جواد الزيّر .. تفوّق علمي يُخفي قلقا وجوديا
يؤمن الدكتور جواد الزير، العالم الفلسطيني في مجال الكيمياء العضوية بجامعة زيورخ، ومنسّق شؤون طلاب الطب بكلية الكيمياء بأن للقدر الإلهي تدخّل مباشر في ضبط حركة الإنسان واختياراته. ويقول إن القدوم لإستكمال دراسته في سويسرا "لم يكن لا في الأحلام، ولا في التخطيط". ورغم أنه غادر هذا البلد مرّات عديدة، لكنه وجد نفسه كلّ مرة عائدا إليه يحدوه الأمل في الذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة في أبحاثه العلمية ذات التطبيقات الطبية.
ولئن كانت وجهة الدكتور الزير في بداية مشواره الجامعي باكستان، في القارة الهندية، فإن رغبته في استكمال دراسته في احدى الجامعات الغربية العريقة قادته إلى جامعة زيورخ بداية التسعينات، رغم حصوله على قبول بجامعات أمريكية وكندية نظرا لتفوّقه وتميّزه في دراسات البكالوريوس والماجستير.
ثلاثة عقود مضت على التحاقه بزيورخ، ولايزال هذا الخبير الفلسطيني في مجال الكيمياء العضوية يتذكّر لحظة تلقيه نبأ قبوله في زيورخ، وقال متحدّثا إلى swissinfo.ch: “لقد كانت مفاجأة جميلة، والنقلة كانت نوعية، من بلد فقير مثل باكستان، بإمكانياته المحدودة، وتطلعاته الضعيفة، إلى بلد راق ومتميّز مثل سويسرا، هو من بين البلدان العشر الأوائل من حيث التقدّم العلمي”.
تحديات متلاحقة
لكن هذه النقلة الكبيرة رافقتها تحديات وعوائق تواجه على العموم حديثي العهد بالهجرة. فكان أوّل هذه التحديات حالة الغربة النفسية والشعور بالعزلة الاجتماعية. يقول جواد الزير: “منذ وصولي إلى زيورخ بدأت البحث عن طالب يتحدّث اللغة العربية، فلم أعثر على أي طالب عربي في جامعة إرخل، لكنني نجحت مع الوقت في ربط علاقات صداقة جيّدة مع زملائي خاصة القادمين من ألمانيا، أما الطلاب السويسريين فيطغى عليهم الانطواء والتحفّظ”. ويروي كيف اكتشف من بين الطلاب الألمان، باحثا “نصف عربي” لأن والده من سوريا، ووالدته من ألمانيا، ويضيف: “كان هذا هو الشخص العربي الوحيد الذي عشت معه حتى نهاية فترة الدكتوراه”.
أما التحدّي الثاني، فكان حالة الانبهار والرهبة بسبب الفارق الكبير بين واقع البلدان الفقيرة والبلدان الغنية المتقدمة، فارق جعله كما يقول هو نفسه “يراودني شعور بأنه ربما لن أستطيع إكمال دراستي هنا، خاصة بعد أن رأيت بأم عيني البنية التحتية المتميّزة الموضوعة على ذمّة الطلاّب”، ولكن هذا الطالب الفلسطيني استعاد ثقته في نفسه منذ اللقاء الأوّل مع أستاذه المشرف: “في أوّل سمينار، يشارك فيه الطلاب الباحثون، والباحثون ما بعد الدكتوراه، طرح الأستاذ المشرف سؤالا علينا جميعا، فكنت أنا المبادر بتقديم الحل”. فكانت تلك بداية استعادة الثقة في النفس.
رغم كل ذلك، كان كل تركيز الزير منصرفا إلى البحث العلمي والتأطير الدراسي. فكان التحدي الثالث: “المشروع العلمي الذي أوكل إليّ إنجازه، كان جديدا، وكنت أوّل من بدأ الاشتغال عليه، وكان عبارة عن محاولة، ولم يكن في إمكان أي طالب من المجموعة البحثية التي أنتمي إليها أن يساعدني، فكنت أنا المدعو إلى بنائه من الاوّل، والمسؤول الوحيد والمتحمّل للنتائج في النهاية. فكان حملا ثقيلا، ومسؤولية كبرى لأن بحوثا أخرى ستبنى عليه في المستقبل”.
