“المنارة” المُـعوَجة تستقيم ثانية وتشع بأعمال كلي وكاندينسكي
بعد انقضاء عشرة أعوام على افتتاحه، استطاع مركز بول كلي في العاصمة السويسرية برن، تجاوز المشاكل التي كابدها في أعوامه المُبكّرة، بفضل شبكته الدولية مِن ضمن أمور أخرى. واحتفالاً بالذكرى العاشرة لِتدشينه، يقدِّم المركز معرضه الأكثر شمولية واكتمالا في العالم حتى الآن، والمُسَخَّر لأعمال الفنّانين المُعاصرَيْن بول كلي وفاسيلي كاندينسكي.
“نحن نسعى إلى تقديم عرْض مُمَيّز مرّة واحدة على الأقل في السَّنة، وليس كل سنتيْن أو ثلاث فقط”، كما أخبر بيتر فيشر، مدير المركز swissinfo.ch، مضيفا “لدينا بُنية تحتية فخمة ينبغي إحياؤها”.
وبقوله هذا، يضع فيشر النقاط على الحروف بشأن مسألتيْن مُهمتيْن كانتا تشغلانه منذ تسلّمه لمهمة إدارة هذا المركز المرموق منذ ثلاثة أعوام ونصف. ذلك أن الحجم الكبير جداً للمركز وتكاليف تشغيله الباهظة، لا تسمح له أن يكون متحفاً أحادي الموضوع، لا يعرض سوى أعمال بول كليرابط خارجي، حتى لو كان هذا الفنان أحد الرموز العظيمة للحداثة. إذ “ما يزال عدد الزوار قريباً من المستوى الأدنى”، بحسب فيشر، الذي وضع نصب عينيه هدف الوصول إلى 200,000 زائر سنوياً.
وعلى سبيل المقارنة، بلغ عدد زوار المركز في العام الفائت 166,000 شخص. ومن المُتَوَقَّع أن يشهد هذا العدد ارتفاعاً في عام 2015، وهو ما يعطي انطباعاً جيداً بأن الأعوام التي شهدت مستويات دُنيا من الزوار، قد وَلَّت إلى غيْر رجعة.
مكانة دولية
“أعتقد أن هذه الأعوام العشرة قد استُخدِمَت بشكل جيّد لتعزيز مكانة المركز، الذي بدأ كمشروع جديد، لم تتوفر له إمكانية الإعتماد على ما هو موجود من قبْل”، كما قال فيشر. “لقد نجحنا في الحصول على مكانة دولية منذ البداية، سواء كان ذلك داخل المجتمع المِهني للمتاحف العالمية، أو في الأوساط البحثية. كما شاركنا في رعاية العديد من المعارض الخاصة بأعمال بول كلي، التي أقيمَت في الخارج”.
واليوم، بات من الواضح أن هذه المكانة الدولية والتعاون والتبادل الفنّي الثقافي، بدأت تُـؤتي ثِمارها. وهكذا لقِيت المعارض الفنية الخاصة بأعمال كلي التي أقيمت في متحف “تيت غاليري” في لندن قبل ما يزيد عن العام قليلاُ، أو في لايبتسيغ (بألمانيا) في ربيع عام 2015، إستجابة كبيرة من الجمهور ووسائل الإعلام على حدٍّ سواء.
وكنوْعٍ من العرض المكافِئ للمعرض الذي أُقيم للفنان السويسري في قاعات عرض “تيت غاليري” للفنون (المدرج بين أبرز معارض الفن الحديث التي يقصدها الزائرون في العالم)، قدَّم مركز بول كلي في الربيع المنقضي، وفي إطار معرض إستعادي، منحوتات من معرض تيت تعود للفنان الإنجليزي هنري مور (1898- 1986)، أحد أبرز نحّاتي القرن العشرين، والمعروف بأشكاله التجريدية من الحجر والبرونز.
في اليابان أيضاً
فضلاً عمّا سبق، يحافِظ المركز على تعاون وثيق مع المتاحف اليابانية أيضاً. وهكذا سوف تقدم متاحف مدينتيْ أوتسونوميا وكوبي اليابانيتين هذا الصيف، معرضاً استعادياً لأعمال كلي من مجموعة برن. وبحسب بيتر فيشر فإن “الطريقة التي تُستقبل بها أعمال كلي في اليابان، تمثل ظاهرة بالفعل. إنه معروف جداً ويحظى بشعبية واسعة هناك، وينتمي إلى مرتبة كلود مونيه وفنسنت فان غوخ وبيكاسو”. وتنعكِس هذه الشعبية في الأعداد الكبيرة من اليابانيين، بين حشود الزوار المتوافدين للمتاحف من الخارج، والذين ترتفِع نِسبتهم من الثلث إلى النصف خلال أشهر الصيف.
