يشهد العالم العربي تراجعا حادا في مستوى الحريات الصحفية والتعددية الإعلامية، حسب تقارير سنوية لعدة مؤسسات دولية. ويوصف الشرق الأوسط بالمنطقة الجغرافية الأسوأ ترتيبا على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بحرية الإعلام. swissinfo.ch حاورت كارولين فويمان، المديرة التنفيذية لمؤسسة ايرونديل السويسرية، حول أسباب أزمة الإعلام العربي وآفاق الحل.
تم نشر هذا المحتوى على
11دقائق
التحقت مي بـ swissinfo.ch في عام 2017. عملت من قبل في عدد من المؤسسات الاعلامية مثل دويتشه فيلّه والجزيرة وبي بي سي. حاصلة على درجة البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية من جامعة برلين الحرة، وهي تهتم بالسياسة الدولية والأدب الحديث.
بالإضافة إلى التحديات التي تفرضها الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، فإن الحروب والنزاعات المسلحة تشكل تهديدا حقيقيا على مستقبل الإعلام وحياة الصحفيين. كما تحولت عدد من الدول العربية إلى مقبرة للصحفيين، فيما أصبحت أخرى سجنا لإعلاميين، وفق تعبير منظمة مراسلون بلا حدود. swissinfo.ch تستكشف واقع الإعلام في العالم العربي في ظل الظروف الراهنة مع المديرة كارولين فويمان، المديرة التنفيذية لمؤسسة ايرونديل رابط خارجيالسويسرية.
swissinfo.ch: إلى أي مدى تأثر عمل منظمتكم بتراجع الحريات ما بعد “الربيع العربي”؟
كارولين فويمان: لا يمكنني القول بأن هناك نكسة في المشهد الإعلامي بعد الربيع العربي، فلو نظرنا إلى وسائل الإعلام في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط سنجد أنها لم تتطور يوما ما. ويجب ألا نتخيل أن مرحلة ما بعد الثورات غيرت شكل وهيكل وسائل الإعلام، فالإعلام مرتبط بشكل وثيق بالمناخ السياسي في أي بلد وهذه المنطقة لم تشهد إلا القليل من التنوع السياسي والانفتاح وحرية التعبير ولذا تعاني وسائل الإعلام من انعدام الإطار القانوني والمهني الذي يسمح لها بالتطور وذلك منذ عقود.
swissinfo.ch: ولكن تم إطلاق مواقع الكترونية ومحطات إذاعية وتلفزيونية عدة بعد عام 2011؟
كارولين فويمان: الكمية لم تتماش مع النوعية وذلك بسبب نقص الصحفيين المدربين على إدارة المؤسسات الإعلامية بطريقة مستقلة وقلة الصحفيين المحليين. إذا ما نظرنا إلى وضع الصحافة الآن مقارنة بالخمس عشرة سنة الماضية، فسنجد أن هناك عددا أكبر من وسائل الإعلام، لكن الإشكاليات المتعلقة بالاستقلالية ونقص الحريات لم تحل. العديد من وسائل الإعلام الموجودة الآن على الساحة حزبية ولا تتيح فرصة التعرف على عدة آراء ولا تتمتع بالتعددية. كما أن سمات التقدم التكنولوجي على وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الناس يتابعون وسائل الإعلام التي تتوافق مع أراءهم ووجهات نظرهم وهذا يحول دون بناء مستقبل مشترك بين المواطنين.
حتى الحرية لها حدود ومن يوصفون بالخيانة وبفلول النظام يجب احترام رأيهم وتجنب بث معلومات واتهامات تحض على الكراهية و العنف
ايرونديل (أي الخُطاف)
هي منظمة سويسرية غير حكومية خاصة بالإعلاميين والعاملين في مجال العمل الإنساني. تقوم ايرونديل منذ عام 1995على إنشاء وسائل إعلام أو تقدم الدعم والعون لمؤسسات هي موجودة في الأصل وتحرص على أن تكون هيئات إعلامية مستقلة في خدمة جميع الفئات بدون استثناء، خاصة في مناطق النزاعات المسلحة أو الدول في مرحلة التحول.
