نيبال: التضحيات المؤلمة لزوجات العمال المهاجرين
ألقت مباريات كأس العالم لكرة القدم، في قطر عام 2022، الضوء على معاناة العمال النيباليين المهاجرين في دول الخليج. ولكن التضحيات والمسؤوليات، التي تتحملها الزوجات في الوطن لدعم حياة الأسرة واستقرارها، لا تلقى التقدير المطلوب.
لقد مرت أكثر من ستة أشهر منذ أن أصبحت سونتالي تامانغ أرملة. ففي عام 2021، غادر زوجها تيرثا بهادور تامانغ منزله بعد أن حصل على وظيفة عامل في قطر. وبعد أقل من عام على عمله أصابه المرض واضطر إلى دخول المستشفى. وساعدت منظمة تُعنى بشؤون المهاجرين، وهي لجنة تنسيق المهاجرين النيباليين (Pravasi Nepal Coordination Committee) في ترحيله إلى نيبال، ولكنه لم يصل إلى قريته في بادالي التابعة لبلدية دوليخيل، والتي تقع على بعد ساعتين فقط بالحافلة أو سيارة أجرة مشتركة من العاصمة. فلقد توفي تيرثا بهادور بسبب تدهور حالته الصحية، وذلك بعد أسبوع من دخوله مستشفى كاتماندو.
“لم يستطع حتى العودة إلى بيته ورؤية هذا المنزل الذي ساهم في بنائه”، كما تقول أرملته سونتالي.
وكان منزلهما السابق قد دُمّر خلال الزلزال الذي ضرب نيبال عام 2015. واضطرّت العائلة إلى العيش مؤقتاً في كوخ بالقرب من حطامه. ولإعادة بناء المنزل، استخدمت العائلة الأموال التي كان تيرثا بهادور قد جناها وادّخرها من فترة عمله السابق في ماليزيا والتي استمرت لمدة عامين قبل حدوث الزلزال، بالإضافة إلى ما حصلت عليه من خلال قرض مصرفي. لكن تيرثا اضطر إلى المغادرة إلى قطر لتأمين مصاريف العائلة قبل أن يتم الانتهاء من البناء.
واليوم، وبعد رحيل زوجها، تكافح سونتالي بمفردها، لتحمل أعباء العائلة والاعتناء بأطفالها الأربعة. فتكلفة تعليمهم فقط تتراوح ما بين 20000 و30000 روبية نيبالية شهرياً (135 إلى 200 فرنك سويسري)، ناهيك عما تعانيه في مجتمعها نتيجة لوضعها الاجتماعي؛ لا سيّما وأنه لم يعد بمقدورها المساهمة في المناسبات والاحتفالات العائلية.
“لقد واجهت صعوبة في تأمين بعض المال لتقديم الهدايا والتبرعات لابن أخي في حفل براتابانده” كما تقول، مشيرة إلى الطقوس الهندوسية التي تقام عادة للفتيان عندما يصلون إلى سن البلوغ، ويصبحون مسؤولين عن الالتزامات الدينية والاجتماعية.
وتعتمد سونتالي على ما تمتلكه من الحيوانات، أي عدة دجاجات وبقرة، بالإضافة إلى قطعة صغيرة من الأرض، لتوفر للعائلة قوت يومها لمدة تصل إلى خمسة أشهر في العام، بينما تعمل أيضاً كعاملة زراعية لضمان تلبية باقي احتياجات العائلة.
وعندما سُئلت سونتالي عن أكبر تحدٍ تواجهه في حياتها، انهمرت الدموع من عينيها. ويقول أحد الجيران إن التحدي الأكبر هو قدرتها على التعامل مع واقعها الجديد بعد فقدان زوجها، والذي كان رجلاً طيباً وصالحاً. والجدير بالذكر هنا، أنه في الفترة الواقعة ما بين عاميْ 2021 و2022، توفي ما مجموعه 1395 عامل نيبالي مهاجر (بما في ذلك 39 امرأة)، وتم عزو معظم الوفيات إلى “أسباب طبيعية”. ولكن هذا الواقع، لم يثنِ الأجيال الشابة عن البحث عن تأمين مستقبلها في دول الخارج.