بحوث دقيقة ومعقّدة
رغم أن الكيمياء لم تكن الخيار الأوّل الذي أراد جواد الزير دراسته حينما التحق بالجامعة في باكستان، لكن ضيق الفرص المتاحة للتسجيل لم يترك له خيارا آخر. وربّ ضارة نافعة، كما يُقال. لقد نذر باحث الدكتوراه الفلسطيني في بداية التسعينات وقته وجهده لدراسة “مركّب السليلوز” نوع من أنواع “السكريات”، وهو أكثر مركّب عضوي يوجد في الطبيعة، ولم يكن الشكل الطبيعي لهذا المركّب معروفا آنذاك. فأراد جواد الزير التعمّق في معرفة شكله الثلاثي، من خلال إعادة تركيبه بشكل كيميائي مشابه في المختبر، ثم المقارنة بين الصفات المسجّلة في المختبر والصفات الموجودة في الطبيعة، ثم استثمار تلك المعلومات لاحقا من أجل التوصّل إلى تطبيقات يكون لها أثر إيجابي على صحة الإنسان.
ولهذا الخبير العربي دراسات ومنشورات علمية كثيرة في المجلات العلمية المحكّمة، كما أنه يمتلك العديد من براءات الاختراع المسجّلة بإسمه. أما بحوثه وانجازاته العلمية، فقد نمت وتوسّعت مجالاتها مع الوقت كما سيتبيّن لاحقا
اكتشاف مضادات لأمراض مستعصية
بعد حصوله على الدكتوراه، اتجه جواد الزير إلى العمل في شركة “فريتز هوفمان لا روش”، الشركة السويسرية العالمية الرائدة في مجال التكنولوجيا الحيوية، والأولى عالميا في مجال دراسات أمراض السرطان، وفي مجال الأبحاث المخبرية والتشخيص، والمستثمر الأوّل عالميا في صناعة الأدوية. وتتبع هذه الشركة تقليد ثابت منذ عقود، وهو العمل كل سنة على اكتشاف دواء جديد لمرض مستعص.
وعن تجربته في هذه الشركة يقول الزير: “لقد تعلّمت من خلال العمل في هذه الشركة كيف أفكّر بطريقة علمية وعملية في آن واحد. فانصرفت جهود مجموعتنا البحثية إلى محاولة التوصّل إلى دواء فعّال لمرض الملاريا، يختلف كليا عن الأدوية المتعارف عليها، وحتى يكون هذا الدواء جديدا على الحشرة أو الذبابة المسؤولة عن نقل هذا المرض، فلا تكون لها مقاومة لتأثيره”.
ويضيف الخبير في الكيمياء العضوية: “وبالفعل نجحنا في هذه المهمّة، وكان الدواء المكتشف فعّالا، وجربناه في أكثر من بلد، وحصلنا فيه على براءة اختراع، وأصدرنا حوله نشرتين علميتيْن”.
اتجه هذا الخبير العربي لاحقا إلى أمريكا، حيث استمرت بحوثه في إحدى المختبرات هناك متجهة لإيجاد دواء لمرض “الإيدز” (نقص المناعة المكتسب)، مرض آخر معقّد وخطير. لكن الباحث الزائر لم يكمل عمله، واضطرّ لأسباب عائلية إلى العودة إلى فلسطين.
وعند رجوعه في المرة الثالثة إلى سويسرا، إلتحق جواد الزير ب”مركز البحث العلمي لأمراض السرطان”. ويقول عن مهمّته هناك: “كنا نريد إيجاد علاج لمرض السرطان عن طريق إعطاء إشارة علمية للجسم ننبهه فيها إلى وجود خلل، وهذا الخلل لابد أن يصلحه الجسم من تلقاء نفسه قبل أن ينتقل ذلك الخلل إلى خلية أخرى. وكانت الغاية القصوى من وراء ذلك إيجاد علاج جيني لهذا المرض الخطير. واليوم تتواصل هذه البحوث في الجامعات الامريكية، لكنّ جواد اختار مواصلة أبحاثه في زيورخ، فهو “لا يرغب في العودة إلى أمريكا”، على حد قوله.
