما مسؤولا عن البرامج في محطات إذاعية محلية.
المزيد
المزيد
“إيرونديل” السويسرية تدعم إصلاح العمل الإذاعي في تونس الجديدة
انطلق المشروع في يوليو 2011. وكانت حصيلته الأولى تدريب الصحافيين لضمان تغطية نزيهة، وتعددية، ومتوازنة لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي أجريت يوم 23 أكتوبر 2011 بعد تسعة أشهر من اندلاع الثورة. ومنذ ذلك الحين، تركّزت الجهود على تحديث الإذاعات الجهوية/ المحلية، الواقعة في المناطق الداخلية، التي ظلت مُهملة تاريخيا على عكس المناطق الساحلية في الشمال الشرقي خصوصا. وقد جعلت سويسرا دعم هذه المناطق المحرومة من أولويات استراتيجيتها للتنمية والتعاون في البلاد.
في هذا السياق، أعيد تشكيل غرف الأخبار، وتغيير الهيكلة التنظيمية لإذاعة قفصة (الجنوب الغربي)، وإذاعة تطاوين (الجنوب الشرقي)، وإذاعة الكاف (الشمال الغربي)، كما أجريت دراسات استقصائية للتعرّف على انتظارات المستمعين، وتم إطلاق بعض البرامج الإستكشافية. لقد أعيد النظر في تصاميم الصوت والإيقاع، وفي طرق الإنتقال من برنامج إلى آخر، والحضور على الإنترنت، وكذلك سبل التحكّم والإدارة، فضلا عن أساليب عمل الصحافيين. وهنا يضيف فيلّورموز: “لقد كنّا نشدّد على أهمية النزول إلى الميدان، وهو ما كان مفقودا” في السابق.
بموازاة ذلك، تم انشاء عشرة مكاتب مراسلين تابعة لمحطات الإذاعات المحلّية لتغطية المناطق الأكثر حساسية. وفي كل واحد من هذه المكاتب، يعمل إثنان من الصحافيين، وهم في معظمهم من الشبان المتخرجين من معهد الصحافةرابط خارجي في الفترة الأخيرة، ومن الذين لا يمتلكون خبرة مهنية طويلة. وقد تلقوا تدريبا عمليا في مواقع مختلفة لعدة أشهر من قبل مؤسسة إيرونديل مدعومة بعدد من المستشارين.
رافقت swissinfo.ch فيلّورموز في زيارة ميدانية إلى المكتب المحلّي بجندوبةرابط خارجي، وهي مدينة صغيرة تبعد نحو ساعتيْن ونصف بالسيارة إلى الغرب من تونس العاصمة، وعاصمة المحافظة التي تحمل نفس الإسم. هذا المكتب الذي افتتح في يناير 2014، يتبع إذاعة الكافرابط خارجي، التي تتعاون معها أيضا مؤسسة إيرونديل. رِفْقة عبيدي (30 عاما) وهشام صغايري (27 عاما)، كانا في الإستقبال بابتسامات عريضة، فلقاء مارك فيلّورموز حدث مُبشّر ويزرع الأمل.
تقع هذه المباني في وسط المدينة، وتشتمل على غرفة بها أستديو للتسجيل، بجانبه يوجد حاسوب والمعدّات اللازمة، وهي مقدّمة من طرف مؤسسة إيرونديل، لتحرير المواد وإرسالها.
يعمل الزميلان الصحافيان ستة أيام في الأسبوع، بتنسيق وثيق مع مكتب إذاعة الكاف، الموجودة في مدينة تحمل نفس الإسم، وتبعد عن جندوبة حوالي 50 كيلومترا. ويشارك هذان الصحافيان يوميا في نشرات الأخبار، وفي برامج أخرى هادفة. كما بات يُطلب منهما بإنتظام اعداد موادّ إذاعية مختلفة لفائدة المحطات المحلية الأربع التابعة للإذاعة التونسية. ويُدفع لهم كأجر شهري 936 دينارا (460 فرنك سويسري)، أي ضعف متوسّط الأجر في تونس.
