“أخطر ما حصل في تونس اختراق الفضاء السياسي من المال المشبوه”
بصرف النظر عن طبيعة تركيبتها وتاريخ التصويت عليها من طرف مجلس نواب الشعب، يعلم الجميع في تونس أن أّيّ حكومة قادمة ستجد نفسها أمام مُعضلتين من الحجم الثقيل. تتمثل الأولى في الملف الإقتصادي الذي لا يزال يجثم بقوة على جميع الأطراف السياسية والإجتماعية. أما الثانية، فهي أمنيّة بامتياز، وهو ملف سيتأثر كثيرا بما ستؤول إليه الأوضاع العسكرية والسياسية في ليبيا المجاورة.
في هذا السياق، يتنزل الحوار التالي مع أحد الخبراء المشهود لهم بمعرفة الواقع الإقتصادي والإجتماعي في تونس، وذلك بحكم قربه من الإتحاد العام التونسي للشغلرابط خارجي (المركزية النقابية الرئيسية)، ولإلمامه بما تطرحه الأحزاب السياسية بما في ذلك حركة نداء تونس رابط خارجيالتي ستتولى إدارة الحكم طيلة السنوات الخمسة القادمة.
الدكتور عبد الجليل البدوي عبّر عن عدم تفاؤله باحتمال تحقيق انتعاشة اقتصادية في تونس خلال الفترة القادمة. فالمؤشرات من وجهة نظر هذا الجامعي، والخبير المعتمد من قبل النقابات التونسية وعديد الهيئات الدولية، تجعله “متشائما”.
وجهة نظر الدكتور البدوي تكتسب المزيد من الأهمية خصوصا وأن العلاقات بين حكومة مهدي جمعة المغادرة والطرف النقابي الأهم في البلاد شهدت حالة من التوتر خلال الأسابيع الأخيرة، وكادت أن تتحول إلى مواجهة مباشرة على إثر الإضراب العشوائي الذي شنته جامعة النقل خلال الأسبوع الثالث من شهر يناير الجاري، وحولته إلى إضراب مفتوح كانت له نتائج وخيمة على قطاع واسع من المواطنين، وبالأخص الفقراء منهم. كما تم الإعلان عن إضرابات أخرى تشمل عددا من القطاعات الحيوية قد تنفّذ قريبا.
ورغم أن الحبيب الصيد المكلف من قبل رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة الجديدة لم ينته بعدُ من مشاوراته مع الأحزاب السياسية، سارعت قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل بتقديم مذكرة إليه، حثته فيها على “توجيه رسائل طمأنة” إلى الرأي العام، خاصة في المجالين الإجتماعي والإقتصادي.
عبد الجليل البدوي في سطور
متحصل على شهادة ختم الدروس في الدراسات المختصة بالإقتصاد في سنة 1974، ثم على شهادة ختم الدروس في العلوم السياسية عام 1975 من جامعة غرونوبل الفرنسية.
في عام 2003، تحصل على شهادة الدكتوراه في الإقتصاد والتنمية، وأصبح مستشارا لدى الإتحاد العام التونسي للشغل، كما أنجز عديد الدراسات والتقارير لصالح الحركة النقابية.
هو عضو مؤسس لعديد الجمعيات، من بينها جمعية الإقتصاديين التونسيين، والمنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية. وقدّم بوصفه خبيرا عديد الإستشارات والتقارير لصالح هيئات الأمم المتحدة.
في يناير 2011، دُعي لتولي حقيبة وزارية في حكومة محمد الغنوشي بعد سقوط الرئيس السابق بن علي، لكنه اعتذر عن ذلك.
swissinfo.ch: يؤكد وزير المالية و كذلك محافظ البنك المركزي وجود مؤشرات تفيد بأن الأوضاع الإقتصادية قد تتحسن في بعض جوانبها خلال المرحلة القادمة، خاصة مع تحسن جزئي في مستوى التضخم والمديونية. ما هي توقعاتكم في ضوء بما يجري حاليا خاصة خلال سنتي 2015 و 2016؟
د. عبد الجليل البدوي: يمكن أن تشهد البلاد تحسنا في نسبة النمو والتي قد تكون في حدود 3 بالمائة، لكن على المستوى الإقتصادي والإجتماعي يُستبعد جدا حصول تطور إيجابي. إذ سيكون من الصعب أن يتحقق ذلك بشكل ملموس، خاصة وأن هذا التحسن سيكون بسبب عوامل طبيعية، وفي مقدمتها الموسم الزراعي الذي يُتَوقع ان يكون هاما هذه السنة، و كذلك بفضل نمو قطاع الصيد البحري وهو ما يفترض اعتماد ميزانية الحكومة على نسبة نمو قدرتها بـ 8% في القطاع الزراعي.