بدوره، يشكّل المعرض المُقام لأعمال كلي وكاندينسكي رابط خارجيفي مركز بول كلي، نتيجة لما يتمتّع به المركز من سُمعة وموقِع دوليين. ويعود جزء كبير من أعمال كاندينسكي (وهو فنان روسي من أهم المُبتكِرين والمُجدّدين في الفن الحديث، ولاسيما التجريدي) إلى مجموعة متحف “لينباخهاوس”Lenbachhaus في ميونخ، الذي يتوفّر على أعمال هامة لهذا الفنان، تعود لفترة “الفارس الأزرق” (وهي إحدى الحركات الفنية التي أسّسها كاندينسكي وفرانز مارك في مدينة ميونخ الألمانية في عام 1911، لشغف كليهما باستخدام اللون الأزرق ورسم الخيول). كما يسجل كل من مركز جورج بومبيدو في باريس والمتحف الوطني في برلين ومتحف غوغنهايم في نيويورك، حضورهم في المعرض المُقام بِبرن، من خلال أعمالٍ قاموا بإعارتها للمركز.
معرض “كلي وكاندينسكي”
يشتمل المعرض الذي يُقام في مركز بول كلي برن إلى يوم 27 سبتمبر 2015 على أكثر من 180 عملا لكل من بول كلي (1879 – 1940) وفاسيلي كاندينسكي (1866 – 1944).
لم يسبق أن تم إنجاز دراسة بمثل هذا العمق والشمول للعلاقة القائمة بين مؤسّسيْ مدرسة الفن الحديث الكلاسيكي وعرضها في متحف بواسطة لوحات بمثل هذه الجودة والنوعية.
من خلال استخدامه لأمثلة مميزة، لم ينجح ميكائيل بومغارتنز، المشرف على إعداد المعرض، في شرح التطور الذاتي للصديقين اللدودين فحسب، بل توفّق أيضا في إظهار التأثيرات المتبادلة بين المُبدعيْن على مدى ثلاث عشريات.
حصل التقارب بين الفنانيْن والبيداغوجييْن خلال الفترة التي كانا يُدرّسان فيها في مدرسة بوهاوس في فيمار بألمانيا. ويُمكن ملاحظة ردة فعلهما على استيلاء النازيين على الحكم من خلال إقدامهما على استخدام ألوان بُنّيّة داكنة في العديد من الأعمال، والتي لم تتغير إلى ألوان زاهية إلا بعد الإنطلاقة الجديدة التي اتخذته مسيرتهما الفنية في أعقاب هجرتهما إلى خارج ألمانيا.
(المصدر: وكالة الأنباء السويسرية ATS-SDA)
مشروع لم يخلُ من الصّعوبات
ورغم كل التفوّق الذي يميِّز عمل هذه الشبكة الفنية الدولية اليوم، لم يمنع ذلك بعض الصعوبات التي واجهت عملية إنشاء المركز وترسيخ قاعدة آمنة له في نِطاق السياسة المحلية. ولهذا الأمر علاقة كبيرة بتاريخ وظروف إنشائه والمُرتبطة براعِي المشروع موريس إدمون مولَّر، الرائد في مجال جراحة العِظام ومُخترع مفصل الوَرَك الإصطناعي.
وكان الطبيب المعروف الذي يهوى جمع الأعمال الفنية وزوجته قد تبرّعا بمبلغ 125 مليون فرنك لبناء المركز، بالإضافة إلى جزء من الأرض، وما يقرب من نصف لوْحات كلي. بَيْدَ أن ذلك جاء مُرافقاً لعدد من الشروط: إذ أراد مولَّر أن يُشاهِد المركز من غرفة معيشته، وهو ما لم يترك خياراً لغيْر الأرض التي تبرّع بها والواقعة في حي “شونغرون” في ضواحي مدينة برن (حيث المثوى الأخير لبول كلي أيضاً)، كما طلب أن يقوم المهندس المِعماري الإيطالي المعروف رينزو بيانو بتصميم المشروع.