مؤسسة إيرونديل
منظمة سويسرية غير حكومية خاصة بالإعلاميين وبالمشتغلين في مجال العمل الإنساني. ومنذ 1995، تقوم هذه المؤسسة بإنشاء وسائل إعلام أو تقدم الدعم والعون لمؤسسات موجودة أصلا، كما تحرص على أن تكون هيئات إعلامية مستقلة في خدمة جميع الفئات بدون استثناء، خاصة في المناطق التي تشهد حروبا، أو الخارجة لتوها من أوضاع تتسم بعدم الإستقرار.
تقوم مؤسسة إيرونديل على تطوير وسائل إعلام شعبية، وتحرص على أن تنال هذه الأخيرة ثقة المواطنين في البلدان التي تنشط فيها. كما تُولي عناية كبيرة لعامليْ المصداقية والثقة عبر تأسيس صحافة تتميّز بالحرفية والدقة.
يُشرف على المؤسسات الإعلامية التي تنشؤها إيروندال أشخاص من أبناء البلد الذي يُوجد فيه المشروع، وتكون كل البرامج ما أمكن باللغة الوطنية لذلك البلد.
وتحرص هذه المؤسسة على أن ضرورة تميز الهيئات الإعلامية التي تستفيد من دعمها بالإستدامة، وأن تعمل على أداء دورها الإعلامي والاجتماعي على أكمل وجه.
تدعم إيرونديل حاليا وسائل إعلام في جمهورية وسط إفريقيا، وسيراليون، وليبيريا، والسودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتنزانيا، والآن تونس.
تهدف المؤسسة، بإذاعاتها الخمس ووكالة الأنباء الخاصة بها، إلى إنشاء أو دعم 15 وسيلة إعلام بحلول عام 2015.
في عام 2010، حصلت مؤسسة إيرونديل على دعم من حكومات ألمانيا، وبلجيكا، والولايات المتحدة، وإيرلندا، واللوكسمبورغ، وهولندا، والمملكة المتحدة، والسويد، وسويسرا، ومن طرف الإتحاد الأوروبي، والمنظمة الدولية للفرنكوفونية، وأيضا من قبل شركاء ومانحين خواص، ومن متبرعين فرديين.
يتكون فريق مؤسسة إيرونديل من مجموع 213 موظفا حول العالم من حوالي عشرين جنسية: يتواجد 16 منهم في مقر المؤسسة بمدينة لوزان، و16 سويسريا يعملون على الميدان، و181 من الصحفيين والمنشطين والتقنيين والإداريين والمتعاونين المحليين الذين يعملون بموجب عقد. في عام 2010، بلغت ميزانية المؤسسة 9 مليون فرنك.
“الناس بحاجة للتعبير”
في نهاية الفترة الصّباحية، خرج هشام ورفقة للقيام بنقل صوتي مباشر ومطالبة المارة في الشارع بالتعبير عن موقفهم من سلسلة الإضرابات المتكررة التي تهزّ مختلف القطاعات في مناطق متعددة. لم تكن هناك حاجة لقطع مسافة طويلة. على بعد أمتار قليلة من المكتب، طرحا السؤال على مجموعة من الرجال الذين كانوا يحتمون من أشعة الشمس بظلال شجرة، وتجمّع حشد من الناس من حولهما، وتوقّف المارة. الجميع يريد التعبير عن رأيه وشرح شكواه، التي تتجاوز إلى حد كبيرة موضوع الإضرابات المتكررة. رجل عجوز يعرض الفواتير التي تثقل كاهله، تحت أعين طيور اللقلق التي تعشش في المدينة.
تقول رفقة، خلال فترة استراحة قصيرة: “الناس متعبون. هم يشتكون من الفساد، ومن انعدام الأمن الإجتماعي، أو من القدرة على الحصول على مياه”.
