الهادي الدريدي: “عندما تسود ثقافة الرأي الواحد ينتفي العلم ويسود الإعتقاد”
في تصنيف عالمي نشرت نتائجه في شهر يناير 2016، احتلت جامعة نوشاتيل السويسرية المرتبة الحادية عشر عالميا على قائمة أفضل المؤسسات التعليمية التي لا يتجاوز عدد المنتسبين إليها 5000 طالب. وحازت الجامعة هذا التتويج بفضل التأطير والمتابعة عن كثب الذيْن توفرهما لطلابها. كما لفتت الأنظار إليها مؤخرا في تصنيف آخر بفضل ما تتميّز به من انفتاح دولي.
لفهم خفايا هذيْن التصنيفيْن وأبعادهما، ولتسليط الضوء على مميّزات هذه التجربة التعليمية الرائدة، اختارت swissinfo.ch إجراء حوار مع البروفسور الهادي الدريدي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نوشاتيل، والذي يتولى في نفس الوقت خطّة مدير معهد علوم الآثار بنفس المؤسسة الجامعية.
البروفسور الدريدي هو ثاني عميد من أصول عربية في سويسرا اختاره زملاؤه لهذه المهمة بداية هذا العام الدراسي، (سبقه إلى ذلك الدكتور منذر الكيلاني)، وهو في نفس الوقت عالم آثار معروف يتولّى منذ ستّ سنوات كرسي التاريخ القديم للمناطق المتوسطية بمعهد علوم الآثار. وقد انصب الحوار معه على موضوعات ثلاث رئيسية تشمل مميزات الدراسة في جامعة نوشاتيل، وإسهام هذه الجامعة، وسويسرا عامة، في مجال التاريخ الأثري، وأهمية الكنوز الأثرية في العالم العربي، والأخطار التي تحدق بها.
swissinfo.ch: ما هي برأيكم المزايا التي أهّلت جامعة نوشاتيل لكي تحتلّ هذه المرتبة المتقدّمة في هذا التصنيف العالمي؟
الأستاذ الهادي الدريدي: بداية هو صغر حجم هذه الجامعة، ونوشاتيل كلها هي بمثابة مركّب جامعي، وبناياتها منتشرة عبر أحياء هذه المدينة الصغيرة. ويمكنني أن أقول إن العلاقات بين العاملين في هذه المؤسسة، وطريقة التدريس يطغى عليها الطابع العائلي. وكأي عائلة بالطبع هناك بعض المشاكل، ولكن هناك أيضا روابط قوية بين مكوّناتها. صغر هذه الجامعة يسمح ايضا بوجود تقارب كبير بين الإداريين وبين المدرّسين والطلاب. فلا توجد أي حواجز أو عراقيل تمنع الطالب من التواصل مع المدرّسين خارج قاعة الدرس، ومنذ السنة الأولى، يصبح المدرّس يعرف طلبته بالأسماء واحدا واحدا، وهذا يمكننا من التقدّم معهم ومساعدتهم. في جامعات أخرى كبيرة عدد الطلاب لا يسمح بهذه المتابعة عن قرب.
swissinfo.ch: أحد التصنيفيْن احتكم في جزء منه إلى نتائج استقصاء شارك فيه عدد هام من طلبة الجامعة. ما سرّ رضاء الطلبة على جامعتهم؟
الأستاذ الهادي الدريدي: أعتقد أن السرّ هنا هو الصراحة. وإذا كان الطلاب راضين عن الأساتذة، فهذا لا يعني بالضرورة أن هؤلاء المدرسين يأتون بما لم يأت به الأوائل. هذا الرضى نتيجة تفاعل يتواصل على طول السنة، إذ يظل باب النقاش مفتوحا بين الطلاب وأساتذتهم، وإذا لم تعجبهم مادة الدّرس، لا يتورع الطلاب عن القول لأستاذهم إن المادة غير مفيدة. وهذا الأمر يدفع هيئة التدريس إلى تطوير الأداء، وتصويب المقررات. وقد يعتبر المدرّسون في أماكن أخرى أن في هذا إجحاف في حقهم، أو يرون فيه نوعا من الرقابة المسلطة عليهم. بالنسبة لنا في نوشاتيل، نرى أن هذا مفيد لأنه يسمح لنا بتعديل دروسنا وفقا لإحتياجات طلابنا. والقواعد الأساسية في مجال البيداغوجيا، تؤكّد أنه إذا لم يكن الطالب راضيا عن الدرس، فلن يستفيد منه.
