حقيقة الجَدَل المُثار بشأن التَعديل الجيني لطعامنا
يُمثل ازدياد عدد السكان تهديداً كبيراً للأمن الغذائي للبشرية. وتتطلب مواجهة مثل هذه التهديدات من الحكومات إيجاد طرق لإنتاج المزيد من المحاصيل على كوكب يعترضه عدد متزايد من التحديات من جرّاء الاحترار العالمي.
كوسيلة للمضي قدُماً وزيادة الإنتاج العالمي من الغذاء لإطعام سكان المعمورة الذين يُتوقع وصول عددهم إلى تسعة مليارات نسمة في عام 2050، تم طَرْح تقنياتِ تحرير الجينوم، مثل “كرسبر-كاس9” (CRISPR-Cas9) التي تُعتَبَر أحد أهم التطورات العلمية في القرن الحالي حتى الآن. لكن وجهات النَظَر بشأن هذه التقنية تتباين بشدة. فما هو الجانب العِلمي والأسباب الأخرى الكامنة وراء هذا النقاش؟
1- ما هو تحرير الجينوم وكيف يتم تطبيقه في قطاع الزراعة؟
يتضمن تحرير الجينوم (المعروف بالتعديل الجيني أيضاً) تغيير الحَمض النووي للكائنات الحية مثل النباتات، والحيوانات والبَشر. وقد دأب مُرَبّو النباتات منذ أمَدَ بعيد على تغيير الجينات لتطوير أصناف نباتية جديدة ومُحسّنة، لكن التطورات التكنولوجية الأخيرة جعلت إمكانية تَحرير جينوم الكائن الحي أكثر سُرعة ودِقّة، وأقل تكلفة.
إحدى الأدوات للقيام بذلك هي تقنية “كرسبر-كاس9رابط خارجي” CRISPR-Cas9 (تعني علميا: التكرارات العنقودية المُتناظرة القصيرة مُنتظمة التباعُد والبروتين بمساعدة انزيم ‘كاس9’). وتعمل هذه الأداة التي تم اكتشافها في عام 2012رابط خارجي مثل المِقَص، حيث تقوم بِقَصّ جزيئة من جزيئات الحَمض النووي في مكان مُعيّن لتمكين إحداث تغييرات دقيقة للغاية في خصائص النبات. ويُمكن أن تتباين هذه الخواص من لَون أو حَجم الخضار أو الفاكهة، ووصولاً إلى محتواها الغذائي وقُدرتِها على مُقاومة الأمراض ومُبيدات الآفات.
تشمل التقنيات الشائعة الأخرى لتحرير الجينوم نيوكلييز أصبع الزنك (Zinc-finger nucleases) التي يُرمز لها اختصارا بـ (ZFNs)، ونوكليازات المُستَجيب الشبيهة بِمُنَشط النَسخ (TALENs).
هناك جدلٌ حول كيفية تَصنيف وتَسمية تَحرير الجينوم باستخدام أدوات مثل “كرسبر-كاس9”. على سبيل المثال، يستخدم الاتحاد الأوروبي مُصطلح “تقنيات جينومية جديدةرابط خارجي” للإشارة إلى التقنيات القادرة على تغيير المادة الوراثية للكائن الحي، والتي ظهرت أو تم تطويرها بصورة رئيسية ابتداء من عام 2001.
2 – ما هو الفَرق بين البذور المُحَرَّرة جينومياً والبذور المُعَدَّلة وراثيًا؟
تنطوي عملية الاستيلاد التقليدية على تَحديد واختيار و”تَهجين” النباتات على مَدى أجيال مُتَعَدِّدة، بغية تَحسين خصائص مَحصول مُعيّن. وقد تطورت هذه المُمارسة على مَر السنين وأصبحت أكثر كفاءة من خلال استخدام البيانات وتسلسل الجينوم الكامل. [هو عملية تحديد مُجمل أو تقريباً كامل تسلسل الحمض النووي لجينوم الكائن الحي في وقت واحد].
يُمكن استخدام تقنية تَحرير الجينوم “كرسبر-كاس9” لإدخال حمض نووي من نفس النوع – مثل بطاطا بَرّية وبطاطا مزروعة. ويُمكن استخدامها أيضاً لإدخال الحمض النووي لكائن حي، كحشرةٍ مثلاً، في جينوم نوعٍ مُختلف مثل النبات. ويُعرف ناتج هذه العملية بشكل عام بـ الكائنات المعدلة وراثياً (تُشار إليها اختصارا بالانجليزية: GMO).