“ابنتي الكبرى تتعلم الكورية لأنها ترغب في الهجرة إلى هناك. وتكلف الدورة الدراسية لفترة ستة أشهر مبلغ 20000 روبية نيبالية”، كما تقول سونتالي.
وقد قام مركز دعم المهاجرين (Migrant Resource Centre)، الذي يتم تمويله بالتعاون بين الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC) وحكومة نيبال، بمساعدة سونتالي في الحصول على التعويض الذي تستحقه كأرملة لعامل مهاجر توفي خلال عمله في الخارج. واستلمت سونتالي ما قيمته 700000 روبية نيبالية (4700 فرنك سويسري) من الشركة التي عمل بها زوجها، و700000 روبية نيبالية من مجلس التوظيف في الخارج بنيبال، و1300000 روبية نيبالية (8800 فرنك سويسري) من شركة التأمين. وهي اليوم تتابع دروساً في الثقافة المالية في مركز الموارد متعددة الأبعاد (Multi-dimensional Resource Centre Nepal, MRC Nepal)) لمعرفة كيفية استثمار هذا المال بطريقة رشيدة.
كفاح مرير
وبالرغم من كل الظروف الصعبة، فإن سونتالي تُعتَبر واحدة من المحظوظات مقارنة بغيرها من النساء. يعمل بينود غورساين، وهو مهاجر عاد إلى وطنه، لصالح مشروع سويسري. وذلك في إطار مهمة تحديد العائلات المحتاجة التي هاجر أحد أفرادها للعمل في الخارج، وإحالتها إلى مركز دعم المهاجرين. يقوم بينود، وهو يقود دراجته النارية متوجّها إلى قرية ميتينيشاب التي يعيش فيها، بإرشاد فريق موقع سويس إنفو (SWI swissinfo.ch) إلى منزل أرملة أخرى تعيش هناك في ظروف أكثر صعوبة من تلك التي تعيشها سونتالي.
عند مقابلتنا لها، كانت، رامبياري غورساين مستعجلة لأنها متأخرة عن عملها كعاملة زراعية في حقول القرويين الآخرين، وهو العمل الذي يوفر لها بعض المال الذي يسد رمق عائلتها. وعلى الرغم من تأخرها عن العمل، إلا أنها لم تبخل علينا بالضيافة الحسنة وقدمت لنا ماء للشرب وفاكهة الجوافة.
كان زوجها يرغب في أن يحصل أبناهما على تعليم أفضل. وعندما عبّر عن رغبته بإرسالهما إلى مدرسة خاصة، قوبلت رغبته بالرفض من قِبَل عائلته وأقاربه؛ مما دفعه للبحث عن عمل في الخارج لتحسين أوضاعه المعيشية وتحقيق رغبته، دون اللجوء إلى أقاربه. وقدّر له أن يغادر إلى قطر في عام 2008.
“خلال الثلاثة أشهر الأولى لم يكن لدي أي معلومات عن زوجي. لم يكن هناك هاتف في القرية للتواصل معه. ثم أرسل مبلغ 40000 روبية نيبالية (270 فرنك سويسري)، وبعد بضعة أشهر تمكّنتُ من تسجيل ابني الأكبر في مدرسة خاصة”، كما تقول.
إلا أن زوج رامبياري توفي بعد مرور عشرة أشهر فقط من بدء عمله كعامل في قطر. وقد عزا رب عمله وفاته إلى أسباب طبيعية، مما يعني أنه لم يكن لديها الحق في الحصول على أي مبلغ كتعويض لنهاية الخدمة. في ذلك الوقت، لم تكن هناك أية ترتيبات من الحكومة النيبالية لأرامل المهاجرين. ولم يتم تقديم برنامج التأمين لعوائل المهاجرين إلا بعد مرور ستة أشهر على وفاة زوجها. وكان كل ما حصلت عليه رامبياري من التعويضات عن وفاة زوجها، مبلغ 100000 روبية نيبالية (675 فرنك سويسري) من قِبَل الشركة التي كان يعمل فيها، أما مكتب التوظيف فدفع مبلغ 20000 روبية نيبالية (135 فرنك سويسري) لتغطية تكلفة طقوس الجنازة.