تعمل مؤسسة إيرونديل على تطوير وسائل إعلام شعبية، وتحرص على أن تنال هذه الأخيرة ثقة المواطنين في البلدان التي تنشط فيها. كما أنها تولي عناية كبيرة لعامليْ المصداقية والثقة عبر خلق صحافة تتميّز بالحرفية والدقة.
يشرف على المؤسسات الإعلامية التي تنشؤها إيرونديل أشخاص هم من أبناء البلد الذي يوجد فيه المشروع، وتكون كل البرامج ما أمكن باللغة الوطنية لذلك البلد.
يتكون فريق مؤسسة إيرونديل من مجموع 213 موظفا حول العالم من حوالي عشرين جنسية: يتواجد 16 منهم في مقر المؤسسة بمدينة لوزان السويسرية، و16 سويسريا يعملون على الميدان، و181 من الصحفيين والمنشطين والتقنيين والإداريين والمتعاونين الوطنيين الذين يعملون بموجب عقد. في عام 2010، بلغت ميزانية المؤسسة 9 مليون فرنك.
swissinfo.ch: في ظل هذه الأوضاع، هل أصبحت هناك حاجة أكبر في العالم العربي إلى دعم منظمتكم؟
كارولين فويمان: للأسف نعم. هناك حاجة لدعم الصحفيين ووسائل الإعلام حتى يعملوا بشكل مستقل ومهني في دول تخشى من سماع أي أصوات معارضة. وأؤكد مرة أخرى أن حرية الإعلام تتطلب وجود إرادة سياسية، مع الإشارة إلى أن تونس تمثل استثناء. عندما وصلنا إلى تونس في عام 2011 وبدأنا في التعاون مع الإذاعة التونسية (العمومية)، أطاح التونسيون بمدير الإذاعة وتم تعيين كوادر وصحفيين جدد لتأسيس إذاعة جديدة دون رقابة وقيود. كانت مهمتنا تتمثل في مساعدة الصحفيين على تغطية الانتخابات في أكتوبر وأخبرناهم أن مسؤوليتكم هي نقل أصوات جميع الناس. لكن الأمر احتاج وقتا حتى فهم الصحفيون أن حتى الحرية لها حدود وأن من يوصفون بالخيانة وبفلول النظام يجب احترام رأيهم وتجنب بث معلومات واتهامات تحض على الكراهية و العنف. أما في الأراضي الفلسطينية فقد تعرضت الإذاعة المتعاونة معنا لضغوط من السلطة الفلسطينية بعدما أجرت مقابلة مع مراسل في غزة. وهذا يعكس تراجع حرية التعبير.
swissinfo.ch: لكن كيف يمكن التعاون مع وسائل إعلام عربية في ظل الأوضاع السياسية والأمنية السائدة الآن؟
كارولين فويمان: من الممكن العمل في هذه الدول لكن المشكلة في القوى السياسية التي قد تعرقل عملنا. ولهذا لا نعمل الآن في سوريا، فالوضع معقد للغاية هناك. في تونس حقق مشروعنا نجاحا. كنا نشطاء في المناطق المهمشة، التي لا تحظى باهتمام الإعلام وصناع القرار والحقيقة أن سكان هذه المناطق أكثر حاجة للحصول على معلومات ولإسماع أصواتهم وإيصالها إلى دوائر صنع القرار وكان هدفنا هو جعل وسائل الإعلام أقرب إلى هذا الجمهور.
swissinfo.ch: لماذا تضاءل نشاطكم في العالم العربي وحتى في تونس ؟
كارولين فويمان: لتراجع الدعم المادي المقدم لنا.
