مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

لبنان: انتفاضة “ربيعية” على حدّ السكين الطائفي

آلاف المتظاهرين المناهضين للحكومة في لبنان يحتجون على الفساد الإداري وغزو النفايات للشوارع ويرفعون الشعارات ويلوّحون بعلم لبنان وسط بيروت يوم السبت 29 أغسطس 2015. Keystone

أحداث غريبة وقعت لكاتِب هذه السطور مؤخرا. البداية كانت في النادي الرياضي الذي يستطيع المرء أن يبني فيه علاقات صداقة مع روّاده، بسبب مناخ الاسترخاء النفسي والعصبي، الذي يُولّده النشاط والتمارين.


من ضمن هؤلاء الأصدقاء، كان مُدرّب يعمل نهاراً في هذا النادي البيْروتي ويتابع دراسته الجامعية ليلاً. ولأن اختصاصه في العلوم السياسية، ولأنه يعلم أن كاتب هذه السطور يعمل في القطاع الإعلامي، فقد كان حريصاً على فتح نقاشات مستفيضة معه حول الوضع اللبناني المعقّد، حتى وهو يلهث ويئِن تحت وطأة ضغط التمارين.

لكن، في الآونة الأخيرة، انقلبت الأوضاع رأساً على عقِب بيننا. فبدلاً من استقبالي هاشاً باشاً، بات منظري يُطلق ما يشبه التيار الكهربائي الصاعِق في أوصاله، فيُشيح بوجهه وكأنه رأى كابوساً موصوفاً في وضح النهار، ويحاول الانشغال بأي شيء لتجنّب مشاطرتي أطراف الحديث كالعادة.

لماذا فعل ذلك؟ ماذا فعلت له؟ بعد حادثة المُدرّب، كرت السبحة. فشقيقتي وأولادها الذين كانوا ينتظرون زيارتي لهم بفارغ الصبر وكامل الحماسة العاطفية، باتوا يفروّن من أمامي زرافات ووحداناً. وإذا لم يتمكّنوا من الفِرار، كانوا يجلسون وكأن على رأسهم الطير وينظرون إلّي وكأنهم فريسة ترتعد أمام نمر ضارٍ.

لماذا فعلوا ذلك؟ ماذا فعلت لهم؟ ثم ما لبث الأمر أن تفاقم أكثر بعد أن تمدّد إلى مملكة الأصدقاء الذين وصفهم المثل الإنجليزي بقوله: “صديقك طبيبك”.

لماذا فعلوا ذلك؟ ماذا فعلت لهم؟ بعد فترة مُعاناة حقيقية، اكتشفت السبب: هؤلاء الناس جميعاً لم يعودوا قادِرين على سماع أي تحليل يقود إلى الاستنتاج، ليس فقط بأن نظام لبنان السياسي عصِي على الإصلاح، بل هو أيضاً عصي على الإسقاط، على رغم غرقه الشامل في لجج الفساد والإفساد والسرقات العلنية والمكشوفة.

وجاءت أزمة النفايات الأخيرة، التي حولّت لبنان الأخضر برمّته إلى مزبلة سوداء ضخمة، والتي نشبت بسبب تنافُس قادة الطوائف على “تناتش” ملايين الدولارات التي تدرّها هذه “الصناعة، لتكشف المدى المُذهل الذي يمكن أن يذهب إليه هؤلاء القادة في عدم مبالاتهم بأرواح الناس ومصالحهم.

وأزمة النفايات أضيفت إلى سلسلة أزمات فساد أوْقَعت لبنان بين براثن دِين قومي، تَجاوز الآن عتبة السبعين مليار دولار، وحرمته نعمة الكهرباء (لا يزال التقنين الكهربائي الحاد مستمر منذ 30 سنة، على رغم إنفاق 12 مليار دولار على الشبكة)، والماء (على رغم غِنى لبنان بموارده المالية)، وتآكل البنى التحتية، وفوضى البناء والأملاك البحرية، واتِّساع الفجوة بين النّخبة الغنية (الحاكمة) وبين طبقات متوسِّطة تكاد تختفي من الوجود.

ثم بعدها، جاء الاكتشاف الثاني: غالبية كبيرة من اللبنانيين لم تعُد تُتابِع الأخبار السياسية، إلا لماماً، على رغم تسييسها الشديد، وهي اتّجهت بأعداد لا سابق لها إلى صيْد الطيور أو مُطاردة ما تبقى من حفنة أسماك في البحر المتوسط أو التسبب في حوادث سير، ضربت أرقاماً قياسية.

هذه الحالة معروفة في عِلم النفس الفردي والاجتماعي باسم “حالة الإنكار”(State of denial). وقد عرّفها سيغموند فرويد بأنها “ميكانيزم دفاعي” يقوم بموجبه الفرد الذي يواجه حقيقة مؤلمة بإنكار وجودها، على رغم الأدلة الكاسحة التي تؤكّدها. وهذا يمكن أن يتخذ شكلين: إما النفْي البسيط للحقيقة غيْر السارة برمّتها، أو النفي التقليصي الذي يعترف بوجود الحقيقة، لكنه ينفي خطورتها.