وبالفعل واصل الخبير السويسري الفلسطيني في زيورخ عمله مع مجموعة بحثية تركزت جهودها على إيجاد مركب كيمياوي يمكّنه من إيقاف نمو الخلايا السرطانية وفقا لأسلوب جديد. وهذه، بحسب محدّثنا “أوّل مرة ننجح فيها في صناعة مركّب كيميائي قادر على تحجيم شكل الحمض النووي حتى لا يعطي فرصة للخلايا السرطانية بالتكاثر”.
ووفقا لجواد الزير: “تم تجريب هذا المركّب الكيميائي على الفئران، وأعطى نتائج باهرة، وقد أرسل إلى مؤسسات بحثية شريكة في الولايات المتحدة لإختباره كذلك على ستين خلية سرطانية مختلفة، فوجدوا أن لهذا المركّب قدرة مميّزة على قتل خلايا سرطان الجلد، وبالأخص الميلانوميا”.
ودائما وفقا للدكتور الزير: “كذلك اكتشفنا خاصية أخرى لهذا المركّب الكيميائي، إذ بمجرّد عرضه لضوء خاص بطول موجة محدّدة، يستطيع فرز طاقة تحوّل الأوكسيجين الموجود في منطقة الخلايا إلى أوكسيجين قاتل للخلايا السرطانية، ويطلق على هذه الطريقة “Photodynamic Therapy”.
وبالفعل يعدّ هذا أقوى مركّب معروف في هذه المرحلة، وقد اثار اكتشافه ضجّة علمية، وتداولته الصحف والمجلات العلمية كحدث علمي متميّز.
فلسطين .. البوصلة على الدوام
رغم كل الإمتيازات التي توفّرها مراكز البحث والجامعات في البلدان المتقدّمة لهذا الصنف من العلماء، ومنها جامعة زيورخ، والشركات السويسرية العملاقة، يعيش جواد الزير قلقا وجدانيا كبيرا، لعلّ مردّه المفارقة المؤلمة التي تواجه العقول العربية المهاجرة بصفة عامة.
فمن ناحية، تبذل هذه العقول جهودا كبيرة لبلوغ أعلى المستويات العلمية، ولابدّ أن تتواصل إقامتها في بلدان المهجر إذا أرادت المحافظة على ذلك الكسب، وتنمية هذا الأداء، ومن ناحية أخرى، هي تشعر في اعماقها بنوع من الإحساس بالتقصير في واجبها تجاه اوطانها، مسقط الرأس. ويزداد هذا الشعور حدّة وقوّة إذا كان الوطن مغدورا به ومحتلا من المستعمر، كما هو حال الوطن الفلسطيني، عندئذ يصبح أي تقصير ذي طعم خاص، لأن الجميع مدعو “إلى العمل من أجل تحرير هذا الوطن ومساعدته للوقوف على قامتيْه، ولإثبات وجوده بين كلّ الأمم”، كما يقول جواد الزير.
وبالفعل، وإستجابة لهذا النداء المقدّس، عاد جواد الزير إلى فلسطين مرّات عديدة من أجل استثمار مكاسبه العلمية في أرض الأباء والاجداد، لكن في كلّ مرّة يحزم حقائبه ويعود من حيث أتى.
تزامنت المرّة الأولى، بعد حصوله على الدكتوراه مباشرة، مع اندلاع انتفاضة الأقصى، التي انجرّ عنها غلق كل الجامعات الفلسطينية، فانعدمت فرص الفعل والتأثير.
وعاد مرّة ثانية، وهذه المرة بعد تجربة ثرية في مجال الأبحاث الطبية، حيث، كما يقول الدكتور الزير نفسه “وصلت إلى قناعة أن ما أملكه من كسب علمي يمكن استثماره بطريقة علمية في فلسطين، فقررت أن أعود مرّة ثانية، وهذه المرة من أجل تأسيس مركز بحثي لمعالجة مرض السرطان، خاصة وأني كنت أعلم أن فلسطين غنية بالنباتات الطبية، ويمكن استثمار تلك النباتات لنصنع منها أدوية لمعالجة الامراض المستعصية، ومرض السرطان إحدى هذه الامراض”.
