من دارس لإدراة الأعمال إلى ساع لإطلاق مشروعه الخاص
قبل سبعة أعوام، جاءَ عبد المعطي المدني إلى جنيف لحضور حفل استلام شهادته في مجال إدارة الأعمال، وانتهى به المطاف لاجئا سياسيا فيها. لكن طموحه بتأسيس مشروعه الخاص لم يُفارقه يوماً، كما زاده حصوله على تصريح إقامة على التراب السويسري إصراراً على الإندماج في المُجتمع، وتحقيق النجاح في مجال عمله، وإفادة وطنه سوريا يوماً ما.
سلسلة تجارب مهنية
يطرح حلول الإنسان بمكان لم يألفه من قبل تحديات ومصاعب جمة، قد يسعفه الحظ في بعض الأحيان، فيستأنف رحلة حياته المهنية من حيث توقّف قطارها في بلده الأصلي بيسر وسلاسة.. وقد يجبره الواقع الجديد على بداية المشوار من نقطة الصفر، إن لم يظل يراوح مكانه لسنوات طويلة. وضع المهاجرين العرب في سويسرا ليس استثناءً في هذا الباب، وتكاد تتباين مساراتهم بعدد شخوصهم. swissinfo.ch اختارت الحديث إلى عيّنة منهم، فكانت هذه السلسلة من البورتريهاترابط خارجي.
كانت المرة الأولى التي وطأت فيها قدما عبد المعطي المدني الذي يبلغ الرابعة والثلاثين من العمر مدينة جنيف في عام 2010. فَبَعد إكماله لدراسته في مجال إدارة الأعمال في ‘كلية إدارة الأعمال في الاتحاد الأوروبيرابط خارجي’ (التي يقع أحد مقارها بجنيف، والتي كانت تتوفر على مركز تدريبي في دمشق)، كان على موعد لحضور حفل تخرجه من هذه الكلية في مدينة كالفين. وفي نفس الوقت، كان قد تقدَّم وهو لا يزال في بلده للعمل في وظيفة لدى إحدى البعثات الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف، وحصل بالفعل على عقد عمل هناك بصفة موظف محلي في مجال العلاقات العامة.
بعد مضي نحو ثلاثة أعوام، وعلى إثر التغييرات التي شهدتها المنطقة العربية، فَضَّلَ المدني ترك هذه الوظيفة، بسبب بعض الإضطرابات التي كانت ارتداداً لاضطرابات العالم العربي، والتي “لم تترك مساحة للدبلوماسية ضمن وفد يُفترض أنه دبلوماسي”، كما يقول.
لفترة 6 أشهر تقريباً، ومع حَملِه لبطاقة الإقامة المَمنوحة للموظفين أو الفنيين في البعثات الدبلوماسية، حاول العثور على وظيفة مع المنظمات التابعة للأمم المتحدة. بَيد أنَّ الأمر لم يكن سهلاً بسبب خلفيتة التجارية. وكما يقول: “صحيح أنني عملت في جنيف لمدة ثلاث سنوات، لكنهم اعتبروا أن خبرتي (وكنت حينها أتوفر على خبرة عمل تعادل تسع سنوات تقريباً – لكن ليس في المجال الذي يؤهلني للعمل مع المنظمات الدولية) لم تكن كافية للعمل معهم”.
مع ذلك، لم يتوقف المدني عن البَحث، وقابل العديد من الأشخاص المُختَصين بهذا المجال، الذين نصحوه بالدخول إلى المنظمات الدولية من خلال مُباشرة تدريب عملي بداية، والبحث عن عمل في هذا المجال لاحقاً. لكنه كان يرفض فكرة العمل بدون مُرَتَّب لمدة ثلاثة أو ستة أشهر، قد تنتهي بعدم الحصول على وظيفة أصلاً.
الإنخراط في نشاط تطوعي
لبعض الوقت، عَمل المدني بشكل تطوعي من أجل سوريا مع أشخاص ومنظمات صغيرة للدَعم الإنساني، من أجل إيصال التبرعات، والأدوية، وتجهيزات الأطفال وغيرها للمتضررين من الحرب إلى هناك. بعد ذلك، بدأ بالعمل مع أحد الناشطين الحقوقيين المقيمين في جنيف، الذي كان بصدد تأسيس منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية .
وكما يقول: “كانت فكرة المشروع رائعة وشدتني كثيراً، لأني كنت أرى ما يحدث في بلدي وفي بلدان عربية أخرى من انتهاكات. وهكذا قُمنا بانشاء مِنَصة ضَخمة على الإنترنت، ولمدة سنتين تقريبا، كنا نُجري المقابلات مع الناشطين في مجال حقوق الإنسان عبر “سكايب”، ونأخذ جميع المعلومات المُتعلقة بالإنتهاكات، وننشرها بشكل تقارير على موقع المنظمة”. وقد قُدِّمَت هذه التقارير في مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة أيضاً – وإن لم يكن بصفة رسمية – لأن المنظمة بحسب المدني “لم تكن تتوفر على صفة رسمية داخل الأمم المتحدة بَعد، لعدم إستكمالها جميع الشروط المطلوبة للوصول إلى هذه الصفة، ما جعلنا ننتظر استكمال هذه الشروط”.
لكن الرياح لا تجري دائماً بما يشتهي السّفِنُ، كما يُقال. فبعد الدعم المالي الذي كانت المنظمة تحظى به، والذي كان ضروريا لاستمرار عملها، حدثت هناك فجأة تغيرات كبيرة ، ولم يَعُد الدَعم كافياً. وهكذا إقتصر عمل الشخص المسؤول على نَشر تقارير بصفتة شخصية عبر موقعه على ‘تويتَر’، “حيث يحظى بملايين المتابعين”، وبعد فترة توقف عمل المنظمة بشكل رسمي، ومعها نشاط المدني الذي كان يمارسه بدون مُرتب تقريباً “لإيماني الشديد بهذا المشروع”، على حَدّ قوله.
تصريح الإقامة
عقب ذلك، وجد المدني نفسه أمام مشكلة من نوع آخر، ألا وهي تصريح الإقامة. “كنت أعيش في دوامة؛ إذ لم يكن بإمكاني الحصول على تصريح إقامة بدون التوفر على وظيفة، كما لا يمكن الحصول على وظيفة بدون تصريح إقامة. وهكذا لم أجد أمامي من حل سوى طلب اللجوء السياسي”. وبعد مقابلة إستغرقت 6 ساعات في بَرن، شَرَح فيها المدني وضعه للمسؤولين، جاءه الجواب بعد 8 أشهر، ومُنِحَ تصريح إقامة من فئة B.
بالمُقارنة مع الكثيرين غيره، كان تعامل السلطات المَعنية باللجوء مع طلب المدني سهلاً. “صحيح أن التعامل مع ملفي لم يستغرق سوى 8 أشهر- وهذا يُعتبر رقما قياسيا – لكن وضعي كان مُختلفاً بسبب إقامتي بالفعل في البلاد، وتوفري على سكن ومُرَتَّب. وهكذا عُدتُ إلى منزلي بعد تقديم طلبي، ولم أضطر للسكن في مركز لإيواء اللاجئين، والمرور بالمُعاناة التي يعيشها الكثيرون. وأنا أعرف تماماً أن أشخاصاً آخرين مرّوا هذه المرحلة وجدوا صعوبة كبيرة، حتى أن بعضهم تعرض إلى حالات نفسية صعبة بسبب المُماطلة في التعامل مع طلباتهم، ولم يحصلوا بالنتيجة على إقامة من فئة B، وإنما من فئة N أو F”.
التحضير لتحقيق الحلم الخاص
بعد حصوله على تصريح الإقامة، أصبح المدني مُقتنعاً بالعمل مع حكومة كانتون جنيف، وراودته الرغبة بممارسة عمل تطوعي معهم. وهكذا اشتغل كمسؤول للتنسيق العام لمدة ستة أشهر تقريبا مع منظمة “جنيف رولرابط خارجي” (Genève Roule) [وهي منظمة غير ربحية تسعى لتحقيق هدف مزدوج يتمثل بتعزيز استخدام الدراجات والإندماج الإجتماعي والمهني]. إلّا أنَّ حلم إنشاء مشروعه الخاص الذي كان يراوده منذ مجيئه إلى جنيف ولم يفارقه أبداً تأجّل.