swissinfo.ch: وما سبب تراجع الدعم المادي القادم من المانحين الأوروبيين لهذه المشروعات؟
كارولين فويمان: أعتقد أن هناك أسباب عدة، لكن السبب الرئيسي هو أن الأولوية لدى الدول الأوربية أصبحت وقف تدفق المهاجرين وتعزيز استراتيجية الأمن، فالكثير من التمويلات تذهب الآن إلى ملفي الهجرة والأمن. من هذا المنطلق أصبحت معظم التمويلات الموجهة إلى تونس تنصب على خلق فرص عمل جديدة بهدف وقف الهجرة وهناك جزء آخر يذهب إلى مجال التعاون مع السلطات التونسية بهدف مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك أدى صعود الأحزاب اليمينية المحافظة في أوروبا ووصولها إلى مواقع السلطة إلى خفض ميزانية المساعدات التنموية. كان هناك رد فعل حماسي على اندلاع الثورات في العالم العربي وكانت هناك توقعات بحدوث تحول ديمقراطي خلال سنوات معدودة، رغم أن التاريخ يثبت أن تغيير تركيبة المجتمعات والعقلية السائدة يحتاج إلى عقود. وهذا هو دور الإعلام في الأساس: تغيير الوعي الجمعي حول حقوق المواطنة وعلاقة الحاكم بالمحكوم ووسائل الإعلام تحتاج إلى وقت لتحقيق هذه الرؤية لكن المانحين ليس لديهم رؤية بعيدة المدى ولا الوقت للاستثمار في تحقيق هذا التغيير، ثم يأتون بعد عامين ويتهمون المنظمات التنموية بأنها لم تحقق الهدف ويتوقفوا عن تقديم الدعم المالي.
swissinfo.ch: يعاني العالم العربي من غياب وسائل إعلام مستقلة وموضوعية، هل يمكن أن تكرروا تجربة راديو اوكابي في واحدة من بلدان العربي؟
كارولين فويمان: هناك فعلا حاجة إلى إنشاء وسيلة إعلام شبيهة براديو أوكابي تدعم الحوار والوحدة والوطنية. في هذا المشروع ساهمنا في تأسيس راديو في جمهورية الكونغو الديمقراطية ثم توقفنا بعد عدة سنوات عن الإشراف على السياسة التحريرية وأصبح الصحفيون يديرون الإذاعة بأنفسهم. ما كان يميز هذه الإذاعة هو أنها تأسست كجزء من مهمة حفظ السلام في الكونغو وبدعم الأمم المتحدة، التي تفاوضت حول تأسيس المحطة وحصلت على الترخيص لعملها. وهذا لا يمكن تصوره في واحدة من الدول العربية.
أسسنا أيضا إذاعة مرايا في السودان تحت مظلة مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ما بين عامي 2006 إلى 2011، أي قبل انفصال جنوب السودان. وكان من المقرر أن تكون لنا غرفة أخبار في الخرطوم وفي جوبا ولكننا لم نحصل على ترخيص من السلطات في الخرطوم. وبعد الانفصال أصبحت مرايا مخصصة لجنوب السودان فقط. وقمنا بجمع الأموال لتوظيف الصحفيين وتدريبهم. الأمم المتحدة ما زالت تشرف على الإذاعة. منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مهمة للغاية بالنسبة لنا ونأمل في مواصلة التعاون والعمل في المنطقة.
قراءة معمّقة
المزيد
آفاق سويسرية
صحيفة سويسرية تكشف تفاصيل رحلة هروب الأسد إلى موسكو
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.
اقرأ أكثر
المزيد
من أجل “إعلام وطني في خدمة الجميع” في تونس
تم نشر هذا المحتوى على
تساهم سويسرا في تحديث المؤسسات الإذاعية في بلد الديمقراطية العربية الناشئة، بالإشتراك مع مؤسسة إيرونديل غير الحكومية. في هذا الإطار، تلقى عشرون مراسلا محليا يعملون في المناطق المهمّشة من البلاد تدريبا خاصا في الأعوام الأخيرة.