ماعدا ذلك ستكون سنة 2015 صعبة بسبب عوامل عديدة. فرغم تراجع نسبة التضخم نلاحظ أن بقية المؤشرات الأخرى تتطور بطريقة سلبية مثل العجز التجاري الذي بلغ 5.12 مليار دينار وذلك بزيادة 2 مليار دينار مقارنة بالسنة الفارطة. كما أنه لا يوجد وضوح بالنسبة لحدوث استفاقة جدية قريبة في مجال الإستثمار، وذلك بسبب أن الظروف التي تكبل المستثمرين لا تزال قائمة رغم التحسن الأمني الذي تحقق نسبيا، خاصة إذا نظرنا لتصاعد التوتر في ليبيا. كما يجب إضافة حالة عدم الإستقرار على الصعيد الاجتماعي، حيث لم يتمتع القطاع العام منذ سنتين بالزيادة في الأجور.
swissinfo.ch: إذا أخذنا بعين الإعتبار ما ذكرتموه، ما هو الهامش المتبقي لدى الحكومة القادمة الذي يمكن أن تتصرف فيه لإخراج الوضع العام من المأزق الراهن؟
د. عبد الجليل البدوي: حقيقة، ستواجه الحكومة القادمة وضعا دقيقا، خاصة وأن برنامج حزب نداء تونس الفائز في الإنتخابات (أجريت يوم 23 أكتوبر 2014 – التحرير) يتجاوز إمكانيات البلاد. فهو يطمح إلى الزيادة في الإستثمار، خاصة الإستثمار العمومي. فقانون المالية المعتمد حاليا يضع ميزانية لا تتجاوز 5.8 مليار دينار، في حين أن برنامج الحزب يذهب إلى حد القول بإمكانية بلوغ 10 مليار دينار في مجال الإستثمار. فمن أين سيتم تمويل هذا الفارق. كما أن قادة الحزب يتوقعون تحقيق نسبة نمو تصل إلى 7 بالمائة، فكيف سيحققون هذا النسق العالي؟
لهذا أتوقع أن يصطدم حزب نداء تونس بعقبة التمويل الضروري، وحتى لو تم توفير جزء من التمويل الداخلي فإن الهامش سيبقى ضعيفا في الخزينة العمومية. فالزيادة في التمويل الداخلي تقتضي القيام بإصلاح جبائي جريء من شأنه أن يُمكّن الدولة من موارد هامة، في حين نحن نعلم أن الإصلاحات الضريبية عادة ما تجد في البداية مقاومة من طرف الفئات المحظوظة التي يُفترض فيها أن تساهم بنسبة أكبر من غيرها في دفع عجلة التنمية. كما يمكن اللجوء إلى الإقتراض الداخلي، وقد تم ذلك في مناسبتين، وأعتقد بأنه لم يعد هناك هامش كبير لمزيد الإلتجاء إليه. أما الإقتراض الخارجي، فهو بالرغم من تحقيق تراجع قليل في نسبته، إلا أنه مع حلول سنة 2016 فسترتفع معاليم تسديد الديون بشكل كبير إلى حدود الضعف حسب تقديرات الحكومة الحالية من حيث الأصل والفائدة وذلك إلى موفى سنة 2018. وبناء على ذلك، أتوقع بأن الصعوبات المالية ستبقى، وهو ما من شأنه أن يُعيق حركة الحكومة القادمة.
swissinfo.ch: على سبيل المثال، هل من شأن انخفاض سعر برميل النفط أن يُساعد الحكومة القادمة على حسن التحكم بشكل أفضل في الموارد؟
د. عبد الجليل البدوي: يُمكن القول بأن ذلك سيشكل عاملا إيجابيا حيث يجري الحديث عن احتمال التخفيض في نسبة الدعم، لكن ذلك يستوجب الإستمرار في مواصلة سياسة دعم المواد المدعمة من محروقات وكهرباء.
