ماذا عن سوريا الآن؟
"إنه حقاً لعب ببرميل بارود ضخم وسط ثلاثة ملايين مدني". كانت هذه كلمات يان إيغلاند، مستشار الشؤون الإنسانية الخاص للمبعوث الأممي لسوريا، في آخر يوم له في منصبه، في شهر نوفمبر الماضي، عقب ترؤسه اجتماعه الأخير لمجموعة العمل الإنساني التابعة للأمم المتحدة.
كان يتحدث عن إدلب، آخر مدينة سورية ما زالت في أيدي المتمردين. فلقد بدأ الوضع في المنطقة العازلة التي أنشأتها روسيا وتركيا حول المدينة بالتدهور: كانت هناك هجمات مدفعية وجوية، وغارات مسلحة، وزيادة في حدة التوتر.
إدلب، كما يزال الكثيرون يعتقدون، قد تكون المعركة الأخيرة، وربما الأكثر دموية في هذه الحرب الدامية والطويلة في سوريا. فعندما سقطت حلب، ثم بعد ذلك عندما استسلمت الغوطة الشرقية، دفع الخوف من إقدام الحكومة السورية على الانتقام بوحشية، وهو خوف مبرر إلى حدّ ما، العديد من الشخصيات المعارضة إلى الفرار مع أسرهم إليها.
لقد أصبحت القوات الحكومية الآن على مشارف إدلب التي يُعتقد بأنها معقل لنحو 30 ألف مقاتل وثلاثة ملايين مدني، تثير سلامتهم قلق يان إيغلاند. إلا أن هذا الأخير والذي عمل بإصرار لحماية المدنيين السوريين لسنوات، ترك منصبه. وسيتبعه في ذلك رئيسه، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، في نهاية شهر ديسمبر الجاري.
بالنسبة للكثيرين، إنها لحظة غريبة للرحيل: فالاحتياجات الإنسانية في سوريا لا تزال هائلة، والحرب، رغم أنها قد تكون أكثر هدوءاً، فإنها لم تنته بأي حال من الأحوال.
الأمم المتحدة، هل تقلصت مهامها؟
لكن الحقيقة هي أن مستقبل سوريا لم يتحدد في أي وقت من الأوقات في جنيف، في إطار عملية سلام ترعاها الأمم المتحدة، وإنما في آستانا، من خلال استراتيجية منافسة طورتها روسيا وإيران وتركيا. وأصبحت هذه الاستراتيجية ممكنة لا سيّما بعد دخول روسيا الحرب، واستخدام قوتها الجوية الضخمة لدعم القوات السورية، من أجل استعادة المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، الواحدة تلو الأخرى.
إذن، وبعد سبع سنوات طويلة، هل يعتبر هذا إخفاقاً للأمم المتحدة؟ لقد كان هناك ثلاثة مبعوثين خاصين للأمم المتحدة: غادر كل من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي مكتبه دون نتائج تذكر مقارنة بعملهما الشاق، وبقي ستفان دي مستورا لفترة أطول، وها هو الآن يغادر بدوره هذا المنصب.
واستثمرت الأمم المتحدة سنوات عديدة من الدبلوماسية، وكانت هناك جولة تلو الأخرى من المفاوضات في مدينة جنيف. لقد كَتبتُ التقارير عن جميع هذه الجولات تقريباً، وعندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء، ينتابني شعور غريب وأنا أستعرض كيف بدأَتْ هذه المفاوضات بمراسم دبلوماسية عظيمة وبحفل يتخلله الأمل، حضره مئات الصحفيين، ثم كيف تقلصت تدريجياً إلى محاولات مضنية من قبل السيد دي مستورا، ليس لتحقيق السلام، ولكن لبناء هيكل للجنة دستورية، يكون من شأنها في وقت ما في المستقبل، صياغة دستور جديد لسوريا.
دراما عالية المستوى، مهزلة، وملل
خلال هذه المفاوضات، رأينا المحادثات تنحرف من الدراما العالية لتهبط إلى مستوى المهزلة – وحتى نكون صادقين، إلى الملل – على الأقل بالنسبة لي وللعديد من الصحفيين. كانت هناك أوقات يعرب فيها وفد أو آخر من الوفود المشاركة عن رغبته في المجيء إلى جنيف ثم لا يأتي. وكانت هناك أوقات تنسحب فيها الوفود من المفاوضات غاضبة. ونادراً ما كانت الوفود الممثلة لأطراف النزاع المختلفة، تلتقي في نفس الغرفة: كان دي مستورا وأسلافه يهرعون مسرعين مثل رسل العصور الوسطى المرهقين، بين الوفود، ذهاباً وإياباً.
وذات مرة قام الأخضر الإبراهيمي بإدخال الممثلين للأطراف المتنازعة لفترة وجيزة، إلى نفس غرفة المفاوضات ولكن على طاولة ذات شكل خاص، بحيث لا يضطرون إلى النظر في عيون بعضهم البعض مباشرة أو وجهاً لوجه.
كانت هناك ليال لم ننم خلالها ونحن ننتظر مؤتمراً صحفياً من المفترض أن يُعقد في ساعة متأخّرة. كانت هناك أوقات انتقلت فيها المحادثات من قصر الأمم المتحدة إلى فنادق الخمس نجوم التي يقيم فيها المشاركون في مدينة جنيف. وطبعاً، كان هذا التكتيك يحدث خاصة في فصل الشتاء، وكانت الشرطة لا تنفك تخبر الصحافيين أنه يتوجّب عليهم الانتظار خارجاً في الشارع. وكان هذا بمثابة تأكيد بعدم حصول أي تقدّم، قبل أن يتم تغريد أو أرسال التغطية بأصابع تخدّرت من البرد.