ألقت بطولة كأس العالم في قطر بالضوء على التاريخ الطويل للانتهاكات الجسيمة، التي يتعرض لها العمال المهاجرون في دول الخليج، ولا سيما في القطاعات متدنية الأجور كالبناء.
وكشفت تقاريررابط خارجي لمنظمة هيومن رايتس وواتش شهادات مؤلمة لنيباليين ونيباليات، من بينهم أمهات وآباء لم يتمكنوا من رؤية أولادهم لسنوات فيما يجاهدون لتغطية تكاليف دراستهم، وعمال تحملوا العمل البدني لساعات طويلة في الحر الشديد في قطر، وعائلات عمال ماتوا لأسباب غير مفسَّرة.
يقع نظام الكفالةرابط خارجي، الذي يربط تأشيرات العمال الوافدين بأصحاب عملهم، في صلب تكريس انتهاكات الأجور. ويجعل ذلك العمال يعتمدون على أصحاب عملهم للحصول على الإقامة القانونية ووضعيّتهم في الدولة، ما يعني وجودهم في موقف ضعف يمكن لأصحاب العمل أن يستفيدوا منه، وغالبًا ما يفعلون.
في 2017، التزمت قطر بإلغاء نظام الكفالة. وبينما أدخلت منذئذ بعض التدابير التي عملت على التخلص من الكفالة، فإن أصحاب العمل لا يزالون مسؤولين عن تأمين تصاريح الإقامة للعمال الوافدين، وتجديدها، وإلغا\ها. ما يعني أنهم مازالوا قادرين بشدة على تقييد قدرة العمال على تغيير وظائفهم.
تحول هذه الظروف التعسفية والأجور المتدنية دون تمكّن العمال من جلب عائلاتهم أو السفر بشكل متكرر لرؤية ذويهم. قصص التضحيات الشخصية للمهاجرين وأسرهم عديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يروي تقرير هيومن رايتس وواتش قصة الشاب هاري، الذي غادر نيبال إلى قطر عندما كان ابنه يبلغ من العمر ستة أشهر فقط وفاتته معظم الأحداث البارزة في حياة ابنه. حيث رآه خمس مرات فقط خلال 14 عاما. قال هاري: “لم يعرفني ابني عندما عدت إلى نيبال لأول مرة”. مع ذلك، في تلك السنوات الـ 14 الماضية، شهد هاري وساهم في التحول الدراماتيكي لقطر بما مكّنه من كسب معيشة أفضل لأطفاله، بمن فيهم ابنه الصغير.
وتقول هيومن رايتس ووتش إنه مقابل كل أسرة ترغب في مشاركة قصص خسارتها علنا، هناك العديد من العائلات الأخرى التي تتعامل بصمت مع خسائر فادحة مماثلة.
وتقول رامبياري: “زوجي لم يكن رجلاً مثقفاً، وكنت قلقة من أنه قد يجد صعوبة في التأقلم مع ظروف المعيشة في الخارج. وكان لدي شعور بأنه يمكننا أن نؤمّن معاً مستوى حياة أفضل هنا. فلدينا قطعة أرض وكان من الممكن أن ندبّر أمرنا لتحسين معيشتنا”.