اللبنانيون كانوا يعيشون هذه الأيام هذيْن الشكليْن معاً. فهل تشكِّل حركات الاحتجاج الشعبية الأخيرة، والتي وصلت إلى ذِروتها يوم السبت الماضي، حين نزل إلى وسط بيروت ما بين 100 و150 ألف متظاهِر، بداية كسْر الحلَقة المُفرَغة من الإحباط واليأس التي تغشاهم؟

أقوى نظام

ناشط يساري مُخضرم، شارك طيلة 40 سنة ونيف في كل الجهود لإسقاط أو تعديل وتطوير النظام السياسي الطائفي اللبناني، رّد على هذا السؤال بالقول: ربما، ولكن؟

فبالنسبة إليه، التحرُّك الشعبي الأخير يَـشي بالفعل بأن قِسماً كبيراً من اللّبنانيين، على مختلف طوائفهم ومشاربهم ومذاهبهم (18 طائفة مسيحية وإسلامية في لبنان)، يبدو مستعداً للمرة الأولى لتغليب ما هو مطلبي واجتماعي واقتصادي، على ما هو مذهبي أو طائفي. صحيح أن مثل هذا الميْل لا يعكس بالضرورة مشاعِر وطنية حقيقية (الهوية الوطنية اللبنانية هشّة للغاية)، إلا أنه يمكن أن يسير في هذا الاتجاه، إذا ما نجحت قيادة التحرّك في تحقيق مطالب مُشترَكة بين الطوائف، من حلّ مسألة الكارثة البيئية للنفايات إلى إجبار النظام على معالجة أزمات المياه والكهرباء، مروراً بوقف إفلات المسؤولين الفاسدين من المساءلة القانونية.

بيْد أن الناشط اليساري يُضيف، أن قادة هذا التحرّك واهِمون إذا ما هُم اعتقدوا أن مهمّتهم، حتى ولو انحصرت في إطار مطالِب محدودة، ستمرّ من دون ردٍّ عنيف وحازِم من النظام الطائفي.

فهذا النظام، الذي يتحالف فيه أمَراء الطوائف سِرّاً لتقاسم ما كان يسمّيه الرئيس الراحل ورجل الدولة فؤاد شهاب “جبنة الثروة والسلطة”، سيتحرّكون بسرعة حتْماً لإجهاض هذه الانتفاضة الشعبية. كيف؟ ببساطة عبْر اختراقها طائفياً، ثم تدميرها من الداخل.

ويعيد الناشط إلى الأذهان ما حدث العام الماضي، حين تظاهَر آلاف الشباب اللّاطائفي رافعين شعار الربيع العربي: “نريد إسقاط النظام” (الطائفي)، فإذا بهم في اليوم التالي، يجدون جحافل طائفية سُنّية وشيعية ودُرزية ومارُونية تتقدّم الصفوف وتطرح نفسها على أنها البديل الوحيد للنظام.

كما يعيد إلى الأذهان الشهادة الخطيرة التي أدلى بها رئيس حزب الكتائب المسيحي اللبناني كريم بقرادوني، في كتاب “الوطن الصعب والدولة المستحيلة”، والتي قال فيها إن الزعيم المسيحي الراحل بيار الجمَيِّـل “قرّر إشعال الحرب الأهلية الطائفية، حين رأى الشبّان المسيحيين ينضمّون إلى الشبّان المسلمين في تحرُّك مُشترك للمطالبة بتطوير النظام”.

ما يقوله هذا الناشط صحيح ودقيق، خاصة حين نضع في الاعتبار أن النظام الطائفي في لبنان يُعتبَر بلا منازع، النظام السياسي الأقوى في العالم. وهذا ليس لأنه، كما الدول الأخرى، يستنِد إلى سَطوَة الجيش والأجهزة الأمنية والأجهزة البيروقراطية الأخرى (فالدولة في لبنان أصلاً ضعيفة وحتى فاشلة)، بل إلى تغلغله في صفوف المجتمع المدني، وفي تحويله هذا المجتمع إلى قطعان طائفية متعصِّبة ضد بعضها البعض. وهو (النظام) يحْرص كل الحِرص إلى منْع بروز مؤسسات وطنية عامة، يمكنها أن تهدد المؤسسات الطائفية، من الجامعات والمدارس وأجهزة الإعلام وحتى للمصارف، إلى الأحوال الشخصية والمحاصصات السياسية الطائفية في السلطة.

لكل هذه الأسباب مُجتمعة، تبدو عملية التغيير أو التطوير في لبنان، مهمّة شاقة وصعبة. وما لم يضع الشبّان المخلصون، الذين ينزلون الآن بحماسة إلى الشوارع مطالِبين بمحاسبة ومساءلة الطبقة السياسية الحاكمة، هذه الحقيقة بعيْن الاعتبار، ويدركوا بالتالي، المقدرة الهائلة التي يمتلكها “عدوّهم”، ليَـبْنوا خططهم وبرامجهم على أساسها، فلن يفعلوا شيئاً، سوى تِكرار ما كان يفعله آباؤهم: الحراثة في البحر الطائفي.

وحينها، سيتعزِّز النظام الطائفي، بدل أن يضعف، وسيُصاب اللبنانيون بالإحباط واليأس مجدّدا، يواصل أمراء الطوائف وحاشيتهم الواسعة سرقاتهم وفسادهم وانتهاكاتهم وعلَنا (أو “على عيْنك يا تاجر”، كما يقول المثل الشعبي اللبناني).

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية