هل تهدد جائزة نوبل مستقبل الطّب الصيني التقليدي؟
ذهبت نصف جائزة نوبل للطّب لعام 2015 إلى العالمة الصينية يويو تو، المُتخصصة في مجال الطب والكيمياء الصيدلانية، تكريماً لاكتشافها مادة الـ “أرتيميسينين” (Artemisinin)، التي أثبتت كفاءة عالية في علاج حالات الملاريا الحادة. ولكن، وبالرغم من التصفيق والإستحسان الكبيرين اللذين حظيت بهما العالمة المعروفة في بلدها الأم، إلّا أنَّ مَنحها الجائزة لم يَخلُ من إثارة بعض الجدل أيضاً.
شاركت سويسرا في العديد من المشاريع التي ساهمت في مكافحة مرض الملاريا.
في عام 1948، اخترع الكيميائي السويسري بول هيرمان مولَّر مبيد الحشرات المعروف “دي دي تي” (DDT) الذي استُخدم بكفاءة كبيرة في مكافحة البعوض، مما ساهم في السيطرة على الملاريا بالتالي.
رغم أن مولَّر فاز بجائزة نوبل في الكيمياء بفضل توصله إلى هذا الإختراع، إلّا أن التأثير السيء لهذا المركب الكيماوي على البيئة والحيوانات والإنسان أدى إلى تضاؤل إستخدامه بشكل واسع.
كان المعهد السويسري للأمراض الإستوائية والصحة العموميةرابط خارجي أول مؤسسة لجأت إلى استخدام مادة الأرتيميسينين في علاج الأطفال في أفريقيا.
بالنسبة لـمارسيل تانَّر، المدير السابق للمعهد السويسري للأمراض الإستوائية والصحة العموميةرابط خارجي، لم يكن هناك أي مجال للشك في حصول تو على جائزة نوبل للطب. “عندما نفكر في العدد الكبير من الأشخاص الذين ستَنقذ مادة الأرتيميسينين حياتهم من مخالب مرض الملاريا الفتاكة، سوف تنتفي الحاجة إلى أيّ كلمات أمام الأهمية الجلية لهذا الإكتشاف”، كما يقول.
وفي نفس السياق، كان حصول تو على جائزة نوبل أمراً واضحاً جداً بالنسبة لـشو دونغ وانغ، الأستاذ في كلية الطب بـجامعة نانجينغرابط خارجي. مع ذلك، أدلى وانغ بتعليق يدعو للتنبُه: فعلى الرغم من كل الضجيج والحماس، يتعين العمل على مَنْع تشويه صورة الطب التقليدي الصيني من خلال شعبية مادة الأرتيميسينين.
من وحي الطب الصيني التقليدي
“خذ حَفْنة واحدة من نبات الشيح الحولي، وانقعه في ضِعف كميته من الماء. أعصُر النباتات وتناول العصير”.
المزيد
الطب الصيني التقليدي
الجملة التي تعود إلى كتيب “الوصفات الطبية لحالات الطوارئ” الذي كتبه الكيميائي الطاوي الصيني المرموق قه هونغ (~ 280 إلى ~ 340) هي ما لفت إنتباه يويو تو: إذ لاحَظَت أن مادة الأرتيميسينين كانت تستخرج عن طريق استخلاصها من عشبة الشيح وليس عن طريق غليها، التي تُفقِدها الكثير من مكوناتها الفعالة المضادة للملاريا. وهكذا لجأت العالمة وفريقها إلى أسلوب بديل لاستخلاص الأرتيميسينين باستخدام مذيب الأثير الذي يغلي بدرجة منخفضة. وبعد العديد من التجارب، تم التوصل إلى المكون الفعال الذي ساهم في الشفاء من المرض بنسبة تزيد عن 90%.
الطب الصيني التقليدي على طريق للنجاح
حظي الطب الصيني التقليدي بقبول متزايد في سويسرا خلال الأعوام الأخيرة. كما أدرجته بعض شركات التأمين الصحي ضمن التأمين الإضافي في مجال الطب التكميلي/البديل في نظام التأمين الصحي السويسري.
وفقاً لـزودونغ وانغ، الأستاذ في كلية الطب بجامعة نانجينغ الصينية والذي يعمل في سويسرا حاليا، تضاعف عدد عيادات الطب الصيني التقليدي والمُعالجين فيها في سويسرا من بِضعِ عشرات إلى عدة آلاف. كما يَشهَد عدد الطلاب المُهتمين بالطب الصيني التقليدي زيادة مستمرة.
من جهتها، لا تحتفظ رابطة الجمعيات السويسرية الطبية للوخز بالإبر والطب الصيني بأي إحصاءات حول هذا الموضوع. وهي تُحيل المهتمين بهذا الموضوع إلى فهرس رابطة الأطباء السويسريين (FMH) الذي يشير إلى وجود أكثر من 500 عيادة مختصة ومسجلة في “الوخز بالأبر وفقاً للطب الصيني التقليدي”. ويمكن ملاحظة تكرار أسماء بعض الأطباء في القائمة، بسبب عملهم في أحد المستشفيات أيضاً بجانب عملهم في العيادة.
“يزداد قبول الطب الصيني التقليدي في سويسرا بشكل مطرد”، وفقاً لـسيمون بيكَر، رئيس أكاديمية ومركز علاج الوخز بالإبر والطب الآسيوي (Chiway). وتحظى الشهادات التي تمنحها الأكاديمية بالإعتراف بوصفها شهادة فدرالية.
ويشعر بيكر بفرح عامر لتكريم يويو تو بجائزة نوبل للطب. ويقول ضمن هذا السياق:”هذا يعني أن الطب الصيني التقليدي مازال يزخر بالعديد من الكنوز المخفية التي ينبغي إكتشافها”.