بعد وفاة زوجها، بقيت رامبياري منعزلة ومنطوية على نفسها ولم تكن تنام كثيراً. وكانت تأخذ أدوية للتغلب على شعورها بالاكتئاب. وساعدها استشاريون ومختصون نفسيون من مركز دعم المهاجرين في تحسين صحتها النفسية والتعامل بشكل أفضل مع مشكلاتها العاطفية وفقدانها لزوجها. واليوم، يتعين عليها أن تتدبّر شؤونها بنفسها، مع عدم وجود ابنها الأكبر بجوارها. وعلى الرغم من ترددها وعدم ثقتها بقدرتها على تسديد المبلغ، قامت بأخذ قرض بقيمة 1.5 مليون روبية نيبالية (10100 فرنك سويسري) لإرسال ابنها إلى اليابان لمتابعة تحصيله العلمي.
تقول رامبياري: “أنا لا أؤيد الهجرة ولا أنصح أحداً بإرسال أفراد من عائلته للعمل في الخارج”.
تجنيب أزواجهن المصاعب وأعباء العمل المرهقة
ووفقاً لشارو جوشي، وهي خبيرة تعمل لحسابها في مجال التوظيف وهجرة العمال الأجانب، فإن أكثر التداعيات السلبية للهجرة في نيبال، تكمن في زيادة أعباء العمل الموضوعة على كاهل النساء بشكل هائل. وتشير الإحصائيات من منظمة العمل الدولية (ILO)إلى أن النساء النيباليات يقمن بنسبة 85% من العمل اليومي المنزلي غير المأجور، والذي يبلغ إجماليه 29 مليون ساعة يومياً، مقارنة بعدد ساعات عمل يبلغ فقط 5 ملايين ساعة، يأخذها الرجال على عاتقهم.
تقول شارو: “هذه الأرقام تشير إلى أن النساء في نيبال يقمن بأعمال غير مأجورة، بمعدل ست مرات أكثر من الرجال، مقارنة بمتوسط أربع مرات في منطقة جنوب آسيا. وكان من تداعيات هجرة الرجال للعمل في الخارج، أن انعدمت أي مساهمة بسيطة في هذه الأعمال التي كان الرجال النيباليون يقومون بها أيضاً “.
وكدليل على ذلك، تشير شارو إلى النجاح الأخير الذي حققته نيبال في مؤشرات التنمية الاجتماعية على الرغم من حكومتها الفقيرة؛ حيث اعتبرت الأمم المتحدة أن البلاد قد بلغت أهدافها لعام 2019 على صعيد التمكين في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي تعزيز حياة الأفراد وتحسين أداء مجتمعاتهم، على النحو المحدد في أهداف التنمية المستدامة.
“كيف حصل ذلك؟ لم يكن هذا الأمر ممكناً إلا بفضل جهود النساء اللاتي أخذن على عاتقهن القيام بالأعباء التي يفترض بالدولة القيام بها، مثل تأمين التغذية السليمة لأسرهن والسهر على صحتها ورعايتها ” كما تقول شارو.
قرى مهجورة وثقة مفقودة بين الأزواج
في قرية دانداغاون التي تقع في الوحدة 2 والتابعة لبلدية دوليخيل، تبلغ نسبة الرجال 91 رجلاً فقط لكل 100 امرأة (المعدّل الوطني للرجال لكل مئة امرأة هو 95.6)، وذلك بناءً على إحصائيات عام 2021. وتسجّل هذه القرية أيضاً أصغر حجم للأسر مقارنة بباقي القرى التابعة للبلدية، حيث يبلغ متوسط السكان 3.83 شخص لكل أسرة (بينما المتوسط الوطني هو 4.37). وتُعتبر هجرة الشبان إلى الخارج وجهاً من وجوه الحياة اليومية في هذه القرية.
تقول ياسودا غوتام وهي من سكان هذه القرية: “في وقت سابق، كان سكان القرية يتقاسمون الدعم والمساعدة مع بعضهم البعض. أما اليوم، لم تعد القرية كما كانت بعد أن فقدت سكانها وأصبحت خاوية “.