وتونس التي أصبحت لها حكومة مستقرة بعد الإنتخابات التشريعية والرئاسية التي نُظّمت في موفى عام 2014، تواجه تحديات في جميع المجالات. وعلى غرار بقية محافظات الشمال الغربي، تعاني جندوبة بشكل خاص. ففي هذه المنطقة الزراعية والجبلية، يتجاوز معدّل البطالة 25% مقابل 15% على المستوى الوطني. وتمس نسبة الأمية ثلث السكان هناك. والوضع مناسب لتفريخ التطرّف. فالمنطقة تشهد في فترات متقطعة صدامات واعتقالات بين مسلحين وقوات الأمن.
في الأثناء، لا يُخفي فيلّورموز – الذي اكتفى بمراقبة هذيْن الصحافييْن – ارتياحه وسعادته الغامرة، ويقول: “أنا معجب جدا بعملهما. نشعر بحاجة الناس إلى التعبير. وهناك حاجة ملحة إلى صحافة قريبة من جمهورها”. وبعد العودة إلى المكتب، قال فيلّورموز، وهو يتحدّث إلى الصحافيْين: “أنتما لسان حال هؤلاء!”. ولا يبعد عن ذلك كثيرا عن الشعار الجديد الذي ترفعه إذاعة الكاف، “صوت الشمال الغربي”.
تزايد عدد المستمعين
يبدو أن الجهود المبذولة بدأت تؤتي أكلها. فاليوم، تتصدّر إذاعة قفصةرابط خارجي وإذاعة تطاوينرابط خارجي، وإذاعة الكاف، عدد المستمعين في مناطقها، وتسبق في ذلك المؤسسات الإعلامية الخاصة، وهذا وفقا لاستطلاعات معهد سيغما المتخصص في سبر الآراء.
علي منيف الجلاصي، مدير إذاعة الكاف لا يُخفي سروره بذلك ويقول: “يوجد نفس جديد. فالمكاتب المحلية غيّرت الأشياء فعلا. عندما تطرأ حادثة معيّنة في جندوبة، ننقل الخبر عبر الهاتف. وحضور هذيْن المراسليْن زاد أيضا في حجم تغطية المحطات الوطنية لما يجري في المنطقة، بعد أن أصبح لديها الآن صحافيون محليون على عيْن المكان، ومحيطون بتعقيدات الوضع المحلّي”.
حتى الآن، لا تزال رواتب المراسلين العشرين الذين تشرف على تدريبهم مؤسسة إيرونديل مدعومة من طرف البرنامج، إلا أنه سيتعيّن على الإذاعة التونسية أن تتكفّل بتوفير الأجور بنفسها في نهاية المطاف. في الأثناء، تجري مفاوضات للتمديد في هذا البرنامج إلى عام 2017، وتوسيع دائرة المستفيدين منه. ويأمل مدير إذاعة الكاف أن يكون “التغيير الذي حصل مُستداما”، ويضيف: “عندما تقرّر مؤسسة إيرونديل المغادرة، لابد أن نواصل إعادة تنظيم وهيكلة القطاع العام، ولابد من تعزيز القوانين لمنع أي عودة للدعاية”.
سويسرا البلد المانح الوحيد
تجري مفاوضات لتمديد العمل بمشروع الدعم الذي تتلقاها الإذاعة الوطنية التونسية إلى عام 2017. ومن الأهداف المرجوة استكمال تحديث المحطات الإذاعية المحلية، والعمل مع إذاعة صفاقسرابط خارجي وإذاعة المنستيررابط خارجي الواقعتان على الساحل الشرقي، وذلك لإحراز تقدّم مشابه لما حصل في المحطات المحلية الأخرى (قفصة، الكاف، تطاوين).