swissinfo.ch: بعد سنوات من الإقامة في سويسرا، ما هي الخصوصيات، برأيكم التي يتميّز بها النظام التعليمي في سويسرا عامة، مقارنة بنظام التعليم في البلدان المجاورة؟
الأستاذ الهادي الدريدي: أوّل ما يميّز التعليم الجامعي في سويسرا هو الإنفتاح: انفتاح السلط الإدارية على المهارات والخبرات من جميع أنحاء العالم (أساتذة من امريكا، وآسيا، وأوروبا الشرقية، وافريقيا والشرق الأوسط،…)، وانفتاح ميداني، يسمح للطالب بالمرور في أي وقت وفي أي مرحلة من دراسته من تخصص إلى تخصص آخر. هذه الجسور الممدودة بين الإختصاصات والميادين تسمح بتحقيق الغرض الجوهري من العملية التعليمية، المتمثلة في تخريج أفراد يتمتّعون بثقافة عامة تسمح لهم باستعمال قدراتهم على التفكير لحل معضلات ومشاكل ربما لم يسبق أن طُـرحت من قبل. لكي نوجد حلولا لمشاكل جديدة لابد أن نكون متسلحين بثقافة عامة، وسبق أن تمرّسنا على التفكير والتفكير النقدي في معالجة الظواهر، من أي ميدان عملي كانت. وخلال المحاضرات والدروس الجامعية، يطلب الاساتذة من طلابهم نقد المادة التي يقدمونها لهم، ويشجعونهم على ممارسة التفكير النقدي. وهذا هو الأمر المهم في التعليم الجامعي.
swissinfo.ch: المعروف عن كانتون نوشاتيل عموما انفتاحه وقدرته على إدماج جميع شرائح المجتمع بغض النظر عن تنوع ثقافاتهم وأعراقهم. إلى أي حد توفّر جامعة نوشاتيل فرصا عادلة أمام الجميع؟
الأستاذ الهادي الدريدي: هذه أيضا من الإختيارات الأساسية الموجّهة لعملنا في هذه الجامعة: الحرص على تمكين الجميع من فرص متعادلة: العدالة بين الجنسيْن، إذ لدينا العديد من القوانين، التي وضعت أساسا لمساعدة العنصر النسائي على مواصلة العمل البحثي، ومن المعروف أنه في مرحلة الدكتوراه، قد تصبح الباحثة أمّا، تصرف جزءً مهما من وقتها لرعاية أبنائها، لذلك كان من المهمّ منحهن بعض التسهيلات. كذلك لدينا العديد من الأقسام التي تقدّم خدمات اجتماعية خاصة لمساعدة الطلاب القادمين من بلدان أخرى، ومن المعروف أن مستوى المعيشة في سويسرا مرتفع جدا مقارنة ببقية البلدان الأوروبية، ناهيك عن البلدان الأخرى، لذلك نقدّم لهم إعانات، ونخصص كذلك جوائز للطلاب المتميّزين على جميع المستويات بدءًا من الإجازة وحتى الدكتوراه. وأشير هنا إلى أن العميد السابق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نوشاتيل، قد بادر بالتعاون مع زملائه في الكلية، خلال تفجّر أزمة اللاجئين، إلى تنظيم دروس لتعليم اللغة الفرنسية (اللغة المحلية في كانتون نوشاتيل) خاصة بطالبي اللجوء، وكان أغلب أولئك اللاجئين منحدرين من الصومال وإرتيريا والعراق وسوريا،…لأن أوّل ما يحتاجه هؤلاء للإندماج والعمل في بلد إقامتهم الجديد هو اللغة للتواصل مع المحيط، ولقضاء شؤونهم القانونية والإدارية. و الجامعة مستعدّة لقبول تسجيلات الراغبين منهم في استكمال تعليمهم، ونحن في هذه الجامعة نفرح ونسعد عندما يكون لدينا طلاب من بلدان ومن ثقافات مختلفة لأن في ذلك إثراء للحياة الجامعية، وفي ظل اختلاف الآراء تنمو المعارف العلمية، اما عندما يسود الرأي الواحد، فتنتفي المعرفة العلمية لتترك المكان إلى الإعتقادات.