زوج ياسودا، والذي كان جندياً سابقاً في الجيش النيبالي، يعمل اليوم، ومنذ عام ونصف، في دبي كسائق توصيل طعام. أما هي، فتدير متجراً صغيراً وتعتني بولديْها. لم تحبّذ ياسودا فكرة ذهاب زوجها للعمل في الخارج، ولكنه أراد توسيع آفاقه في هذا العالم واكتساب تجارب جديدة والعمل على إرسال ولديْه إلى مدارس ذات جودة عالية، حتى يتمكنا من أن يصبحا ضابطيْن من ذوي الرُتب العالية في الجيش.
تقول: “لست سعيدة ولا حزينة. صحيح أنه ليس بجوارنا، لكنه سافر من أجل تأمين مستقبلنا”.
من جهته، يُعرب بهيم براساد سابكوتا، وهو مسؤول كبير في مجال الصحة العامة في وزارة الصحة والسكان في نيبال، عن قلقه بشأن تداعيات الهجرة على التوزيع الديموغرافي للبلاد. وبحسب الاحصائيات، انخفضت نسبة النمو السكاني السنوي من 1.35% سجّلت في عام 2011، إلى 0.92% في عام 2021، وهي أدنى نسبة منذ أول احصائية سكانية أُجريت في عام 1911. كما انخفض معدل الخصوبة الإجمالي (متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم امرأة واحدة خلال فترة حياتها الإنجابية) من 2.6 في عام 2011 إلى 2.1 في عام 2022، على الرغم من أن نسبة استخدام وسائل منع الحمل الحديثة، بين النساء المتزوجات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عاماً، ظلت ثابتة عند 43% خلال نفس الفترة، وذلك وفقاً للمسح الاستقصائي “نيبال للديموغرافيا والصحة” الذي أُجري في 2022.
وفي هذا السياق، يقول بهيم براساد: “إن هجرة الشباب تؤثر على معدلات الخصوبة كما تؤثر أيضاً على معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية”، مضيفًا: “ينبغي أن تؤخذ هذه المسألة على محمل الجد، من قبل كل من صانعي السياسات والسياسيين والمجتمع المدني”.
ووفقاً لتقرير هجرة العمال في نيبال لعام 2022، تبلغ نسبة الذين يعيشون ويعملون في الخارج 7.4% من سكان البلاد. ولكن هذا الرقم لا يشمل أولئك الذين يلجؤون إلى الهجرة غير الرسمية أو يختارون الهجرة إلى الهند، حيث لا حاجة إلى الحصول على موافقة عمل رسمية من الحكومة. وعلى الأغلب، فإن تعداد عام 2021 هو الأدق والأقرب إلى الحقيقة، والذي يشير إلى أن هناك نسبة 23.4% من الأسر ممن يعيش فرد من أفرادها، في الخارج بعيداً عن العائلة.
وتقول شارو جوشي، التي عملت سابقاً في منظمة الأمم المتحدة للمرأة كما في مؤسسات تابعة للحكومة: “لدينا قرى هرِمة وخالية من الشباب؛ ومن بين 77 مقاطعة في نيبال، هناك 14 مقاطعة تعاني من عجز واضح في السكان”، ووفقاً لتقديراتها، “هناك فقط 6% من السكان ممن يعيشون اليوم في الجبال، مقارنة بـ 40% في التلال و54% في منطقة التيراي (السهول)”.
وبحسب شارو، كان هناك حوالي 200 شخص يغادرون البلاد يومياً خلال الحرب الأهلية التي استمرت عشر سنوات، ولكن اليوم، بعد أن حل السلام وعاد الاستقرار نسبياً، زادت هجرة السكان لتصل إلى 3000 شخص يتركون البلاد يومياً. وما لا تظهره الأرقام هو تلك الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها الشبان من قِبَل محيطهم، مما يضطرهم لمغادرة منازلهم والعمل في الخارج.
“هناك نوع من المنافسة داخل الأسر بشأن عدد الرجال الذين يعملون في الخارج؛ حيث يُنظر إلى المهاجرين على أنهم أكثر رجولة، بينما يُنظر إلى الذين يبقون في البلاد على أنهم أقل شجاعة وجرأة، لأنهم لا يتحملون المخاطر”، بحسب تعبير شارو.
