الفرنك السويسري يعود مُجدّدا إلى مربّـع “الملاذ الآمـن”
مع بدء العد التنازلي لإعادة الإنتخابات العامة في اليونان بعد جولة أولى لم تكن حاسمة، يسعى المستثمرون في هذا البلد جاهدين لإيجاد ملاذات آمنة لأصولهم المالية، في الوقت الذي تبذل فيه العديد من البلدان، ومن بينها سويسرا، محاولات مضنية لصرف أنظار هؤلاء المستثمرين عنها.
ومع احتمال خروج اليونان من منطقة اليورو، وانتشار حالة من الذعر والتخبّط في البلدان الأوروبية الأخرى المثقلة بالديون العمومية، من المرتقب أن يتحوّل الفرنك مرة أخرى إلى نقطة جذب بالنسبة للمستثمرين الأجانب.
وبعد نجاح المصرف الوطني السويسري في الحد من الإرتفاع المبالغ فيه لقيمة الفرنك، عبر تحديد السقف الأدنى لسعر صرف اليورو مقابل الفرنك عند 1.20 فرنك لليورو الواحد، تخشى مؤسسة النقد السويسرية الآن، أن يصبح هذا الإجراء بمفرده غير كاف في المستقبل.
لقد وضعت تلك الخطوة بداية من العام الماضي نهاية سريعة لمسعى المضاربين في مراكمة الربح السريع عبر تحويل عملاتهم إلى الفرنك والإستثمار في ذلك عندما يُعاد النظر في قيمته. وقد صمدت هذه المؤسسة حتى الآن في الدفاع عن خيارها السابق والبلوغ به إلى أهدافه من دون الحاجة إلى نفقات هائلة كالتي اضطرت إليها في عام 2010، نتج عنها تكبّد المصرف الوطني لخسائر لا بأس بها.
غير ان حالة الغموض بشأن استمرار بقاء اليونان في منطقة اليورو من عدمه، وأيضا الخوف المتزايد من مشاكل الديون في اسبانيا والبرتغال وايطاليا أجبرت المصرف الوطني السويسري في الأسابيع الأخيرة على إعادة التفكير في الوضع برمته.
وقد بدأت هذه المؤسسة المركزية بالفعل في وضع تصوّرات حول جملة من الإجراءات، لم يُكشف عنها بعدُ، من اجل الحد من تدفّق الأصول المالية الأجنبية، وقد يكون من ضمنها فرض ضريبة على الإستثمارات الأجنبية الوافدة إلى الكنفدرالية.
تغيير الخيارات
في أوقات الأزمات الإقتصادية والمالية، يسعى المستثمرون حتما إلى تحويل أموالهم وأرصدتهم المصرفية إلى العملات الأكثر استقرارا من حيث القيمة، ويكونون سعداء حتى لو كانت العوائد اقلّ مقابل حماية رؤوس أموالهم من النقصان والإنكماش بله التلاشي.
ومن المعروف أن الفرنك السويسري يُعدّ من ضمن العملات العالمية التي تشكل ملاذات آمنة جاذبة لاستثمارات أجنبية كبيرة غير مرغوب فيها منذ بداية اندلاع الأزمة المالية العالمية. وعادة ما تتسبب هذه التدفقات المالية الإستثنائية في إحداث اضطراب على مستوى قيمة العملات، وعلى أسعار صرفها، كما تؤثّر سلبا على أسعار السلع المصدّرة من البلد المعني.
وخلال الشهور الماضية، تحوّل العثور على ملاذ آمن بالنسبة للمستثمرين الأجانب إلى مهمّة صعبة خاصة وأن مساعيهم تزامنت مع محاولة العديد من الدول جعل أنفسها طاردة لتلك الإستثمارات. فقد قامت اليابان في نهاية العام الماضي بضخّ مبالغ مالية كبيرة تصل قيمتها إلى 10 ترليون ين (حوالي 120 مليار فرنك سويسري) في سوقها المالية الداخلية من أجل الإبقاء على قيمة عملتها عند حدود مقبولة.
في السياق نفسه، اشرأبت أعناق المستثمرين نحو الكرونة السويدية والكرون النرويجي، ولكن الخشية من عدم كفاية السيولة في السويد، واتخاذ سلسلة من التخفيضات في أسعار الفائدة في النرويج، أثنيا المغامرين على التحوّل مرّة واحدة وبكثافة إلى الإستثمار في هذيْن البلديْن.
على الجانب الآخر من العالم، لا يزال المراقبون متشككين في احتمال تحوّل الدولار الأسترالي إلى عملة ملاذ آمن مستدام. وقد زاد من هذا الغموض تراجع قيمة هذه العملة مقابل الدولار الأمريكي في الآونة الاخيرة.
العملة الخضراء
مع ظهور بوادر انتعاش اقتصادي مستدام في الولايات المتحدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، تعزّزت قيمة العملة الامريكية، وقد مثّل الدولار تقليديا أكثر الملاذات الآمنة شهرة في أوقات عدم الإستقرار. ومع أن الأزمة المالية، وكذلك انهيار ضمانات القروض العقارية، وسياسات التحفيز الإقتصادية حالت دون تواصل الدولار لعب دوره كعملة ملاذ آمن، إلا أنه لوحظ في الآونة الأخيرة استعادة المستثمرين لثقتهم في “الورقة الخضراء”.
أما في جوار سويسرا، فقد شوهد تدفّق الأصول القادمة من جنوب أوروبا على اشتراء الأسهم والسندات الألمانية والهولندية، وكذلك اقبالها على اقتناء العقارات في لندن، وعلى الجنيه الإسترليني في المملكة المتحدة ككل. ووفقا لدافيد كوهلر، الخبير في إدارة الثروات بمصرف يوليوس بار الخاص فإن “السندات تمثل في البلدان المستقرة اقتصاديا أفضل مجال للإستثمار في فترات الركود”.