swissinfo.ch: في هذا السياق، كيف استقبلتم تسميتكم في خطة عميد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بهذه الجامعة؟
الأستاذ الهادي الدريدي: رأيت في هذه التسمية رسالة ثقة من زملائي. ثقة منهم بأني سأدافع عن كليتهم وعن جميع العاملين والدارسين فيها، من دون تمييز لتخصص على آخر. ومن الفئات التي ستنال اهتماما أكبر منّي هي فئة طلبة الدكتوراه. فعلى عاتق هؤلاء سوف يُبنى المستقبل، وهم الذين سيرثون الجيل الحالي. لقد كان الغرض من ترشّحي منذ البداية هو مساعدة هذه الكلية وهذه الجامعة اعترافا مني لها بالجميل الذي وفّرته لي على المستوى المهني والمستوى العلمي. ربما ما عزّز فرصي في تولّي هذا المنصب هو سهولة التواصل بيني وبين زملائي، وقدرتي على التفاهم مع الجميع، وكذلك استعدادي لتخصيص جزءٍمن وقتي (والوقت أثمن ما في الوجود اليوم) للإستماع إلى الطلاب، والمشاكل التي تعترضهم في مجال البحث، واحيانا الإنصات إليهم، وأيضا منح الوقت للإستماع إلى الزملاء، لما تعترضهم مشكلات، ومنح الوقت للمشتغلين في الإدارة. ولابدّ من الإعتراف بالجميل وتشجيع كل الذين يجتهدون من أجل الارتقاء بهذا الصرح العلمي.
كل من يتعامل مع السويسريين يعلم أن العلاقة معهم ستكون سلسة ومتوازنة. هذه الميزة تؤهّل سويسرا للعب دور الميسّر للإتصال والتواصل بين الامم والشعوب البرفسور الهادي الدريدي
swissinfo.ch: يُبدي السويسريون اهتماما استثنائيا بالفنون البدائية وتوجد أوّل مجموعة أعمال تتعلّق بتاريخ الأجناس في العالم في نوشاتيل منذ ما يزيد عن 200 عام. كعالم آثار، إلى أي حد تجد هذه البيئة محفّزة لكم ومناسبة لكي تطوّر مشروعاتك البحثية والعلمية؟
الأستاذ الهادي الدريدي: ميدان تخصصي انا كعالم آثار، هو التاريخ القديم للمناطق المتوسطية (المحاذية للبحر الأبيض المتوسط). ورغم أن نوشاتيل، تعتبر بعيدة نوعا ما عن المتوسّط، لكن وجود مكتبي بمحاذاة البحيرة، التي إذا ما لفها الضباب، لا تستطيع أن ترى حدودها من الجهة المقابلة، فتبدو كما لو أنها البحر الأبيض المتوسط، ولأنه من ضمن مجال تخصصي القرطاجيين وحنّبعل، ونعرف أن هذا الأخير قد اخترق جبال الألب، وهذه الجبال بإمكاني ايضا مشاهدتها انطلاقا من مكان عملي هنا. فهذا الأمر يسرّني جدا لأنه يقرّبني من حنّبعل. يوجد أيضا في هذه الجامعة معهد متخصص في علم الآثار، وهو متكوّن من كرسيْين علميْين: الأوّل متخصص في بحوث ما قبل التاريخ، ويشرف عليه زميلي ماتيو هونيغر والثاني، في علم الآثار والتاريخ المتوسّطي، وأنا الذي أشرف عليه. كما يشترك معنا في هذا العمل أيضا الأستاذ مارك أنطوان كايزر, مدير متحف لاتينيوم، وهي مؤسسة ذات شهرة كبيرة على المستويين السويسري و الأوروبي ، ويؤمها الزوار من داخل سويسرا وخارجها. وتدرّس علوم الآثار في نوشاتيل في كل من كلية الآداب ومتحف لاتينيوم.