الخطوات الأخرى المزمع اتخاذها تتعلّق بالصحافيين البرلمانيين العاملين في مقرّ مجلس نواب الشعب وتهيئتهم للعمل في مجال تغطية نشاط هذه المؤسسة التشريعية، ولكن أيضا الإرتقاء بالموقع الإلكتروني للإذاعة الوطنية، وتحسين جودة الصوت، واقتناء معدّات جديدة. وقد خصصت سويسرا لهذا البرنامج منذ شهر يوليو 2011، حوالي 2.5 مليون فرنك، ومن الممكن أن تخصص 1.5 مليون فرنك إضافية. وبعد أن كانت سويسرا أهمّ الجهات المانحة في المرحلة الأولى، أصبحت الآن الممول الوحيد للبرنامج.
عموما، يهدف البرنامج السويسري لدعم الإنتقال الديمقراطي في تونس إلى تمويل مشروعات تنموية وتعاونية في المجال الإقتصادي، وفي ميدان الهجرة والإصلاح الديمقراطي، مع تركيز خاص على المناطق الداخلية المهمّشة. وقد ارتفعت الميزانية العامة لهذا البرنامج من 10 مليون فرنك إلى 25 مليون فرنك ما بين عامي 2011 و2014. ويجري حاليا تنفيذ حوالي 70 مشروعا هناك.
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.
اقرأ أكثر
المزيد
شراكة إستراتيجية بين برن وتونس من أجل إنجاح التحوّل الديمقراطي
تم نشر هذا المحتوى على
وخلال الوضع الإنتقالي الحالي، المتميّز بالهشاشة وعدم الإستقرار نسبيا، يعتبر نجاح انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ليوم 23 أكتوبر وضمان شفافيتها أولوية وشرطا أساسيا للمضي قدما في هذا المسار التعاوني بين البلدين. وخلال ندوة سياسية بعنوان “ثورات العالم العربي بين الآمال والتخوّفات” عقدتها وزارة الخارجية السويسرية يوم الثلاثاء 18 أكتوبر 2011 ببرن بحضور عينة من الشباب…
“الصراعات المقبلة تتطلب منح الأولوية لإعلام موضوعي ومستقل”
تم نشر هذا المحتوى على
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط.
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط. وقد تم تكريم هذه التجربة بحصول المؤسسة على جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014.
بهذه المناسبة، أجرت swissinfo.ch حديثا مطولا مع أحد مؤسسي إذاعة هيرونديل ومديرها الحالي جون ماري إيتر الذي يأسف لـ "عدم وعي المجموعة الدولية جديا بأهمية الإعلام المحايد والموضوعي في مناطق الصراعات".
تعود فكرة تأسيس مؤسسة هيرونديل إلى تجربة الصحفي التلفزيوني السويسري فيليب داهيندن أثناء قيامه بربورتاج في رواندا أثناء الحرب الأهلية. وعند عودته الى سويسرا، شعر بنوع من الغضب لكون الواقع المعاش ومعاناة الناس هناك بعيدين كل البعد عما يُتداول إعلاميا في الغرب.
وعند مفاتحة صديقيه المقربين، فرانسوا غروس وجون ماري إيتر بالموضوع، قرر الثلاثة التجند من أجل عمل قد يساعد السكان هناك. وأحسن ما كانوا يتقنونه جميعا هو مهنة الصحافة، لذلك اختاروا وضع تجربتهم في خدمة السكان في مناطق الصراعات للتخفيف من معناتهم. وعن ذلك يقول جون ماري إيتر: "كانت انطلاقتنا من هنا، دون معرفة السبيل الذي سنسلكه. وكانت البداية بتأسيس أول محطة إذاعية في رواندا، كان عليها إقبال كبير وسمحت لنا باكتساب التجربة واستخلاص الدروس، ومنها أولا وقبل كل شيء، معرفة أن ما يحتاجه الناس في مناطق الصراعات المسلحة بالدرجة الأولى، هو الحصول على معلومات موضوعية و ذات مصداقية". وقد ساعدهم في ذلك انحدارهم من سويسرا هذا البلد "الذي ليست له أجندات خفية أو ماض استعماري، والذي تسمح قوانينه بقيام مؤسسات مثل مؤسسة هيرونديل، دون ممارسة أية ضغوط عليها"، على حد قول إيتر.