ورغم إدراكه أنه من الصعب تحقيق نتائج مماثلة لما حققته مؤسسات كبرى مثل نوفارتيس ولاروش السويسريتيْن، فإنه كان مدركا أيضا أنه ليس هناك من داع “لكي نظلّ نصنع العلاجات كيميائيا، في الوقت الذي أودع الله فيه هذه العلاجات في النباتات”. وبالفعل، يقول محدّثنا: “نزلت إلى فلسطين وظللت ستة أشهر كاملة وأنا أصيغ المقترحات، وأكتب للجامعات، واتصل بالمسؤولين وصانعي القرار، ورغم أن الجميع كان مقتنعا بجدوى الفكرة وتميّزها، لكن تبيّن لي أنه من غير الممكن توفير 500 ألف دولار لتمويل هكذا مشروع”.
وحتى لا ينتهي به الامر إلى مجرّد مدرّس في إحدى الجامعات المحاصرة، قرّر جواد الزير الرجوع مرّة أخرى إلى بلده الثاني، سويسرا، وهو لا يزال مسكونا بفكرة تحسين أدوية أمراض السرطان عبر استخلاصها من النباتات الطبيعية، وهو اليوم يعمل على تطويرها رويدا رويدا، مستفيدا من بنية تحتية متطوّرة، ومن إمكانات مادية واجتماعية مساعدة.
مثقف وعالم ملتزم
يحاول جواد الزير، الذي استحالت عليه العودة للإقامة في فلسطين او أي بلد عربي آخر، حتى لا يضطرّ إلى الانقطاع عن أبحاثه العلمية المتقدّمة، الوفاء بما يمليه عليه انتمائه الوطني والقومي، من خلال العمل ضمن مؤسستيْن حيويتيْن:
المؤسسة العلمية السويسرية للبلدان النامية: أنشأت هذه المؤسسة في عام 2014، من قبل مجموعة من الخبراء السويسريين من أصول مختلفة بهدف دمج المهارات العلمية مع الخلفيات الثقافية الشرقية بقصد تعزيز الاتصال بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة، ومن أجل تشجيع التبادل العلمي والمبادلات التجارية وتطوير البحوث في مجالات عديدة، وفي المقدّمة قطاعيْ الصحّة والتعليم.
وتخطط هذه المؤسسة التي يوجد مقرّها القانوني في دوبندورف بكانتون زيورخ، ويرأسها الدكتور جواد الزير إلى إقامة ندوات، ولقاءات سنوية لمساعدة أعضائها على الارتقاء بمعارفهم وخبراتهم، وتحديد الفرص المتاحة ذات القيمة العالية في مجال التبادل بين الشمال والجنوب.
الجمعية الثقافية السويسرية الفلسطينية: تنشط هذه الجمعية التي تأسست قبل ربع قرن تقريبا في العاصمة برن استجابة لرغبة الجالية الفلسطينية في سويسرا في توحيد جهودها ولمّ شملها. ومنذ ذلك الحين تحتضن هذه الجمعية العمل المشترك لجزء مهمّ من هذه الجالية الفلسطينية العربية.
وفقا لرئيسها الحالي، الدكتور جواد الزير، تعمل هذه الجمعية من أجل “التعريف بالهوية الفلسطينية، من خلال تنظيم جملة من التظاهرات الثقافية والإجتماعية”، كما تعمل على “تعزيز أواصر الصداقة مع أبناء الجاليات العربية الأخرى المقيمة في سويسرا، ومع عامة السويسريين خاصة المناصرين منهم للقضية الوطنية الفلسطينية”.
يؤكّد الدكتور جواد الزير على الطابع الثقافي الخالص لهذه الجمعية، وهي بحسب قوله: “لا تتدخّل في المجال السياسي، لأن الشعب الفلسطيني توجّهاته السياسية متباينة، وإذا بنيْنا هذه الجمعية على فكرة سياسية، فلن يقبل أي فلسطيني الجلوس إلى فلسطيني آخر”.
ويضيف رئيس الجمعية: “لقد قرّرنا أن تظل بوصلتنا جميعا فلسطين، وأن نعمل على تثقيف هذه الجالية باطلاعهم على تاريخ وطنهم، ثم الإمتداد بعملية التثقيف لتشمل كل إنسان عربي مهتمّ بقضية فلسطين، وكل سويسري أو أوروبي يؤمن بعدالة قضيتنا”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.