هل فشلت الأمم المتحدة؟
إذن هل تُعتبر سوريا فشلاً للأمم المتحدة؟ كثيرون يقولون نعم. لقد استمر الصراع الذي بدأ بمظاهرات سلمية في بلد ما لفترة أطول من الحرب العالمية الثانية. لقد شُرِّد الملايين، وهناك مئات الآلاف من القتلى، وانضمت عدة قوى إقليمية إلى القتال، وأصبحت المدن التاريخية الكبرى في سوريا خراباً.
ولكن عند طرح هذا السؤال على يان إيغلاند، فهو يفضل مقاربة الفشل على نطاق أوسع.
قال لي في ذلك اليوم الأخير في العمل: “أشعر بقوة أننا جميعنا خذلنا المدنيين السوريين”. “هذه الحرب جعلت أتون الجحيم تستعر في المناطق ذات الكثافة السكانية والمكتظة بالناس الضعفاء”.
“أولا وقبل كل شيء، [ألقي باللوم على] الرجال الذين يحملون السلاح ويتمتعون بالسلطة. لقد خذلت الأطراف المتحاربة على الأرض شعوبها، لأنها أظهرت أنها على استعداد لمقاتلة بعضها البعض حتى آخر مدني”.
“ثم أود أن أضيف إلى هؤلاء، أولئك الذين كانوا رعاة، وأولئك الذين قدموا السلاح، أولئك الذين قاتلوا مع الأطراف المتحاربة، وأولئك الذين أسهموا في تأجيج النار”.
“ثم [ألقي باللوم علينا] نحن جميعاً لأننا كنا غير قادرين على الحد من هذا العنف وغير قادرين على جعلهم يتوقفون”.
“كان من الممكن إيقاف هذا في عامي 2011 و2012″، أشار إيغلاند. “كان لدى كوفي عنان خطة سلام ممتازة، وأنا ألقي باللوم على سلطات مجلس الأمن الدولي وجميع الدول الأعضاء التي لم تدفع في نفس هذا الإتجاه”.
المزيد
زيارة مُجزية إلى رُكن هادئ في مقرّ الأمم المُتحدة
إذن ما الذي يحدث الان؟
بالتأكيد لم تستسلم الأمم المتحدة إزاء الوضع في سوريا. ففي الأيام القليلة الماضية، ناشدت وكالات الإغاثة المجتمع الدولي من أجل جمع مبلغ 5.5 مليار دولار (5،5 مليار فرنك سويسري) لمساعدة اللاجئين السوريين والدول المضيفة، خلال العام المقبل. لأنه وعلى الرغم من أن عدداً قليلاً قد بدأ في العودة (حوالي 37000 هذا العام)، إلا أنه وببساطة، ما تزال العودة غير آمنة بالنسبة لمعظم اللاجئين والبالغ عددهم 5.6 مليون لاجئ. فالكثير منهم لا يملكون وثائق تثبت ملكيتهم للأرض أو الممتلكات التي خلّفوها وراءهم، والكثير من المنازل قد تهدّمت، وكذلك المدارس والمستشفيات وإمدادات المياه والكهرباء.
سيكون هناك أيضاً مبعوث جديد للأمم المتحدة، وهو الدبلوماسي النرويجي جير بيدرسون. إنه يوصف أحيانا بأنه “دبلوماسي الدبلوماسيين”، ولديه خبرة واسعة في شؤون الشرق الأوسط، وفي الصراعات المعقدة.
ومن المتوقع أن يقوم بيدرسون بتسمية مستشار إنساني جديد ليحل محل يان إيغلاند: سيظل الدعم الإنساني في سوريا حيوياً لأشهر عديدة، وغالباً لسنوات.
وسوف يبذل ستيفان دي ميستورا، وحتى موعد مغادرته لمنصبه، ما تبقى من جهوده في العمل على اللجنة الدستورية الصعبة المنال. قد يبدو الأمر بيروقراطياً ومعقداً جداً، لكن السيد دي مستورا، والسيد بيدرسون من بعده، ومنظومة الأمم المتحدة بأكملها، يتطلّعون إلى إحلال السلام، وليس إلى الحرب المجمّدة التي تمكنت روسيا وحلفاؤها من فرضها على أجزاء كبيرة من سوريا.
سيُخبرك أي دبلوماسي متمرس، أن الدستور المدعوم من قبل سكان البلاد، هو حجر الأساس للسلام الدائم؛ وكذلك المصالحة والمساءلة عن جرائم الحرب.
وهذه كلها أمور تتمتع الأمم المتحدة بخبرة كبيرة فيها، وسوف تسعى في سبيل تحقيقها من أجل سوريا، ومن أجل وضع حد لمعاناة المدنيين التي طال أمدها.
في هذه الأثناء، ينبّه يان إيغلاند العالم بأكمله إلى ضرورة استخلاص الدروس والعبَر من الصراع في سوريا قائلاً: “نحن بحاجة إلى استخلاص الدروس والعبَر من هذه الحرب. هل هكذا ستخاض الحرب في المستقبل؟ إذن فنحن فعلاً، نسحق 150 عامًا من المبادئ الإنسانية”. “آمل حقاً أن يكونوا، في موسكو وطهران، وفي أنقرة وفي واشنطن والرياض، قد تعلموا: دعونا لا ندع الصراعات الصغيرة تصبح حروباً كبيرة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.