يُعرِّف قانون الاتحاد الأوروبيرابط خارجي الكائنات المُعَدَّلة وراثياً بأنها “كائنات حَيّة تم تغيير مادتها الوراثية بطريقة لا تَحدث بشكل طبيعي عن طريق التزاوج أو إعادة التركيب الطبيعي”. مع ذلك، كانت الأساليب التي استُخدِمَت لتطوير الكائنات المُعدلة وراثياً في التسعينيات مُختلفة وأقل دقة من أدوات تحرير الجينوم الحديثة مثل “كرسبر-كاس9”.
المزيد
مُعضلة براءات تَحرير الجينوم تُثير القلق بشأن مُستقبل الغذاء في العالم
3 – لماذا يثير تحرير الجينوم في قطاع الزراعة كل هذا الجدل؟
يتعلق النقاش الرئيسي الدائر حول هذه التقنية بالفوائد والمخاطر المُحتَمَلة على صحة الإنسان و البيئة على حدٍ سواء.
يقول المُدافعون عن تَحرير الجينوم، الذين يَنتمي مُعظمَهم إلى قطّاع صناعة البذور، إن هذه التقنية إنما تعمل بِبَساطة على تَسريع ما يَحدث في الطبيعة أو من خلال الطُرُق التقليدية لاستيلاد النباتات لا غَير، مما يجعل مخاطرها ضئيلة بالتالي. وهم يجادلون أيضاً بأن أدوات مثل “كرسبر-كاس9” هي أكثر دِقّة من تقنيات الهندسة الوراثية السابقة، مما يجعل مَخاطر تَدمير جينٍ (أو جينة) نافعٍ أقل في هذه العملية.
على الجانب الآخر، يؤكد المنتقدون أن تَحرير الجينوم يمكن أن يخلق مجموعة من التغييرات في جينومات النباتات التي تشكل خطراً على التنوع البيولوجي، والمياه، والتُربة، وصحة الإنسان، وإنتاج الأغذية العضوية. كما يُساور بَعضهم القلق من إمكانية تَفَوُق مِثل هذه المحاصيل على الأنواع الطبيعية، وخلقها لِزِراعة أحادية واسعة النطاق، مما قد يؤدي إلى تَدمير النُظُم البيئية. ويُجادل الكثيرون بأن بعض مخاطر هذه التقنية غير مفهومة تماماً بعد.
هناك أيضاً أسئلة أخلاقية واجتماعية حول الوَقت والمكان الذي يجب أن تُستَخدَم فيه هذه التكنولوجيا، وهوية الطَرَف الذي يُمكنه الوصول إلى هذه البذور.
4 – ما هو موقف اللوائح التنظيمية بالنسبة للبذور والأغذية المُحررة جينومياً؟
المشهد التنظيمي حول التحرير الجيني في حالة تغيّر مستمررابط خارجي، حيث تَدفع الشواغل المُتعلقة بالتطور التكنولوجي وتَغَير المناخ العديد من البلدان إلى تغيير سياساتها طويلة الأمد في مجال الهندسة الوراثية. كما تؤثر اللوائح التنظيمية على متطلبات فحوصات السلامة ومسألة ما إذا كان ينبغي تصنيف المنتجات المُحررة جينومياً بشكل مختلف.
بهذا الصدد، قَرَّرَت كل من الولايات المتحدة وكندا عَدَم تَنظيم تَحرير الجينوم إذا كان من الممكن لهذا التغيير الجيني أن يحدث من خلال الطُرُق التقليدية. وهذا يعني أن النباتات المُعَدَّلة جينومياً لا تخضع لبروتوكولات سلامة الكائنات المُعَدَّلة وراثياً ومتطلبات وَضع العلامات. وقد اتخذت المملكة المتحدةرابط خارجي موقفاً مماثلاً في عام 2021. بَعض البلدان الأخرى مثل البرازيل والأرجنتين تتعامل مع النباتات المُحَرَّرة جينومياً باعتبارها نباتات تقليدية طالما أنها لا تحتوي على حمض نووي غريب.
في اليابان، يَتَعيّن تَسجيل المحاصيل المُحررة جينومياً، لكنها لا تحتاج إلى الخضوع لاختبارات السلامة أو البيئة. وفي شهر ديسمبر 2020، أعطَت الدولة الضوء الأخضر لِبَيع نوعٍ من الطماطم المُحررة جينومياًرابط خارجي للمُستهلكين.
من جانبها، تَفرض الصين قيوداً صارِمة على استيراد المحاصيل المُعَدَّلة وراثياً وإنتاجها مَحَلّياً، لكنها لم تُنَظِم تقنية تحرير الجينوم حتى الآن. ورغم استثمار الحكومة المُكَثَّف في هذه التقنية بغية تعزيز الأمن الغذائي، إلّا أنَّها لم توافق حتى الآن على طَرح أي غذاء مُعدل جينومياً في الأسواق.
روسيا أيضاً تستثمر بكثافة في تقنيات تحرير الجينوم، وقد أشارت إلى إمكانية إعفاء النباتات المُعدلة جينومياً من قانون صدر عام 2016 يحظر زراعة الكائنات المُعدلة وراثياً، طالما لم ينطوي الإجراء على إدخال حمضٍ نووي أجنبي. وكانت الحكومة قد أطلقت في عام 2019 برنامجاً بقيمة 1,7 مليار دولاررابط خارجي لتطوير ثلاثين صِنفاً من النباتات والحيوانات المُحررة جينياً خلال العقد المُقبل.
من جانبها، حَذَتْ سويسرا حتى الآن حذو الاتحاد الأوروبي، الذي وَضَع الكائِنات المُحَرَّرة جينومياً تحت توجيه الكائنات المعدلة وراثياًرابط خارجي منذ عام 2001. وقد تأيد ذلك من خلال حكم صادر عن محكمة العدل الأوروبية في عام 2018، نصّ على عدم وجود تاريخ للاستخدام الآمن لتقنية تحرير الجينوم. وفي أبريل 2021، اتخذت المفوضية الأوروبية موقفاً أكثر إيجابية بشأن تَحرير الجينوم في دراسةرابط خارجي أوصَت بتكييف التشريعات، بحيث تعكس التقدم العلمي والتكنولوجي، ولا سيما التقنيات الجديدة المتعلقة بتحرير الجينوم.
وكان مجلس الشيوخ السويسري (الغرفة العليا في البرلمان الفدرالي) قد صَوَّتَ في شهر ديسمبر 2021 لصالح استِبعاد تِقنية تحرير الجينوم من الحَظر المفروض على الكائنات المُعَدَّلة وراثياً. مع ذلك، دعا بعض السياسيين إلى الحصول على المَزيد من الأدلة التي تثبت سلامة هذه التقنية قبل اتخاذ قرار نهائي.
5 – هل تُوجد هناك اليوم أي أطعمة مُحررة جينومياً في السوق؟
لا يوجد سوى عدد قليل من المنتجات المحررة جينياً في السوق حتى الآن. وتشمل هذه الأطعمة نوعا من فول الصويارابط خارجي ذي محتوى أكثر صحة من الأحماض الدهنية، وهو أول مُنتج تجاري ظهر في الولايات المتحدة (تم تطويره باستخدام تقنية التحرير الجيني “تالن”)، كما طورت اليابان أول طماطمرابط خارجي مُحَرَّرة جينومياً عن طريق تقنية “كريسبر-كاس9″، تحتوي على مستويات عالية من حمض غاما-أمينوبيوتيريك (الذي يُختصر بـ “غابا” (GABA))، وهو حمض أميني يُعتقد أنه يساعد على الاسترخاء وخفض ضغط الدم. وقد طُرح هذا الصنف من الطماطم للأسواق في سبتمبر 2021.
يعمل الباحثون على تطوير خصائص العديد من أنواع الخضار والفاكهة الأخرى [باستخدام تقنية التحرير الجيني]، بما في ذلك نوع من فطر عيش الغراب الأبيض الذي لا يتحول إلى اللون البني، وطماطم خالية من البذور، وكانولا مُقاومة لمُبيدات الأعشاب، وبطاطا ذات محتوى أعلى من النشاء، ونوع من الكاكاو المُقاوم للأمراض الفطرية والفيروسية، وفراولة أكثر حلاوة ذات فترة صلاحية أطول.
المزيد
تمت المراجعة من طرف نيريس آفيري
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.