وكان بيانو الذي صمّم مركز بومبيدو في باريس بمشاركة المهندس المعماري البريطاني ريتشارد روجرز والمهندس المعماري الإيطالي جيان فرانكو فرانتشيني، قد انتهى للتَـوّ من إنشاء مبنى مؤسسة بايلير في بلدية ريهن (كانتون بازل المدينة). كما كان لكل من مولَّر وبيانو صديق مشترك، هو عازف البيانو أصيل ميلانو موريتسيو بوليني، الذي أنقذ الجرّاح المعروف حياته إثر تعرّضه لحادث.
بعد النّشوَة… جاءت الفكرة
وبالنتيجة، بنى بيانو المركز في وقت قِياسي، كما دفع مولَّر المبلغ الذي وعد به. “البناء والمتحف مُدهِشان بالفعل”، و”مثل هذه الفرصة لا تتكرّر في مدينة صغيرة مثل بَرن، إلّا مرة واحدة كل مائة عام”، كما قال رئيس بلدية برن بحماس في الخطاب الذي ألقاه أثناء حفل تدشين المركز يوم 20 يونيو 2005. كما تحدّث عدد آخر من السياسيين عن “العاصمة الثقافية المُقبِلة لسويسرا”، وعن “منارة” و”رمز جديد”، وبدأوا يحلمون بحشود السياح الوافدين من شتّى بقاع العالم، والآلاف من ليالي المَبيت الإضافية.
بيْد أنَّ نشوَة الفرَح سُرعان ما تبدّدت مع تدنّي أعداد السياح كثيراً عما كان متوقّعاً. وبالرغم من أن مولَّر كان قد سدّد تكاليف البناء بالفعل، لكن تغطية مصاريف التشغيل والرعاية المُكلِفة لأعمال بول كلي وإجراءات الصيانة، كانت من مسؤولية القطاع العام. وتبع ذلك إطلاق مدينة وكانتون برن لبرامج تقشّف، كما اندلع جدل سياسي استمرّ لأعوام حول توزيع التكاليف والمُطالبة بالادِّخار. وهكذا بدأت “المنارة” تُعاني من صعوبات مالية ومشاكل في صورتها أمام العامة.
نجاح يأتي بالمزيد من الدَّعم
وعندما تولّى بيتر فيشر إدارة مركز بول كلي في خريف عام 2011، كان عليه أولاً وقبل كل شيء الخروج ببرنامج للإصلاح وإعادة تنظيم الموارد المالية لهذه المؤسسة الفنية. وقد أثبتت هذه الإجراءات نجاعتها، حيث نجح المركز في العام الماضي، وللمرة الثالثة على التوالي، في تحقيق أرباح. ومنذ عام 2014، تولّى الكانتون بمُفرده دَعم المركز بمبلغ 6 ملايين فرنك سنوياً، تتضمّن الآن أيضاً مبلغاً إضافياً لصِيانة المبنى. ويأتي ذلك بالإضافة إلى مبلغ 4 ملايين فرنك تدفع لمرة واحدة من أعضاء المجتمع المدني لمدينة برن، بغية تنظيم المشاكل المالية.
ومن هذا المُنطلق، ينظر فيشر بثِقة نحو المستقبل والبرنامج الذي انْتَهجه، والذي يركّز على تعميق النظر في أعمال الفنان السويسري من جهة، وتحقيق تأثير أوسع نطاقاً من خلال إقامة المعارض الرائجة من جهة أخرى. “كما أثبتت التجربة في السنوات الأخيرة، يُمكن أن يصبح ذلك نهْجاً دائماً”.
وفي المستقبل، ينوي فيشر التوجّه بقوّة نحو القطاع الإقتصادي أيضاً، للحصول على التبرّعات، ويقول: “عندما تكون داخل دوّامة النجاح، سوف تحصل على المزيد من الدّعم أيضاً. لكن ما من أحد يرغب برعاية مؤسسة تتصدّر عناوين الصحف في كل وقت، بسبب مشاكلها المالية. وهذا ما كان عليه الوضع حتى أعوام قليلة خلَت، لكننا وُفِّقنا في تغيير ذلك الآن. كما نشعُر باهتمام مفاجِئ من جانب القطاع الإقتصادي ورغبته بالتواصل معنا وتعزيز الموقع الفني لِمدينة برن”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.