القناعة التي اهتدى لها مؤسسو مؤسسة هيرونديل، اعتمدت أيضا على تجربة إيتر أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، لما كان الناس "يحاولون بكل الوسائل ويتوقون إلى الحصول على معلومات نزيهة وذات مصداقية يمكن الإعتماد عليها ولو فقط في تنقلاتهم، ولمعرفة المحيط الذي يتواجدون فيه. وثانيا لتفادي تأثير الدعاية الهدامة من هذا الطرف أو ذاك"، مثلما يقول إيتر.
بعد رواندا، توسعت تجربة مؤسسة هيرونديل في إقامة محطات إذاعية إلى الكونغو الديمقراطية ثم جنوب السودان. وللمؤسسة مراكز إنتاج إذاعية في مالي ومراكز تكوين وإنتاج في غينيا وكوت ديفوار. وتقوم المؤسسة بأول تجربة في تونس من خلال تعاون مع الإذاعة الوطنية تسمح للعاملين في هذه الإذاعة بـ "التحول من إذاعة الدولة التي كانت قائمة في عهد نظام بن علي، إلى إذاعة وطنية تابعة للقطاع العام وتقدم خدمة للجمهور"، على حد تعبير إيتر.
جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014
حصلت مؤسسة "هيرونديل" (وتكتب أيضا إيرونديل Hirondelle) على جائزة الحملة الدولية لشارة حماية الصحفي لعام 2014 على العمل الذي قدمته للإعلام والإعلاميين في مناطق الصراعات المسلحة في كل من رواندا والكونغو الديمقراطية وجمهورية وسط إفريقيا والسودان وجنوب السودان وتونس.
وفي تعقيبه على ذلك، صرح مدير مؤسسة هيرونديل جون ماري إيتر: "من المفرح جدا الحصول على جائزة، لأن ذلك يعني بأن هناك اعترافا بما نقوم به من عمل. والحصول على هذا الاعتراف من زملاء صحفيين معتادين على الإنتقاد بالدرجة الأولى، فهذا له وقع أكبر، خصوصا وأن العمل الذي نقوم به غير ظاهر للعيان في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن الحصول على جائزة من هذا النوع يسمح بالتعريف بنا أكثر".
الحفاظ على المصداقية وسط صراع مسلح!
أكيد أن سكان المناطق التي تعرف حروبا أهلية أو صراعات مسلحة، كثيرا ما يلجأون لمتابعة الأوضاع عبر الإذاعات الدولية. ولكن متابعة الأوضاع عبر هذه الإذاعات تتم من منطلق أن لكل إذاعة أجندتها الخاصة. يُضاف إلى ذلك أن كل طرف من أطراف النزاع يرغب في التحكم في وسائل البث الإذاعي ، لأن الحرب الإعلامية من الاستراتيجيات المتبعة من قبل الجميع، كل حسب وسائله المتاحة.
ولهذا يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن "الصعوبة في إقامة إذاعة مستقلة وموضوعية في منطقة صراع مسلح تواجه العديد من التحديات وفي مقدمتها، قبول كافة الأطراف بهذا التواجد. فلا أحد يعرف جيدا طريقة عملكم، وبالتالي فإن الجميع ينظر إلى المشروع بنوع من التحفظ سواء الحكام أو المحكومين. يُضاف إلى ذلك أن قوانين الإعلام السائدة في مناطق مثل إفريقيا أو الشرق الأوسط هي قوانين تحديدية أو وقائية. والتحدي الثاني هو الحصول على التمويل الضروري للقيام بهذه النشاطات".
من النقاط التي يصر عليها مدير مؤسسة هيرونديل من أجل القيام بعمل مماثل في مناطق الصراعات، "ضرورة التعامل مع كافة أطراف الصراع دون إقصاء، وبحياد وموضوعية لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإعطاء المحطة المصداقية الضرورية. ويدفع حتى الحكام، الذين يُنعتون بجميع الأوصاف، من ديكتاتوريين ومستبدين، و غير الراضين كل الرضا عن طريقة عملنا، للشعور بضرورة الإستفادة من خدماتنا ومن الشعبية التي أصبحنا نكتسبها بين السكان".
الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن السيد جون ماري إيتر اكتفى بذكر ما حدث من خلال برنامج إذاعي في إذاعة "أوكابي" بالكونغو، تم فيه توجيه الدعوة إلى مرشحين لشغل منصب كثر حوله الجدل، أي منصب رئيس هيئة الأركان وقائد الجيش. وتردد فيه أن تأخير التعيين راجع الى وجود خلافات بين المرشحين، الأمر الذي أخر إكمال بناء المؤسسات في هذا البلد ذي الإستقرار الهش. لكن ما حدث أثناء اللقاء الإذاعي" سمح للمواطنين في الكونغو باكتشاف أن الرجلين كانا مؤدبين في تخاطبهما، وواضحين في عرضهما لأسباب الاختلاف. كما أن المرشحين اكتشفا أثناء اللقاء أنهما قادران على الحوار، وبالتالي طلبا مواصلته عبر حلقات جديدة من نفس البرنامج".
وأضاف إيتر أن مؤسسته نظمت مؤخرا في مالي "جلسة في برنامج إذاعي بين ممثلين من العاصمة، وممثلين عن شمال البلاد لعرض وجهات نظرهما في وقت كانت فيه قوات كل طرف تخوض معارك ميدانية بالسلاح مخلفة قتلى وجرحى. وهذا ما سمح للمواطن العادي بالتعرف على هؤلاء القادة الذين يخوضون الحرب، وعلى مواقفهم".
وعن جمهورية وسط إفريقيا التي تعرف صراعا تريد أطراف معينة أن تضفي عليه طابع الصراع الديني بين مسيحيين ومسلمين، يقول إيتر: "نقوم منذ حوالي 15 عام بتجربة إذاعة "نديكي لوكا" التي تحولت إلى أول محطة إذاعية في البلد، بفضل صرامة الخط الذي ننتهجه، ومدى حرصنا على التعامل مع مختلف الأطراف، وعملنا على تجنب استخدام عبارات مضرة. ولئن لم يكن بوسعي التكهن بعدد الضحايا الذين استطعنا تجنب سقوطهم، فإنه بالإمكان القول بأن خطنا الإعلامي سمح في هذا الجو المفعم بالعنف الطائفي، بلعب دور هام في التخفيف من حدة هذا العنف".
مؤسسة "هيرونديل" في العالم العربي
تقوم مؤسسة هيرونديل بتجربة في تونس بعد الثورة تهدف لمساعدة التونسيين على "تطوير قطاع إعلامي عمومي مستقل عن تأثيرات هذه الفئة أو تلك، ويعكس التعددية الحقيقية المتواجدة في المجتمع التونسي"، على حد قول جون ماري إيتر، مدير مؤسسة "هيرونديل".
عمليا، شرعت مؤسسة "هيرونديل" وبدعوة من الإذاعة الوطنية التونسية، وبعد إنجاز برنامج عن تغطية الإنتخابات المتعلقة باعتماد الدستور، في إنجاز مشاريع مع محطات جهوية تابعة للإذاعة الوطنية، بدأت بمحطة قفصة. ويقول إيتر: "بدأنا في تطوير قنوات المراسلين لكي يكونوا أقرب من الجمهور، وبتطوير البرامج وتحديثها لكي تصبح في المرتبة الأولى كقطاع عام وحتى في مواجهة وسائل الإعلام الخاصة". "وهذا ما حصل بالفعل"، حسب تقدير مدير مؤسسة هيرونديل، "وهو ما سيتم تعميمه في باقي المحطات الجهوية إذا رغبت الإذاعة التونسية في ذلك".