“إيرونديل” السويسرية تدعم إصلاح العمل الإذاعي في تونس الجديدة
تم نشر هذا المحتوى على
ومن أبرز ما يتضمنه دعم مؤسسة إيرونديل لمُذيعي تونس ما بعد “ثورة الياسمين” التي لم تعرف تنظيم انتخابات حقيقية منذ استقلالها عام 1956، وضع مدونة سلوك، وميثاق انتخابي، وإعداد جدول برامج خاصة بالانتخابات تمنـح الكلمة بوقت متساو لكافة الأحزاب، وتتيح لأبناء الشعب التونسي فرص التعبير عن رأيهم وطرح أسئلتهم على المُرشحين، حتى في أكثر المناطق…
شراكة إستراتيجية بين برن وتونس من أجل إنجاح التحوّل الديمقراطي
تم نشر هذا المحتوى على
وخلال الوضع الإنتقالي الحالي، المتميّز بالهشاشة وعدم الإستقرار نسبيا، يعتبر نجاح انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ليوم 23 أكتوبر وضمان شفافيتها أولوية وشرطا أساسيا للمضي قدما في هذا المسار التعاوني بين البلدين. وخلال ندوة سياسية بعنوان “ثورات العالم العربي بين الآمال والتخوّفات” عقدتها وزارة الخارجية السويسرية يوم الثلاثاء 18 أكتوبر 2011 ببرن بحضور عينة من الشباب…
“الصراعات المقبلة تتطلب منح الأولوية لإعلام موضوعي ومستقل”
تم نشر هذا المحتوى على
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط.
تُظهر تجربة مؤسسة "هيرونديل" السويسرية في مناطق الصراعات بعدد من الدول الإفريقية مدى أهمية تواجد إعلام مستقل "على الأقل للتخفيف من حدّة الانتهاكات" في صراعات يتم فيها توظيف العامل العرقي والديني بشكل مفرط. وقد تم تكريم هذه التجربة بحصول المؤسسة على جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014.
بهذه المناسبة، أجرت swissinfo.ch حديثا مطولا مع أحد مؤسسي إذاعة هيرونديل ومديرها الحالي جون ماري إيتر الذي يأسف لـ "عدم وعي المجموعة الدولية جديا بأهمية الإعلام المحايد والموضوعي في مناطق الصراعات".
تعود فكرة تأسيس مؤسسة هيرونديل إلى تجربة الصحفي التلفزيوني السويسري فيليب داهيندن أثناء قيامه بربورتاج في رواندا أثناء الحرب الأهلية. وعند عودته الى سويسرا، شعر بنوع من الغضب لكون الواقع المعاش ومعاناة الناس هناك بعيدين كل البعد عما يُتداول إعلاميا في الغرب.
وعند مفاتحة صديقيه المقربين، فرانسوا غروس وجون ماري إيتر بالموضوع، قرر الثلاثة التجند من أجل عمل قد يساعد السكان هناك. وأحسن ما كانوا يتقنونه جميعا هو مهنة الصحافة، لذلك اختاروا وضع تجربتهم في خدمة السكان في مناطق الصراعات للتخفيف من معناتهم. وعن ذلك يقول جون ماري إيتر: "كانت انطلاقتنا من هنا، دون معرفة السبيل الذي سنسلكه. وكانت البداية بتأسيس أول محطة إذاعية في رواندا، كان عليها إقبال كبير وسمحت لنا باكتساب التجربة واستخلاص الدروس، ومنها أولا وقبل كل شيء، معرفة أن ما يحتاجه الناس في مناطق الصراعات المسلحة بالدرجة الأولى، هو الحصول على معلومات موضوعية و ذات مصداقية". وقد ساعدهم في ذلك انحدارهم من سويسرا هذا البلد "الذي ليست له أجندات خفية أو ماض استعماري، والذي تسمح قوانينه بقيام مؤسسات مثل مؤسسة هيرونديل، دون ممارسة أية ضغوط عليها"، على حد قول إيتر.