مع خبرته العملية في دول عربية وفي سويسرا أيضاً، بدأ بالتحضير لهذا المشروع الذي يحمل اسم البوابة السويسريةرابط خارجي (My Swiss Gateرابط خارجي) “الذي تتَمحور فكرته حول إنشاء مِنَصة تلاقي بين المُستَثمرين العرب الراغبين بالإستثمار داخل سويسرا أو مشاركة المستثمرين السويسريين بمشاريعهم”، كما يقول. وبعد دراسة جميع نواحي المشروع، وتوضيح أهدافه، واحتمالات الربح والخسارة، وفائدته المَرجوة له ولسويسرا أيضاً، قام بتسليمه إلى حكومة الكانتون. وفي الوقت نفسه، كان المدني يَواكب الكثير من الأحداث التي كانت تقام في غرفة تجارة جنيف، ويحاول التواصل مع الموجودين، وإكتساب الأفكار حول توجهاتهم، وكيفية قيامهم بالأعمال التجارية. كما حضَر العديد من أحداث نهاية الاسبوع للشركات والمشاريع الناشئة (start up weekends) التي كانت تقام في جنيف، ولوزان، ونوشاتيل للأشخاص الحاملين لأفكار جديدة، وتابع جميع التفاصيل التي تساعده في معرفة كيفية البدء بتأسيس مشروعه الخاص.
أحمد الله على وجود ابني في سويسرا لأنه سوف ينشأ على الأخلاق الصحيحة في التعامل بغض النظر عن التوجّهات الدينية
“مُمتن جداً”
بيد أنَّ المدني لم يَلقَ التجاوب – وبالتالي الدعم المالي – الذي كان يأمله من حكومة الكانتون، التي كانت ترى أن الحَلّ الأنسب بالنسبة له هو العثور على عمل. لكنها رغم ذلك اقترحت عليه الإنخراط في تدريب مهني يُعينه على إطلاق مشروعه من الناحية الأكاديمية والمهنية، وعرضت عليه مجموعة من الأفكار. وفي نهاية المطاف، قرر تقديم طلب إلى جامعة جنيف للتدريب المهني المُستمر في مجال المسؤولية الإجتماعية للشركات (Corporate social responsibility)، وحصل على موافقة الجامعة.
على إثر حصوله على هذه الموافقة، أبدت حكومة الكانتون استعدادها لدعم دراسته مالياً. وكما يقول: “ها قد مضت حوالي ثلاثة أشهر وأنا أتابع هذا التدريب المهني الذي استفدت منه كثيراً. كما أعمل في الوقت نفسه على ترتيب الأفكار المتعلقة بمشروعي. ولا بد أن أذكر هنا أني مُمتَن جداً لدعم حكومة جنيف لي على المستوى الأكاديمي، وكذلك على مستوى الإستقرار بمنحي تصريح الإقامة. وانا أتفهم عَدَم دَعمَهم لي على مستوى المشروع، لأن الموضوع الذي إخترته كان مُغايراً لتوجّهاتهم، وهم يحاولون إيجاد وظيفة لكل شخص بما يتناسب مع تخصصه”. مع ذلك، لا يزال المدني مستمرا في البحث عن مُمولين لمشروعه “الذين يمكن أن يكونوا من الزبائن أنفسهم – أي أن يكونوا شركاء ومُمولين في نفس الوقت”، كما يوضح.
كسر الحاجز وتَقَبُّل الآخر
رغم الإرتياح الذي يشعر به المدني اليوم، واندماجه الجيد في المجتمع السويسري، إلّا أنه يعترف أن الأشهر الأولى التي أمضاها هنا لم تكن سهلة. “لقد وجدتُ إختلافاً كبيراً بين سوريا وسويسرا، وكانت هناك صعوبات. وهذه الصعوبات لم تكن نابعة من السويسريين، بَل مني أنا. كنت لا أتقبل أفكارهم وأسلوب معيشتهم، حتى أني كنت أتصور أنهم لا يُحبّون الأطفال ويفضلون الكلاب عليهم [وهي ليست المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الكلام من لاجيء عربي- المحرر]. لكن مع إقترابي من الأشخاص، وكسري للحاجز الذي كنت أحيط نفسي به، وقبولي الدخول في مُجتمعهم، وجدت أنهم يتوفرون على أشياء صحيحة تزيد عن تلك الموجودة في بلادنا، وشعرت أنهم طيبون ومتواضعون جداً ويتقبلون الجميع. كما وجدت أنهم أكثر من يحب ويهتم بالأطفال. وأنا أتعلم منهم اليوم كيف أربي إبني، الذي أحمد الله على وجوده في سويسرا، لأنه سوف ينشأ على الأخلاق الصحيحة في التعامل، بغض النظر عن التوجهات الدينية. وبالنسبة لي فإن هذا هو العمود الأول في تربية الأطفال، والذي عثرت عليه هنا – ولو أني لم أشعر به بداية لأنني كنت بعيداً عن المجتمع”.