في جنوب السودان، قامت مؤسسة هيرونديل حتى وقت قريب بتعاون مع إذاعة الأمم المتحدة، شأنها في ذلك شأن التعاون القائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويقول مدير مؤسسة "هيرونديل": "إن الأمم المتحدة هي التي طلبت منا تحديد معالم وطبيعة العمل الإعلامي في جنوب السودان، بعد التجربة التي قمنا بها لعدة سنوات في السودان قبل عملية استقلال الجنوب. ولكن هذا التعاون توقف الآن".
ومن المناطق العربية التي يرى أنها "في أمس الحاجة إلى إعلام مستقل"، يذكر السيد إيتر سوريا، قائلا: "بما أننا لا نقبل العمل في بلد إلا من الداخل، ونرفض أي نشاط موجه من الخارج، وبالنظر إلى الوضع المتأزم من الناحية السياسية والعسكرية، بل حتى الإنسانية والإعلامية، كيف يمكن الحصول على موافقة، سواء النظام في دمشق أو الأطراف التي تحارب النظام، على تواجد لنا هناك بشروطنا وبطريقة عملنا الإعلامية. ولو يحدث ذلك، فإنه سيكون مهما جدا بالنسبة للشعب السوري. لقد استمعنا لعدة اقتراحات في هذا الإطار، ولكن بدا لنا في كل مرة أنه من غير الممكن تطبيق ذلك على الأرض".
وإذا كانت التطلعات لعمل مستقبلي تشمل كلا من مصر وليبيا "إذا ما طُلب من مؤسسة هيرونديل القيام بذلك"، فإن مدير مؤسسة هيرونديل يعبر عن أمل كبير في إنجاز أحد المشاريع الإعلامية في فلسطين، إذ يقول "على الرغم من كون المنطقة تعرف تغطية إعلامية مكثفة"، فإن ما تعتبر المنطقة في أمس الحاجة له وما هو غير متوفر في الوقت الحالي، هو تواجد إعلام واضح ومسموع من قبل كافة الفلسطينيين ومن قبل قسم من الإسرائيليين".
تحديات ومخاطر وخط تحريري صارم
رغم هذه التجارب الغنية في كيفية إدرة مؤسسة إعلامية محايدة وموضوعية في منطقة صراع مسلح، يقر مدير مؤسسة هيرونديل بنفسه قائلا: "نحن مازلنا في بداية التجربة، لأن الصراعات العرقية والدينية التي كنا نعتقد بأننا تجاوزناها، مازالت أمامنا".
ومن خلال التجربة، يقول المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسمي: "إن عمل الصحفيين بمحطاتنا في مناطق الصراعات المسلحة يبدأ بالتغلب على صعوبات الوصول إلى مكان العمل، وتجاوز نقاط التفتيش، والتغلب على مخاوف الأهل والأقارب، ودراسة الأوضاع من حيث المخاطر المحتملة".
من المشاكل الأخرى التي تواجه صحفيي هذه المحطات، دائما حسب تجربة المسؤول عن البرامج "كون جل المواضيع حساسة، ويصعب فيها الحصول على شهادة أشخاص يسمحون بذكر أسمائهم، رغم حرصنا الشديد على التعريف بالمصادر قدر الإمكان لتجنب الإتهامات المبهمة المتبادلة".
لذلك تم التركيز في عمل الإعلاميين في محطات مؤسسة هيرونديل أو تلك التي تتعامل معها، على ضرورة تجنب التعليق على الخبر والإكتفاء بنقل الخبر المؤكد فقط.. ويوضح جون ماري إيتر ضمن هذا السياق: "لقد منعنا منعا باتا استخدام التعليق في عملنا عند الحديث عن أوضاع صراع مسلح، لأنه ليس المكان المناسب للتعبير عن الميولات الشخصية".