القناعة التي اهتدى لها مؤسسو مؤسسة هيرونديل، اعتمدت أيضا على تجربة إيتر أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، لما كان الناس "يحاولون بكل الوسائل ويتوقون إلى الحصول على معلومات نزيهة وذات مصداقية يمكن الإعتماد عليها ولو فقط في تنقلاتهم، ولمعرفة المحيط الذي يتواجدون فيه. وثانيا لتفادي تأثير الدعاية الهدامة من هذا الطرف أو ذاك"، مثلما يقول إيتر.
بعد رواندا، توسعت تجربة مؤسسة هيرونديل في إقامة محطات إذاعية إلى الكونغو الديمقراطية ثم جنوب السودان. وللمؤسسة مراكز إنتاج إذاعية في مالي ومراكز تكوين وإنتاج في غينيا وكوت ديفوار. وتقوم المؤسسة بأول تجربة في تونس من خلال تعاون مع الإذاعة الوطنية تسمح للعاملين في هذه الإذاعة بـ "التحول من إذاعة الدولة التي كانت قائمة في عهد نظام بن علي، إلى إذاعة وطنية تابعة للقطاع العام وتقدم خدمة للجمهور"، على حد تعبير إيتر.
جائزة شارة حماية الصحفي لعام 2014
حصلت مؤسسة "هيرونديل" (وتكتب أيضا إيرونديل Hirondelle) على جائزة الحملة الدولية لشارة حماية الصحفي لعام 2014 على العمل الذي قدمته للإعلام والإعلاميين في مناطق الصراعات المسلحة في كل من رواندا والكونغو الديمقراطية وجمهورية وسط إفريقيا والسودان وجنوب السودان وتونس.
وفي تعقيبه على ذلك، صرح مدير مؤسسة هيرونديل جون ماري إيتر: "من المفرح جدا الحصول على جائزة، لأن ذلك يعني بأن هناك اعترافا بما نقوم به من عمل. والحصول على هذا الاعتراف من زملاء صحفيين معتادين على الإنتقاد بالدرجة الأولى، فهذا له وقع أكبر، خصوصا وأن العمل الذي نقوم به غير ظاهر للعيان في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن الحصول على جائزة من هذا النوع يسمح بالتعريف بنا أكثر".
الحفاظ على المصداقية وسط صراع مسلح!
أكيد أن سكان المناطق التي تعرف حروبا أهلية أو صراعات مسلحة، كثيرا ما يلجأون لمتابعة الأوضاع عبر الإذاعات الدولية. ولكن متابعة الأوضاع عبر هذه الإذاعات تتم من منطلق أن لكل إذاعة أجندتها الخاصة. يُضاف إلى ذلك أن كل طرف من أطراف النزاع يرغب في التحكم في وسائل البث الإذاعي ، لأن الحرب الإعلامية من الاستراتيجيات المتبعة من قبل الجميع، كل حسب وسائله المتاحة.
ولهذا يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن "الصعوبة في إقامة إذاعة مستقلة وموضوعية في منطقة صراع مسلح تواجه العديد من التحديات وفي مقدمتها، قبول كافة الأطراف بهذا التواجد. فلا أحد يعرف جيدا طريقة عملكم، وبالتالي فإن الجميع ينظر إلى المشروع بنوع من التحفظ سواء الحكام أو المحكومين. يُضاف إلى ذلك أن قوانين الإعلام السائدة في مناطق مثل إفريقيا أو الشرق الأوسط هي قوانين تحديدية أو وقائية. والتحدي الثاني هو الحصول على التمويل الضروري للقيام بهذه النشاطات".
من النقاط التي يصر عليها مدير مؤسسة هيرونديل من أجل القيام بعمل مماثل في مناطق الصراعات، "ضرورة التعامل مع كافة أطراف الصراع دون إقصاء، وبحياد وموضوعية لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإعطاء المحطة المصداقية الضرورية. ويدفع حتى الحكام، الذين يُنعتون بجميع الأوصاف، من ديكتاتوريين ومستبدين، و غير الراضين كل الرضا عن طريقة عملنا، للشعور بضرورة الإستفادة من خدماتنا ومن الشعبية التي أصبحنا نكتسبها بين السكان".
الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن السيد جون ماري إيتر اكتفى بذكر ما حدث من خلال برنامج إذاعي في إذاعة "أوكابي" بالكونغو، تم فيه توجيه الدعوة إلى مرشحين لشغل منصب كثر حوله الجدل، أي منصب رئيس هيئة الأركان وقائد الجيش. وتردد فيه أن تأخير التعيين راجع الى وجود خلافات بين المرشحين، الأمر الذي أخر إكمال بناء المؤسسات في هذا البلد ذي الإستقرار الهش. لكن ما حدث أثناء اللقاء الإذاعي" سمح للمواطنين في الكونغو باكتشاف أن الرجلين كانا مؤدبين في تخاطبهما، وواضحين في عرضهما لأسباب الاختلاف. كما أن المرشحين اكتشفا أثناء اللقاء أنهما قادران على الحوار، وبالتالي طلبا مواصلته عبر حلقات جديدة من نفس البرنامج".
وأضاف إيتر أن مؤسسته نظمت مؤخرا في مالي "جلسة في برنامج إذاعي بين ممثلين من العاصمة، وممثلين عن شمال البلاد لعرض وجهات نظرهما في وقت كانت فيه قوات كل طرف تخوض معارك ميدانية بالسلاح مخلفة قتلى وجرحى. وهذا ما سمح للمواطن العادي بالتعرف على هؤلاء القادة الذين يخوضون الحرب، وعلى مواقفهم".
وعن جمهورية وسط إفريقيا التي تعرف صراعا تريد أطراف معينة أن تضفي عليه طابع الصراع الديني بين مسيحيين ومسلمين، يقول إيتر: "نقوم منذ حوالي 15 عام بتجربة إذاعة "نديكي لوكا" التي تحولت إلى أول محطة إذاعية في البلد، بفضل صرامة الخط الذي ننتهجه، ومدى حرصنا على التعامل مع مختلف الأطراف، وعملنا على تجنب استخدام عبارات مضرة. ولئن لم يكن بوسعي التكهن بعدد الضحايا الذين استطعنا تجنب سقوطهم، فإنه بالإمكان القول بأن خطنا الإعلامي سمح في هذا الجو المفعم بالعنف الطائفي، بلعب دور هام في التخفيف من حدة هذا العنف".
مؤسسة "هيرونديل" في العالم العربي
تقوم مؤسسة هيرونديل بتجربة في تونس بعد الثورة تهدف لمساعدة التونسيين على "تطوير قطاع إعلامي عمومي مستقل عن تأثيرات هذه الفئة أو تلك، ويعكس التعددية الحقيقية المتواجدة في المجتمع التونسي"، على حد قول جون ماري إيتر، مدير مؤسسة "هيرونديل".
عمليا، شرعت مؤسسة "هيرونديل" وبدعوة من الإذاعة الوطنية التونسية، وبعد إنجاز برنامج عن تغطية الإنتخابات المتعلقة باعتماد الدستور، في إنجاز مشاريع مع محطات جهوية تابعة للإذاعة الوطنية، بدأت بمحطة قفصة. ويقول إيتر: "بدأنا في تطوير قنوات المراسلين لكي يكونوا أقرب من الجمهور، وبتطوير البرامج وتحديثها لكي تصبح في المرتبة الأولى كقطاع عام وحتى في مواجهة وسائل الإعلام الخاصة". "وهذا ما حصل بالفعل"، حسب تقدير مدير مؤسسة هيرونديل، "وهو ما سيتم تعميمه في باقي المحطات الجهوية إذا رغبت الإذاعة التونسية في ذلك".