إذن، فالأمر الحاسم هنا هو الأسلوب المُستخدم في استخراج هذا العقار. وهذه الحقيقة هي ما أثار الجدَل حول انتماء مادة الأرتيميسينين بالنتيجة إلى الأدوية الكيميائية أو إلى الكيمياء الصينية التقليدية.
من جهتها، برَّرَت لجنة نوبل تكريم العالِمة الصينية أثناء حفل توزيع الجوائز بالقول: “نحن لا نمنح جائزة نوبل لهذا العام للطب الصيني التقليدي، ولكن إلى شخصية بحثية طوَّرت دواءً جديداً بِوَحي من الطب التقليدي”.
ويرى تانَّر، الذي يُدرِّس اليوم بصفة أستاذ في جامعة بازل، أن الأرتيميسينين هو نِتاج مشترك بين الطب الصيني التقليدي وعلم الصيدلة. وهو لا يستطيع فَهم الإنتقادات الموجهة للصين، إذ يقول:”من الخطأ إثارة نقاش حول هذه المسألة. الشيء المهم هنا ليس الأسلوب، ولكن حقيقة أن مادة الأرتيميسينين هي اختراع عظيم في حَد ذاته”.
وبدوره، يؤكد البروفيسور وانغ:”حتى لو حَصَلَت تو على مادة الأرتيميسينين باللجوء لأساليب الصيدلة الحديثة، لن يكون بالإمكان إغفال دور الطب الصيني التقليدي أو إلغاءه، لأنها إستوحت إلهامها من هناك. وقد أدركت لجنة نوبل هذه الحقيقة بصورة صحيحة تماماً”.
عالِمة، ولكن بثلاثة “نقائص”
المسألة الأخرى التي أثارت نقاشاً ساخناً في الصين، كانت حول المسيرة المهنية لأخصائية الكيمياء الصيدلانية (التي حصلت على إختصاصها من أكاديمية الصين للطّب الصيني التقليدي في بكين)، إذ لا تحمل يويو تو التي تبلغ الخامسة والثمانين من العمر شهادة الدكتوراه، كما أنها ليست عضوة في الأكاديمية الصينية للعلوم، ولم تقدّم أي دراسات أو تجارب بحثية في الخارج. ولكن هذه العالِمة، وبالرغم من افتقارها لهذه الألقاب العلمية، نجحت في إنقاذ حياة الملايين بفضل الدواء الذي توصلت إليه.
“تُعتَبَر يويو تو شخصية غير معروفة في هذا المجال”، كما يقول وانغ، مُضيفا: “بحسب المعايير الصينية، ليست تو شخصية بارزة في كثير من النواحي، وهكذا أثار حصولها على جائزة نوبل انزعاج وحَسَد البعض. ولكن الناس في الخارج ينظرون إلى الإكتشاف وليس إلى الوضع الإجتماعي. وفي هذه النقطة بالذات، أقدِّمُ فائق إحترامي لقرار لجنة جائزة نوبل. وهذه المسألة في الواقع هي دعوة لاستيقاظ بعض المؤسسات العلمية في بلدنا”.
وفي هذا السياق، يحث تانَّر على التحلي بقدر من المرونة في المؤسسات أيضا، حيث يدعو إلى إمكانية مَنح لقب فخري للأشخاص غير الحاملين للقب علمي، مِمَن يحققون إنجازات مُتَميزة تعود بفوائد كبيرة على المُجتمع. “لو كانت يويو تو تعمل في سويسرا، لكانت حصلت على شهادة الدكتوراه الفخرية حالاً”. مع ذلك، يبقى ذكاء الشخص هو الأمر الحاسم وليس لقبه العلمي.
ليست أمراً جيداً بالضرورة
وبالرغم من كل البهجة التي أثارتها جائزة نوبل في الصين، إلّا أن البروفيسور وانغ لا يخفي قلقه أيضاً، حيث قال منتقدا: “ليست هذه الجائزة أمراً جيداً بالنسبة للطبّ الصيني بالضرورة، حيث يمكن أن تؤدي به إلى طريق مسدود في المستقبل”. ونتيجة لحصول تو على جائزة نوبل باعتماد أساليب تجريبية سوف تُقرَن بالطب الصيني.
في السياق، يخشى الأستاذ في كلية الطب بجامعة نانجينغ من “إمكانية تحول الطب الصيني التقليدي وفق النمط الغربي إلى عادة”. وهذا بدوره “يمكن أن يؤثر على السياسة الصينية تجاه الطب الصيني التقليدي، بحيث تزيد الدولة من دعمها المالي والسياسي للبحوث المختبرية”. ويحذر وانغ قائلا: “لو تمت محاولة تحليل الطب الصيني التقليدي الشمولي التوجّه مع الإختزال المتبع في الغرب، فسوف يُعَدُّ هذا بمثابة حُكمٍ بالإعدام”!
وحتى اليوم، ساهم عقار أرتيميسينين بشكل كبير في إنقاذ حياة الملايين من الأشخاص المصابين بالملاريا، وبشكل لا يمكن حتى لجائزة نوبل أن توليه حقَّه.
والآن؛ هل تحمل يويو تو لقباً كاديمياً أم لا؟ وهل السؤال حول ما إذا كان الفضل في إكتشافها يعود للطب الصيني التقليدي أو إلى عِلْم الصيدلة الحديثة مهمٌ حقا بهذا القدر؟ يرى البروفيسور وانغ أن المسألة نسبية ويقول: “لو لم توجد هناك المزيد من الأمراض، سوف تنتفي الحاجة للسؤال عن الشخص الحاصل على جائزة نوبل أيضاً”.
المزيد
زيارة ميدانية في تنزانيا
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.