كما تتعرض النساء اللاتي يُتركن من قِبَل أزواجهن أيضاً إلى مخاطر نظرة المجتمع إليهن بطريقة تحمل الكثير من الريبة. وفي هذا السباق، أُجريت في عام 2019 دراسة بتمويل من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، تم فيها استطلاع آراء أكثر من 1000 زوجة لعمال مهاجرين، يعشن في مناطق سابتاري ودانيشا. وخلُصت هذه الدراسة إلى أنه غالباً ما يشتبه فيهن بسوء استخدام التحويلات المالية وبأنهن يرتكبن الخيانة الزوجية. ومع ذلك، لم يجد الباحثون من معهد نيبال للبحوث الاجتماعية والبيئية الذي تبنّى الدراسة دليلاً دامغاً على تلك الشبهات والفرضيات على أرض الواقع.
“لقد وجدنا ثلاث حالات فقط، حيث كانت لدى النساء علاقات خارج الزواج، وكان يمكن أن يحدث ذلك حتى ولو لم يكن الزوج مهاجراً. ولكن جرى تضخيم القصص وانتشارها بأشكال مختلفة في جميع أنحاء المنطقة، وتم المبالغة في حيثياتها وترسيخها بسرديات زائفة “، بحسب فريق الدراسة.
وقد أسهمت المقالات في الصحافة والمبنية على قصص شخصية، في خلق صورة سلبية عن زوجات المهاجرين، كما زادت من حدة توتر العلاقات الزوجية.؛ حيث خلقت شعوراً عاماً بعدم الثقة بين الأزواج.
“لا يمكن اعتبار تجربة الهجرة عند الجميع تجربة ناجحة. بعض الرجال والنساء يتزوجون مرة أخرى [مصطلح يُستخدم كتعبير عن الانفصال في نيبال]”، كما تقول صاحبة المتجر ياسودا.
أمور أكثر أهمية من المال
على الطريق المؤدي إلى متجر ياسودا، يوجد مطعم تديره ميراني لاما. يعمل زوج ميراني في دبي ويقوم بنفس وظيفة زوج ياسودا. ويتقاسم الاثنان هناك، العيش في نفس الغرفة. وينبغي على ميراني إدارة الكثير من الأعمال المتعلقة بالمطعم بالإضافة إلى الاعتناء بابنهما والقيام بالأعمال المنزلية.
وعن ذلك تتحدث قائلة: “ليس من السهل تشغيل المطعم بمفردي، ولذلك يقوم أخي وأختي بمساعدتي ودعمي”.
تحتاج عائلة ميراني إلى الأموال التي يرسلها زوجها من دبي، وهو يرسل كل شهر مباشرة إلى حسابها، ما قيمته 92000 روبية نيبالية (620 فرنك سويسري). في عام 2021، أظهرت السجلات الرسمية أن القيمة الاجمالية للتحويلات المالية التي أرسلها المهاجرون إلى أسرهم بلغت 1.06 تريليون روبية نيبالية (7.15 مليار دولار)، أي ما يعادل 23.8% من الناتج المحلي الإجمالي لنيبال. ولذلك، فمن الطبيعي أن تدور معظم النقاشات المتعلقة بموضوع الهجرة في نيبال حول حجم التحويلات المرسلة إلى الوطن. ولكن، بالرغم من ذلك، ففي الآونة الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تدعو إلى بعض التأمل أيضاً في التكلفة الاجتماعية لإرسال الكثير من الشبان إلى الخارج. على سبيل المثال، يظهر تعداد عام 2021 أن هناك 17.1% من الأطفال الذين يعيشون دون آبائهم.
يقول المسؤول الحكومي بهيم براساد: “لا شك أن أسر المهاجرين، وبفضل التحويلات المالية التي تتلقاها من الخارج، تتمتع بقدرة أكبر على الحصول على الرعاية الصحية والتعليم. ولكن هذا لا يعني أن حياة هذه الأسر هي على ما يرام، وذلك بسبب غياب أحد الوالدين. هذا الغياب له تداعياته السلبية على نمو الأطفال والقدرة على تطوير مهاراتهم والانخراط في المجتمع بشكل سليم “.
ويبدي هذا المسؤول الحكومي رغبته في أن تقوم الحكومة بوضع خطة لبعض الإجراءات الحكومية التي من شأنها دعم التنمية الاقتصادية، وتشجيع المواطنين النيباليين الذين يعيشون في الخارج على العودة إلى بلدهم، والبدء في أعمال ومشاريع تجارية خاصة بهم من خلال الاستفادة من الخبرات والمهارات والمعرفة التي اكتسبوها أثناء عملهم في الخارج. وبهذه الطريقة يمكنهم المساهمة مباشرة في تنمية الاقتصاد الوطني لبلادهم. ولكن في النهاية، لا يمكن لهذا الأمر أن يتحقق، إلا إذا شعر العائدون وزوجاتهم، بأن مستقبلاً ينتظرهم في نيبال يضمن لهم ظروف عمل أفضل من تلك التي تؤمنها لهم قطر أو ماليزيا.
ويبدو أن معظم النيباليين يرغبون في العودة للعمل في الخارج، نظراً إلى أن وزارة العمل النيبالية قامت بتجديد موافقات العمل لمليون و800 ألف شخص منذ عام 2011/2012. وأظهر تقرير تقييم فيروس كوفيد-19 لنيبال عام 2021، الصادر عن منظمة الهجرة الدولية، أن نسبة 64% من أولئك الذين اضطروا للعودة منازلهم بسبب الجائحة، يرغبون في الهجرة والعودة إلى وظائفهم مرة أخرى.
ونظراً لأهمية التحويلات المالية للاقتصاد الوطني، قامت الحكومة بتسهيل إجراءات تجديد موافقات العمل عن طريق السماح بالقيام بها من السفارة في بلد الوجهة (تجديد لمرتين متتاليتيْن) أو حتى القيام بهذه الاجراءات عبر الإنترنت.
“تقوم البلاد على التحويلات المالية الآتية من العمال المهاجرين إلى الخارج، ولكن السياسيين يعربون عن عدم رغبتهم في هجرة اليد العاملة ويحبذون عودة المهاجرين”، كما تقول شارو.
بالنسبة للعائلتين التي التقتهما سويس إنفو في قرية دانداغاون، فإن المستقبل غير واضح. ينوي زوج ياسودا، الذي سيبلغ من العمر 40 عاماً العام القادم، العودة من دبي إلى منزله بعد ستة أشهر. وتبدي ياسودا عدم رغبتها في أن يغادر العائلة مرة أخرى لدبي، ولكنها تعلم أنها لا تستطيع ثنيه عن ذلك طالما يتمتّع بصحة جيدة تمكنه من العمل هناك.
تقول: “لا يمكن القول إنه لا مستقبل في البلاد، ولكن إذا استمرّت الأمور كما هي، فمن المرجّح أن يعود للعمل في الخارج مرة أخرى”.
أما زوج ميراني، فسيعود إلى المنزل في غضون عشرة أشهر، وهي تتطلع بشوق إلى عودته لأنهما اتخذا معاً قراراً مهماً.
“اتفقنا معاً على التخلي عن فكرة العمل في الخارج مرة أخرى. وبدلاً من ذلك، فإننا نخطط معاً لتوسيع المطعم الذي نملكه”، كما تقول.
ترجمة: جيلان ندا
تم إنتاج هذا التقرير كجزء من برنامج “البحث عن مكان آخر” (EQDA) وهو مشروع تبادل بين الصحفيين السويسريين والصحفيين من البلدان النامية. موضوع عام 2023 هو “الديموغرافيا”.
تقوم (EQDA) باختيار منظمات الإعلام من العالم النامي للتبادل الصحفي، ويساعد الصحفيون بعضهم البعض في تغطية تقاريرهم في بلدانهم الأصلية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.