من النقاط الأخرى التي يرى أنها مهمة في مناطق الصراعات، قوة الشهادات التي يقدمها الجمهور بخصوص حالات العنف، وحالات الإنتهاكات السائدة في تلك المناطق، خصوصا عبر محطة تحظى بقبول من قبل الجميع. ومن الأمثلة المُقدمة "شهادة أحد أفراد الحرس الجمهوري في بلد إفريقي تنعم فيه مثل هذه المؤسسات العسكرية بكونها فوق القانون، والذي شارك في عمليات قتل جماعي وتعذيب كانت تبدو له عادية، ولكنه اكتشف عبر شهادة الجمهور في بعض برامجنا، هذه المرآة التي لم تكن متوفرة من قبل، بشاعة ما شارك فيه، مما دفعه هو وبعض من زملائه إلى تغيير تصرفهم ليس تطبيقا لأوامر قادتهم، بل عن اقتناع، بأن ما يقومون به بشع وغير مقبول".
"الكلمة قد تقود إلى الحرب أو إلى السلم"
يرى المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسامي أن "اختيار الكلمات والألفاظ في البرامج الإعلامية بمحطات مناطق الصراعات، أو الزاوية التي يتم اختيارها لمعالجة موضوع من المواضيع، كلها أمور لها أهمية البالغة، وهذا ما اكتشفتُ بُعده من خلال عملي الصحفي في هذه المناطق".
ويثني موتوماسي على مهنية ومعارف الصحفيين المحليين الذين يعملون في هذه المحطات "نظرا لكونهم عايشوا عدة انقلابات وترعرعوا في المنطقة، حتى أن منهم من كان مجندا في بعض الميليشيات، أو كان موظفا في إذاعات حكومية، وانضمامهم لمحطات مثل محطاتنا في وسط إفريقيا أو جنوب السودان، نابع من الرغبة في العودة إلى شعور بروح المواطنة، وخدمة المجتمع إعلاميا في مرحلة هو في أشد الحاجة فيها إلى إعلام محايد وموضوعي".
لكن ما يأسف له مدير مؤسسة "هيرونديل" جون ماري إيتر هو أن المجموعة الدولية التي كثيرا ما تسارع لمساعدة مناطق الصراع في إعادة البناء، لم تدرك بعد مدى أهمية منح الأولوية لبناء أسس إعلام مستقل لتوعية الجمهور، ونزع فتيل الأحقاد المتراكمة، والتي تغذي بدورها استمرارية هذه الصراعات، إذ يشرح قائلا: "إن تواجد مثل هذه الإذاعات أصبح ضرورة ملحة في مناطق الصراعات، لأن إحساس الكره تجاه الآخر يتم عبر مراحل، وتتسع رقعته شيئا فشيئا. ولن يقتصر الأمر على الشعور بكره الآخر بسبب عرقه أو دينه أو أية ذريعة أخرى، بل سيتحول إلى التحريض على قتله لتطهير المنطقة من عنصر دخيل. والمرحلة الأخيرة ستتمثل في تحول قتل الآخر ليصبح أمرا عاديا".
والمشكل يكمن في أن وسائل الإعلام الدولية لن تأبه لضخامة المشكل إلا بعد بلوغ عمليات القتل والعنف حجما كبيرا وبعد أن تشمل مناطق أوسع. وهذا ما يعتبره إيتر تدخلا متأخرا "لأن التعايش السلمي تم القضاء على أسسه منذ مدة وليس فقط عند ظهور عمليات القتل الجماعي" عل حد قوله.
ومن هذا المنطلق، يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن التدخل إعلاميا وباختيار التعابير المناسبة وفي الوقت المناسب "قد يقود إلى السلم، ليس لأننا نُوجه الناس نحو هذا الموقف أو ذاك، بل فقط بتوضيح الأمور لهم من وجهات النظر المختلفة، لأن الناس يملكون ما يكفي من الذكاء لمعرفة ما هو في صالحهم إن توفرت لهم فرصة التعرف على آراء كل الشركاء وفرصة الإستماع الى آراء الآخرين".
شارف على الإنتهاء... نحن بحاجة لتأكيد عنوان بريدك الألكتروني لإتمام عملية التسجيل، يرجى النقر على الرابط الموجود في الرسالة الألكترونية التي بعثناها لك للتو
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.