لنوشاتيل باع طويل في مجال علم الآثار خاصة البالافيت، ما يجعل منها المكان الأنسب والأفضل لتدريس علم الآثار. ورغم أن عدد طلبتنا محدود بالمقارنة مع جامعات أخرى كبيرة مثل بازل وزيورخ، لكن هذه البيئة البحثية وهذه المؤسسات المتكاملة الأدوار، تجعلهم يعيشون خلال مدّة دراستهم مع الآثار سواء على عين المكان في أماكن الحفريات او في المتحف الغني جدا في هذا المجال او من خلال البحوث في مكتبة الجامعة. وما يمهّد لهؤلاء الطلبة طريق الدخول في عالم الشغل، هو أن جزءً هاما منهم يقضون فترات مهمّة من حياتهم الجامعية يعملون بدوام جزئي في متحف لاتينيوم خاصة خلال المعارض المؤقتة. المتحف والجامعة هما بمثابة البيت بالنسبة لهم.
swissinfo.ch: لو تجاوزنا حدود هذه المدينة قليلا، ما هو إسهام سويسرا في جهود التنقيب عن الآثار في العالم اليوم؟
الأستاذ الهادي الدريدي: هو إسهام كبير جدا، وإن كان من الصعب مقارنة سويسرا ببلدان أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وأنجلترا أو فرنسا، لأن هذه البلدان تبنت مبكّرا سياسة تولي أهمية كبرى للحفريات الأثرية. المكانة المهمّة لسويسرا في ميدان الآثار يعود الفضل فيها إلى المؤسسات من جهة وإلى أشخاص لمعت أسماؤهم في هذا الميدان مثل شارل بونيه، الذي ترأس البعثة السويسرية للسودان، والتي امتدت لأكثر من 43 عاما، و رئيسها الحالي الأستاذ ماتيو هونيغر المشرف على كرسي دراسات ما قبل التاريخ بمعهد علم الآثار بنوشاتيل، وقد عاد هذا الاخير من السودان قبل بضعة أيام. ويرافق هونيغر في هذه البعثة طلبة من جامعة نوشاتيل، وقد نظم قبل فترة معرضا هاما جدا حول آثار الحضارة النوبية بالسودان.
كذلك نجد بعثة سويسرية تقريبا لها نفس العمر (41 سنة) لكن هذه المرة في اليونان، وبالتحديد في موقع أرتريا (Eretria) بجزيرة أوبيا (Euboea). هناك توجد ما يصطلح عليه بالمدرسة السويسرية للآثار باليونان، ولها علاقات متطوّرة جدا مع السلطات اليونانية. وتشكّل اليوم البحوث التي نشرتها تلك البعثة مرجعا للباحثين في جميع أنحاء العالم. كذلك لدينا تاريخيا الرحالة السويسري يوهان لودويق بوركهارت أو الشيخ ابراهيم الذي أعاد اكتشاف موقع البتراء الأثري بالأردن، وللتذكير فقد درس هذا الرحالة بنوشاتيل. وكثيرا ما أقول أنا شخصيا “نوشاتيل سرّة العالم”.
ما يميّز الإسهام السويسري في هذا المجال هو أن الجميع يقدّر عاليا حياد هذا البلد الذي ليس له ماض استعماري، وكل من يتعاون مع السويسريين، يعلم أن العلاقة معهم ستكون سلسة ومتوازنة. هذه الميزة تؤهّل سويسرا للعب دور الميسّر للإتصال والتواصل بين الأمم والشعوب.