واستنادا كذلك إلى دانيال كالت، كبير المستشارين الإقتصاديين بقسم إدارة الثروات بمصرف يو بي اس أدّت معارضة برلين للمزيد من الديون اليونانية، إلى تعزيز صورة ألمانيا باعتبارها ملاذا آمنا مُهيمنا في منطقة اليورو. ويضيف هذا الخبير أنه طالما تشنّ المستشارة الألمانية حملة على السندات الاوروبية، فسوف تستمرّ السندات الألمانية في اجتذاب المزيد من الأصول الأجنبية.
وفي حديث إلى swissinfo.ch، أوضح دانيال كالت أنه “إذا وافقت ألمانيا على تحمّل جزء من ثقل ديون جنوب اوروبا، فسيؤدي ذلك إلى زوال واحد من أكبر الملاذات الآمنة في أوروبا”.
“مـلاذ آمـن” مرة أخرى؟
يعتقد دافيد كوهل أن الجنيه الإسترليني لن يكون جاذبا للإستثمار إلا بشكل محدود، ويوضّح في تصريحات إلى swissinfo.ch قائلا: “يتمتّع الجنيه الإسترليني ببعض خصائص الملاذ الآمن، ولكن قد يكون ذلك بسبب إنعدام اعادة النظر في قيمته”، ثم يضيف: “لقد تم تخفيض قيمة الجنيه الإسترليني لمدة طويلة، ولكن من المحتمل أن الوقت قد فات الآن”.
ومع انعدام ثبات عدد الملاذات الآمنة وتوزّعها عبر الكرة الأرضية، يخشى بعض المراقبين أن يتعرض الفرنك السويسري إلى إعادة تقييم على الرغم من تأكيد المصرف الوطني السويسري على عدم الحاجة إلى ذلك. فقد سحب المستثمرون خلال السنتيْن الأخيرتيْن من اليونان لوحدها العشرات من المليارات لتذهب إلى سويسرا وبعض البلدان المستقرة الأخرى، مثل قبرص.
ولئن ابدت سويسرا حتى الآن قدرة على استيعاب هذه التدفّقات، فإن الخشية تتمثل في أن يُسفر خروج اليونان في نهاية المطاف من منطقة اليورو عن حدوث الأمر نفسه بالنسبة إلى إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، مما سيؤدّي إلى انتشار حالة من الذعر والفزع، وهذا الإحتمال لا يستبعده المصرف الوطني السويسري، وان كانت حظوظ حصوله قليلة.
في ظل هذه الظروف، فمن المحتمل جدا أن يتحوّل الفرنك السويسري إلى مغناطيس لا يمكن مقاومة قوة جاذبيته، بالرغم من كل الجهود المضنية التي تبذلها السلطات النقدية في سويسرا من أجل تجنّب حدوث ذلك.
يُقال إن الفرنك السويسري هو “عملة ملاذ آمن”، ويعني هذا أن المستثمرين والمضاربين يُقبلون عليه ويشترونه عندما تكون العملات الأخرى مثل اليورو والدولار الأمريكي بصدد مواجهة صعوبات.
يقف خلف عملة الملاذ الآمن في العادة وضع اقتصادي جيّد، وإطار سياسي مستقر، وسيولة متوفّرة بشكل كبير للإستجابة للحركة التجارية النشطة.
لسنوات طويلة، ظلت سويسرا ملاذا اقتصاديا آمنا، نظرا لحيادها، ولسياستها الإقتصادية المحافظة التي تتجنب المغامرات، وكذلك لأهمية ساحتها المالية.
أكّد المصرف الوطني السويسري أنه لا يسعى إلى بلوغ مستوى معيّن لسعر صرف العملة لكنه يهدف دائما من خلال سياسته النقدية إلى ضمان السيولة الكافية احتراما لتعهداته القانونية.
تنص العهدة الممنوحة للمصرف الوطني السويسري على أن من مهامّه الأساسية ضمان استقرار الأسعار، مع الأخذ بالإعتبار للتطوّرات الإقتصادية.
ابتداءً من مارس 2009، تدخّل المصرف الوطني في أسواق العملات، إلا أن قيامه بضخّ حوالي 15 % من إجمالي الناتج الداخلي في مايو 2010 لم يؤدّ إلى أي تأثير يُذكر بعد أن ارتفعت قيمة الفرنك خلال الفترة الأولى من أزمة الديون اليونانيّة، إلى أن تراجعت قيمته مع الإجراء الصارم الذي اتخذ في يونيو 2010.
هذه المحاولات كبّدت المصرف الوطني السويسري خسارة بلغت 21 مليار فرنك في عام 2011، وهي الأكبر من نوعها، ودعي على إثرها رئيس ذلك المصرف إلى الإستقالة.
بعد تعرّضه لضغوط كبيرة من جانب السياسيين والمُصدّرين، اضطرّ المصرف المركزي إلى التدخّل مرّة اخرى سنة 2011، ليحدّد سقفا أدنى لسعر صرف الفرنك مقابل اليورو، وتمّ الإختيار على 1.20 فرنك لليورو الواحد.
منذ ذلك الحين، ظل الفرنك يحوم حول ذلك السعر لم يتجاوزه إلا بنسبة قليلة، وذلك بفضل اقدام المصرف نفسه على اشتراء مبالغ ضخمة من عملة اليورو.
في عام 2011، خسر المصرف الوطني السويسري 17.8 مليار فرنك خلال سعيه لدعم العملة السويسرية، لكن خسائره تحوّلت إلى أرباح سنوية في نهاية المطاف.
(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.