إضافة إلى ذلك، يرى المدني أن تعلم اللغة هو العامل الأول والأهم لتحقيق الإندماج في المجتمع السويسري. “إذا لم يتقن الشخص اللغة فإنه لن يتقن الإندماج”، وكما يضيف: “الشيء الثاني هو إتقان الإندماج، بمعنى كَسْر الحاجز وتَقَبُّل الآخر. إذا لم تتقبل الآخرين لن تستطيع أن تعيش أو تتعايش مع الغير. إن المبدأ الذي يتعامل بموجبه الآخرون معنا هو مبدأ إنساني ومتواضع، لذا فإنهم سوف يتقبلوننا. من تجربتي أستطيع القول بأنهم تقبلوني ومن المؤكد بأنهم سيتقبلون غيري أيضاً”.
“تصريح الإقامة ليس حجة لعدم العمل”
كما ينصح المدني اللاجئين الجُدُد بعدم التفكير بموضوع الإقامة، ويقول: “أرجو ان لا يعتبر البعض هنا أنني أتفلسف لتوفري على إقامة؛ فهذه ستأتي يوما ما لامحالة”. ويضيف: “إن نوع تصريح الإقامة ليس حجة لعدم العمل. صحيح أن القانون لا يسمح بتوظيف الأشخاص الحاملين لتصاريح من فئة (F) و(N) في المنظمات الدولية، لكن هناك سوق كامل آخر يمكن التوجّه إليه. وبالإمكان العثور على عقد عمل بغض النظر عن تصريح الإقامة، لأن القانون يَسمح بالعمل بأي نوع من الإقامة التي تحملها”. وهو يشير إلى أشخاص يعرفهم يحملون تصاريح إقامة من فئة (F) و(N) ويعملون في شركات سويسرية.
وبرأي المدني، فإن أسباب عدم التوظيف تعود إلى وجود كَمٍّ هائلٍ من الخبرات في سويسرا، ذلك أن “الناس تاتي إلى هنا من جميع أنحاء العالم، وعلينا أن نتواضع أمام هذا الكم من الخبرات الموجودة، ونعمل على تقوية مستوانا اللغوي، ومُمارسة تدريب مهني في أي مجال نحبه، ونسعى جاهدين لتطوير أنفسنا وتقبل الآخر، والتعامل بتواضع، وسوف نجد المكان المناسب الذي ينتظرنا”.
إذا لم تتقبل الآخرين لن تستطيع أن تعيش أو تتعايش مع الغير
“أحلم بالقيام بشيء لبلدي”
مع استقرار المدني في جنيف لمدة سبع سنوات الآن، هل يراوده حلم العودة إلى بلاده يوماً ما؟ “هذا الخاطر لا يفارقني لحظة. فقد ولدت ونشأت بمدينة دمشق التي أعتز بها كثيراً. لكن ولائي ومحبتي لمسقط رأسي لا يجعلني أريد الرجوع للسكن في شوارعها فقط، ولكن العودة وأنا أحمل خبرة تفيد أهلي وأصدقائي، والأشخاص الذين لم تسنح لهم فرصة السفر. أنا أعمل على مشروعي الخاص هنا، لكي أستطيع نَقل ما أحصل عليه من خبرة إلى بلدي يوماً ما. ليس من الضروري أن أعود للعيش هناك ثانية، ولكن أن يكون هناك نوع من التعاون بين أطراف من جنيف ودمشق من خلال المشروع الذي أعمل عليه”.
أخيرا، لا ينسى المدني أن يؤكد على المهارات العالية التي يتصف بها الشعب السوري في جميع الإختصاصات ويقول: “السوريون مُبدعون أينما وجدوا، كما أن صفة التطوير الذاتي موجودة لديهم بمستويات عالية. لكنهم عانوا من الإنغلاق بسبب الأنظمة الحاكمة، وهم يفتقرون إلى الكثير من الأشياء المتوفرة هنا. وأنا أحلم بالقيام بشيء لبلدي في أحد الأيام، سواء من خلال وجودي هنا أو هناك”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.