في جنوب السودان، قامت مؤسسة هيرونديل حتى وقت قريب بتعاون مع إذاعة الأمم المتحدة، شأنها في ذلك شأن التعاون القائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويقول مدير مؤسسة "هيرونديل": "إن الأمم المتحدة هي التي طلبت منا تحديد معالم وطبيعة العمل الإعلامي في جنوب السودان، بعد التجربة التي قمنا بها لعدة سنوات في السودان قبل عملية استقلال الجنوب. ولكن هذا التعاون توقف الآن".
ومن المناطق العربية التي يرى أنها "في أمس الحاجة إلى إعلام مستقل"، يذكر السيد إيتر سوريا، قائلا: "بما أننا لا نقبل العمل في بلد إلا من الداخل، ونرفض أي نشاط موجه من الخارج، وبالنظر إلى الوضع المتأزم من الناحية السياسية والعسكرية، بل حتى الإنسانية والإعلامية، كيف يمكن الحصول على موافقة، سواء النظام في دمشق أو الأطراف التي تحارب النظام، على تواجد لنا هناك بشروطنا وبطريقة عملنا الإعلامية. ولو يحدث ذلك، فإنه سيكون مهما جدا بالنسبة للشعب السوري. لقد استمعنا لعدة اقتراحات في هذا الإطار، ولكن بدا لنا في كل مرة أنه من غير الممكن تطبيق ذلك على الأرض".
وإذا كانت التطلعات لعمل مستقبلي تشمل كلا من مصر وليبيا "إذا ما طُلب من مؤسسة هيرونديل القيام بذلك"، فإن مدير مؤسسة هيرونديل يعبر عن أمل كبير في إنجاز أحد المشاريع الإعلامية في فلسطين، إذ يقول "على الرغم من كون المنطقة تعرف تغطية إعلامية مكثفة"، فإن ما تعتبر المنطقة في أمس الحاجة له وما هو غير متوفر في الوقت الحالي، هو تواجد إعلام واضح ومسموع من قبل كافة الفلسطينيين ومن قبل قسم من الإسرائيليين".
تحديات ومخاطر وخط تحريري صارم
رغم هذه التجارب الغنية في كيفية إدرة مؤسسة إعلامية محايدة وموضوعية في منطقة صراع مسلح، يقر مدير مؤسسة هيرونديل بنفسه قائلا: "نحن مازلنا في بداية التجربة، لأن الصراعات العرقية والدينية التي كنا نعتقد بأننا تجاوزناها، مازالت أمامنا".
ومن خلال التجربة، يقول المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسمي: "إن عمل الصحفيين بمحطاتنا في مناطق الصراعات المسلحة يبدأ بالتغلب على صعوبات الوصول إلى مكان العمل، وتجاوز نقاط التفتيش، والتغلب على مخاوف الأهل والأقارب، ودراسة الأوضاع من حيث المخاطر المحتملة".
من المشاكل الأخرى التي تواجه صحفيي هذه المحطات، دائما حسب تجربة المسؤول عن البرامج "كون جل المواضيع حساسة، ويصعب فيها الحصول على شهادة أشخاص يسمحون بذكر أسمائهم، رغم حرصنا الشديد على التعريف بالمصادر قدر الإمكان لتجنب الإتهامات المبهمة المتبادلة".
لذلك تم التركيز في عمل الإعلاميين في محطات مؤسسة هيرونديل أو تلك التي تتعامل معها، على ضرورة تجنب التعليق على الخبر والإكتفاء بنقل الخبر المؤكد فقط.. ويوضح جون ماري إيتر ضمن هذا السياق: "لقد منعنا منعا باتا استخدام التعليق في عملنا عند الحديث عن أوضاع صراع مسلح، لأنه ليس المكان المناسب للتعبير عن الميولات الشخصية".
من النقاط الأخرى التي يرى أنها مهمة في مناطق الصراعات، قوة الشهادات التي يقدمها الجمهور بخصوص حالات العنف، وحالات الإنتهاكات السائدة في تلك المناطق، خصوصا عبر محطة تحظى بقبول من قبل الجميع. ومن الأمثلة المُقدمة "شهادة أحد أفراد الحرس الجمهوري في بلد إفريقي تنعم فيه مثل هذه المؤسسات العسكرية بكونها فوق القانون، والذي شارك في عمليات قتل جماعي وتعذيب كانت تبدو له عادية، ولكنه اكتشف عبر شهادة الجمهور في بعض برامجنا، هذه المرآة التي لم تكن متوفرة من قبل، بشاعة ما شارك فيه، مما دفعه هو وبعض من زملائه إلى تغيير تصرفهم ليس تطبيقا لأوامر قادتهم، بل عن اقتناع، بأن ما يقومون به بشع وغير مقبول".
"الكلمة قد تقود إلى الحرب أو إلى السلم"
يرى المسؤول عن تطبيق البرامج بمؤسسة هيرونديل جون لوك موتوسامي أن "اختيار الكلمات والألفاظ في البرامج الإعلامية بمحطات مناطق الصراعات، أو الزاوية التي يتم اختيارها لمعالجة موضوع من المواضيع، كلها أمور لها أهمية البالغة، وهذا ما اكتشفتُ بُعده من خلال عملي الصحفي في هذه المناطق".
ويثني موتوماسي على مهنية ومعارف الصحفيين المحليين الذين يعملون في هذه المحطات "نظرا لكونهم عايشوا عدة انقلابات وترعرعوا في المنطقة، حتى أن منهم من كان مجندا في بعض الميليشيات، أو كان موظفا في إذاعات حكومية، وانضمامهم لمحطات مثل محطاتنا في وسط إفريقيا أو جنوب السودان، نابع من الرغبة في العودة إلى شعور بروح المواطنة، وخدمة المجتمع إعلاميا في مرحلة هو في أشد الحاجة فيها إلى إعلام محايد وموضوعي".
لكن ما يأسف له مدير مؤسسة "هيرونديل" جون ماري إيتر هو أن المجموعة الدولية التي كثيرا ما تسارع لمساعدة مناطق الصراع في إعادة البناء، لم تدرك بعد مدى أهمية منح الأولوية لبناء أسس إعلام مستقل لتوعية الجمهور، ونزع فتيل الأحقاد المتراكمة، والتي تغذي بدورها استمرارية هذه الصراعات، إذ يشرح قائلا: "إن تواجد مثل هذه الإذاعات أصبح ضرورة ملحة في مناطق الصراعات، لأن إحساس الكره تجاه الآخر يتم عبر مراحل، وتتسع رقعته شيئا فشيئا. ولن يقتصر الأمر على الشعور بكره الآخر بسبب عرقه أو دينه أو أية ذريعة أخرى، بل سيتحول إلى التحريض على قتله لتطهير المنطقة من عنصر دخيل. والمرحلة الأخيرة ستتمثل في تحول قتل الآخر ليصبح أمرا عاديا".
والمشكل يكمن في أن وسائل الإعلام الدولية لن تأبه لضخامة المشكل إلا بعد بلوغ عمليات القتل والعنف حجما كبيرا وبعد أن تشمل مناطق أوسع. وهذا ما يعتبره إيتر تدخلا متأخرا "لأن التعايش السلمي تم القضاء على أسسه منذ مدة وليس فقط عند ظهور عمليات القتل الجماعي" عل حد قوله.
ومن هذا المنطلق، يرى مدير مؤسسة هيرونديل أن التدخل إعلاميا وباختيار التعابير المناسبة وفي الوقت المناسب "قد يقود إلى السلم، ليس لأننا نُوجه الناس نحو هذا الموقف أو ذاك، بل فقط بتوضيح الأمور لهم من وجهات النظر المختلفة، لأن الناس يملكون ما يكفي من الذكاء لمعرفة ما هو في صالحهم إن توفرت لهم فرصة التعرف على آراء كل الشركاء وفرصة الإستماع الى آراء الآخرين".
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.