swissinfo.ch : قمتم شخصيا بالتنقيب عن الآثار في العديد من البلدان العربية؟ ما هي البعثات التي شاركتم بها؟ وما هي الاكتشافات والخلاصات التي توصلتم إليها هناك؟
الأستاذ الهادي الدريدي: أنا اشتغلت بصفة عامة في المنطقة المتوسطية: في بلدان عربية، ولكن أيضا في جنوب ايطاليا وإسبانيا، وسعيت من خلال كل الأعمال التي قمت بها إلى فهم الظاهرة الإنسانية. ومن القضايا التي بحثت لها عن جواب هو: هل كان هناك استمرارية وتواصل في تصرفات الإنسان عبر التاريخ؟ وفي نهاية المطاف، غرض عالم الآثار هو فهم الإنسان. وثانيا، ما أذهلني حقا من خلال الحفريات التي قمت بها هي حركية الإنسان La mobilité de l’humanité. كل النصوص والحفريات تؤيّد ذلك, فالتجار الفينيقيون خرجوا من لبنان ووصلوا إلى كاديس في غرب اسبانيا، على ضفاف المحيط الاطلسي حوالى 1100 سنة قبل الميلاد. كيف نجحوا في اقامة رحلات ذهاب وإياب متكررة من أجل الإتجار في الفضة والذهب وفي سلع أخرى؟ عندما نعلم تلك الحركية في الماضي، ونرى اليوم أفواج اللاجئين المنطلقة من سوريا مرورا بتركيا وبلدان منطقة البلقان لتصل إلى ألمانيا، هذا يؤكّد أن تحركات الإنسان وهجراته كانت منذ فجر الإنسانية، ولم يكن العالم يوما فضاءً مغلقا. إن تقدّم البشرية ولد من رحم هذه الحركية وهذه الهجرات. الحركية هي التي سمحت للمتنقل بمقابلة أناس مختلفين، والاطلاع على طقوس دينية مختلفة، وتعلّم الكتابة عبر عملية تلقين، ثم تكييفها وتحويلها، وهكذا مررنا من الأبجدية الفنيقية إلى الأبجدية اليونانية، ثم الأبجدية اللاتينية. وتكمن العبقرية الإنسانية في هذه الحركية المستمرّة في الواقع الجغرافي كما في عالم الافكار، وكان التواصل بين المجموعات البشرية هو الأصل، وإن تخللته بعض الفترات من الإختلافات الحادة.
ما هو مؤسف أن السلطات السياسية تنظر إلى الحفريات الأثرية على أنها نوع من هدر وتبذير الموارد، لكنها تتجاهل أن دراسة التاريخ هي التي تعلمنا كيف نواجه مشكلات الحاضر البرفسور الهادي الدريدي
اما عن الاكتشافات التي شدّت نظري واستوقفتني كثيرا، فهو ما تمّ العثور عليه في مغارة بجزيرة سقطرى عند البحر الاحمر، التابعة لليمن، والقريبة من الأراضي الصومالية. في هذه المغارة عثر باحثون بلجيكيون متخصصون في المغارات على لوحة مكتوبة بالتدمري، ملخّصها أن الشخص الذي كتبها يشكر الآلهة ربما لأنها أنقذته من الغرق. لوحة تدمرية مؤرخة (257-258 ب.م.)، نجدها في سقطرى مدوّنة بيد رجل تدمري كان بحارا أو رسولا أو تاجرا، وربما قد جاء من بلاد الهند. لأنه من المعلوم أن التنقل بين الهند والبحر الأبيض المتوسّط عبر بلاد الرافدين أو مصر كان واقعا وهذا منذ ما قبل ظهور امبراطورية روما. خلاصة الاكتشاف أن الإنسان دائم الإنتقال والحركة.
swissinfo.ch: كيف تقيّم الاهمية التاريخية للكنوز الأثرية في المنطقة العربية. وما حجم الاخطار التي تمثلها النزاعات والحروب الحالية على هذه الكنوز؟
الأستاذ الهادي الدريدي: التراث الأثري الذي يوجد في العالم العربي بصفة عامة، لا أحد يشكك في قيمته الكبرى فالحضارة الإنسانية ولدت على ضفاف النيل، ودجلة والفرات. وما يؤلمني كعربي أن السلطات والشعوب في تلك المنطقة قليلة الوعى بهذه القيمة الكبيرة. ولا يستثنى من ذلك إلا بعض البلدان التي استعملت التراث لتنشيط السياحة، وتحصيل موارد اقتصادية مثل مصر، وتونس، وسوريا، والمغرب. هذه البلدان كانت تعيش بالتراث مما يساعد الشعب على الوعى بقيمته. لكن بصفة عامة الإعتقاد في العالم العربي بأن ما سبق الإسلام لا قيمة له لا يشجّع على الاهتمام بالآثار.