swissinfo.ch: هل يُفهم مما يقال أن مسألة التخفيف من حجم الدعم أصبحت قرارا حتميا؟
د. عبد الجليل البدوي : حاليا هناك توجّه نحو إلغاء الدعم، مع مساندة الفئات التي يجب أن تستفيد بالأساس من سياسات الدعم. وهناك دراسات تحاول أن تحدد نوع هذه الفئات. لكن هذا المشروع لم يكتمل حتى الآن. وبالتالي فإن الزيادات المعلنة تشمل حاليا كل الفئات، ولم يقع وضع آليات تُمكّن من تحقيق التعويض المطلوب لهذه الشرائح الإجتماعية التي هي في حاجة للدعم. وسيكون من الصعب حصر هذه الشرائح المستهدفة بمبدإ الحماية والمساعدة لأن هذا العامل متغيّر وليس معطى قارا، إذ هناك شرائح مهددة – إذا ما استمر الحال على ما هو عليه – لكي تنزل إلى مستوى الفقر ودونه. فحتى المواطنين الذين تجمعهم الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى أصبحوا مهددين بالنزول إلى ما تحت عتبة الفقر. مع الملاحظ أن نسبة هؤلاء تعتبر الأعلى ضمن هرمية الطبقة الوسطى، وقد تصل إلى حدود 40 بالمائة من هذه الطبقة.
س : هل يعني ذلك أن الحالة الاجتماعية غير مرشحة لكي تتحسن خلال المرحلة القادمة؟
د. عبد الجليل البدوي: فعلا، لا أتوقع أن تتحسن الحالة الإجتماعية على المدى المنظور. ويعود ذلك إلى استبعاد أن تُقدم الحكومة الجديدة على زيادات هامة في الأجور لأن انتاجية الإقتصاد متدهورة، وكذلك الشأن بالنسبة للتنافسية التي تراجعت كثيرا، إلى جانب استمرار الميزان التجاري في حالة عجز كبير غير مسبوق في تونس.
المشكلة الأساسية التي نواجهها حاليا أنه خلال الأربع سنوات الأخيرة حصلت جملة من المتغيرات أضرت كثيرا بالمسار الإقتصادي للبلاد، وأعاقت إمكانية عودة الدورة الإقتصادية إلى نسقها القديم وخلق انتعاشة جديدة.
أولا: تراجع مردود رأسمال المؤسساتي، وهو عنصر هام في التنمية بحكم دوره التحفيزي في الدورة الاقتصادية. وقد كانت الإدارة قبل الثورة أكثر مردودية ونجاعة. كما لا تزال المؤسسات العمومية تواجه عجزا ملحوظا بسبب الإنتدابات العشوائية التي كانت فوق طاقة الإستيعاب لدى الادارة العمومية، حيث لم يتم احترام شرط الكفاءة، إلى جانب حالة التسيّب حيث أوضح كشف ميداني أن نسبة عمل الموظف التونسي لم تتجاوز ساعة و نصف في اليوم، و هذه في حد ذاتها مصيبة كبرى لأن هذا سيشكل عائقا رئيسيا أمام احتمال تحقيق انتعاشة اقتصادية كبرى.
المتغير الثاني الذي اكتشفته من خلال دراسة قمتُ بها لصالح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو حصول انهيار للعلاقات المهنية داخل المؤسسات بسبب تراجع نسبة الإنضباط و تفكك العلاقة بين المسؤولين وبقية الإداريين، و هو ما من شأنه أن يحُول دون الإنتقال من الطريقة القديمة لتسيير المؤسسة إلى نمط جديد من العلاقات. فقبل الثورة تعوّد الموظفون والعمال على نمط تسيير أبوي، و لم يتم التمكن من الإنتقال حتى الآن نحو نمط مغاير يقوم على المشاركة من خلال تدخل مختلف الأطراف الإجتماعية و هو ما أدى بعديد المؤسسات العمومية إلى حالة تقترب تدريجيا من الإفلاس. ولن يحصل التغيير العميق للعلاقات المهنية إلا مع انتشار ثقافة جديدة تأتي مع الزمن.
المتغير الثالث، يتمثل في الحجم الكبير الذي أصبح عليه الإقتصاد المُوازي أو غير المنظم الذي بلغ نسبة 55% من حجم المعاملات التجارية، وأصبح يهدد القطاع المنظم، وموارد الدولة أيضا، لأن هذه التجارة تتحرك بعيدا عن أنظمة الضرائب بما في ذلك عدم دفع الضريبة على القيمة المضافة التي يقوم بدفعها المستهلك، وقد بلغ الأمر درجة وجود شبكات إجرامية تدير جوانب هامة من هذه التجارة الموازية، وتقوم على العنف وحتى على التنسيق والتعامل أحيانا مع الجماعات الإرهابية.
هذه العوائق الثلاث سيكون لها تأثير على إمكانية تحقيق انفراج اقتصادي خلال الاشهر القادمة.
swissinfo.ch: هل هناك إمكانية لتحقيق هدنة اجتماعية، وهو ما تُطالب به عديد الأطراف وفي مقدمتها حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات؟
د. عبد الجليل البدوي: أعتقد بان الدعوة الى هدنة اجتماعية لا معنى له. أنا أدعو إلى تصور مختلف و هو ما أسميه بوجوب تحقيق الحد الادنى من التضامن. لقد نجحنا على الصعيد السياسي بالاعتماد على قيمة التوافق، أما على المستوى الاقتصادي فنحن في أشد الحاجة إلى قيمة التضامن.
swissinfo.ch: ماذا تقصدون بالتضامن؟
د. عبد الجليل البدوي: أقصد أن الذين كانوا يرفضون دفع الضرائب أصبح من الواجب أن يُدركوا خصوصية المرحلة وخطورتها، وأن يقبلوا بالمساهمة مع غيرهم في المجهود الوطني من خلال القيام بواجبهم الضريبي. كذلك الشأن بالنسبة للمحتكرين للبضائع، والذين يعتمدون بالأساس على الغش الذي يلعب دورا هاما في رفع مستوى التضخم المالي. على هؤلاء جميعا أن يمتنعوا عن مثل هذه الممارسات الخطيرة، لأن للتضخم أسباب خارجية ناتجة على سبيل المثال عن ازدياد أسعار البترول، وهو أمر بدأ يتراجع الآن، لكن هناك عنصر داخلي يتمثل في تهريب الإنتاج والزراعي منه خاصة، سواء إلى الجزائر أو المغرب. وهو ما يؤدي الى اختلال بين العرض والطلب. فالمهرّبون هم خارج القانون ويجب الضغط عليهم حتى يلتزموا بالحد الأدنى من الإنضباط.
swissinfo.ch: وهل هناك دور يجب أن تقوم به النقابات ؟
د. عبد الجليل البدوي: المشكل هو أن النقابات تمثل الأجـراء، ويكاد هؤلاء أن يشكلوا تقريبا الفئة الوحيدة التي تدفع حاليا فاتورة الوضع الراهن. فماذا ستطلب منهم إضافة لما يقدمونه؟ فالأجراء يمثلون 70 بالمائة من المجتمع النشيط، ونصيبهم من الثروة لا يزيد عن 35 بالمائة. وقد تم إخضاعهم لخصم أول ثم خصم ثان في الأجور، وبالتالي فإن أجورهم النقدية قد تراجعت إلى جانب تداعيات التضخم المالي. إضافة إلى أنه – وللسنة الثانية على التوالي – لم تُسجّل زيادات في الأجور سواء للقطاع العام أو القطاع الخاص.
بناء عليه، سيكون من الصعب مطالبة هذه الفئة بمزيد التضحيات في مثل هذه الظروف إلا إذا طلبت الحكومة من العمال وضع حد لاحتجاجاتهم مقابل أن تتعهد بالضغط على أصحاب الثروات والمداخيل العالية للمشاركة بنجاعة في التضحية وتقديم الدعم. لكن المشكلة أن هذه الأطراف فاعلة وتشكل لوبيات ضاغطة، ومن سوء الحظ أن جزءًا من الأعراف ورجال لأعمال أصبحوا اليوم داخل سلطة القرار، وذلك بحكم وجودهم في صلب البرلمان، أي أنهم انتقلوا من موقع أصحاب المال الذين يتمتعون بالإمتيازات إلى موقع أصحاب القرار بفضل انتخاب عدد منهم داخل السلطة التشريعية. وهؤلاء سيشكلون قوة مُعرقلة. لقد حصل متغير هام خلال الفترة الأخيرة سيكون له أثر خطير هو حصول اختراق ملحوظ للفضاء السياسي من قبل المال، وخاصة المال المشبوه.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.