ما يحصل الآن من نزاعات وحروب في المنطقة العربية مؤسف جدا في جانبه الإنساني، وكارثة كبرى على التراث في جانبه الأثري. لقد تأثّرتُ كثيرا لما حدث في تدمر بسوريا مؤخرا. الحرب تخلف الموت، هذا معلوم مع الأسف, لكن أن يهدم المتشدّدون الآثار في بلد ما، فهم يشطبون الذاكرة الجماعية لشعوب بأكملها، لذلك ما يفعلونه هو ظلم في حق الإنسانية مبني على قراءات خاطئة للأديان. ترى بأي حق يدمّرون ما بناه أجدادهم؟ أليس الأولى أن يكونوا فخورين بذلك؟ وفي اليمن كذلك، هناك شعب فخور بماضيه لكن هذا الماضي يدمّر الآن بسبب النزاعات السياسية والطائفية. ما ذنب صنعاء، هذه الجوهرة المعلّقة على ارتفاع 2000 متر تقريبا، وتوجد على قائمة اليونسكو للتراث العالمي؟
swissinfo.ch: هذه النزاعات والحروب تعود في جوهرها إلى انعدام التسامح مع المختلف (العربي لا يقبل الكردي، والسنّي لا يقبل الشيعي، والمسيحي لا يقبل المسلم،…). إلى أي حد بإمكان مؤرخ الآثار أن يُسهم في تصحيح قراءة تاريخ المنطقة العربية؟
الأستاذ الهادي الدريدي: هذا الأمر بالنسبة لي من البداهة. خلال البحث عن الآثار في أي موقع أو بلد نجد معبدا لآلهة يونانية، إلى جانبه معبد لآلهة رومانية، وإلى جانبهما معبد لآلهة إيرانية، وآخر لآلهة سامية. وكل ذلك في مدينة واحدة. معنى هذا أن الناس كانوا متعايشين، وكل فئة لها معبدها، وربما السّكان كانوا يزورون المعابد كلها مرة واحدة. طقوس الموت، ومن خلال ما يثبته تاريخ الآثار، تقدّم هي الأخرى قراءة مختلفة لتاريخ الإنسان. لقد ثبت من خلال الحفريات أن الأزواج كانوا مختلفين في عقائدهم، ووجدنا في بعض المقابر الأثرية كيف أن الزوج يُدفن في تابوت، في حين يُحرق جسم الزوجة في المكان نفسه، مما يؤكّد أنه داخل الأسرة الواحدة كان هناك تعدد للعقائد. هذا الأمر لا يقف عند العصور القديمة، بل تواصل إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في تونس على سبيل المثال، توجد فيها كنيسة للكاثوليكيين الرومانيين، وكنيسة للأرثوذكس، ومعبد لليهود، ويجب أن يكون التونسيين فخورين بهذا التنوّع لأنه يعكس تاريخ البلد بجميع مكوّناته. والذي يدرس تاريخ الإسلام في الأندلس، أو في إيران، أو في جنوب شرق آسيا، يجد أنه لا تزال هناك ديانات وعقائد أخرى لم يُقصها الإسلام من الوجود.
الأستاذ الهادي الدريدي.. سيرة ذاتية مختصرة
بعد التحصل على شهادة الباكالوريا بمعهد خزندار بتونس (1986) تحول الى باريس لدراسة العلوم الإقتصادية (جامعة باريس 2) و تاريخ العلوم وعلم الآثار (جامعة نانتير ثم باريس 1).
أثناء دراسته, شارك في العديد من الحفريات في كل من: فرنسا (أميان), إيطاليا (فيتربو, بوتنزة), تونس (كركوان, قرطاج), اسبانيا (أليكانتي).
أنجز أطروحة الدكتوراه حول موضوع استعمال الرخام في العالم الفينيقي والبونيقي بالحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط (2001).
بعد الدكتوراه، درّس بجامعة أميان بفرنسا وواصل المشاركة وإدارة حفريات في اليمن (سقطرى، تمنع، حصي) وفي المملكة العربية السعودية (نجران)، وفي المغرب الأقصى (أصيلة).
في باب المنشورات، له مقالات عديدة في مجلات متخصصة و كتب جماعية نشرت بفرنسا وألمانيا وايطاليا واسبانيا والمغرب. وقد نشر كتابا خاصا به عن الحضارة القرطاجينية (2006).
أستاذ مشرف على كرسي آثار البحر الأبيض المتوسط القديم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نوشاتيل منذ سنة 2009، ومدير معهد علم الآثار بنفس الجامعة.
اختاره زملاؤه عميدا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنوشاتيل بسويسرا في بداية السنة الجامعية 2015 – 2016.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.