حَمَلَةُ الحقائب في زمن المافيا
في عام 1925، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وضعت المافيا الأمريكية نظاماً لغسيل ملايين الدولارات التي مرت عبر سويسرا، مع الإفلات التام من العقاب. عودة إلى قضية جنائية أصبحت في طي النسيان.
وفي الجانب الشرقي الجنوبي من نيويورك، الحي سيء السمعة آنذاك، التقى ماير سوشولجانسكي، المعروف باسمه الإنجليزي ماير لانسكي، بشارل لوسيانو، الذي صار فيما بعد رئيس Cosa Nostra، أحد فروع المافيا الإيطالية. وكان ماير لانسكي عبقرياً في الرياضيات في حين كان شارل لوسيانو طموحاً. ونشأت بين الشابين علاقة صداقة دامت مدى الحياة وقادتهما إلى شواطئ بحيرة ليمان، حيث قاما فيما بعد بغسيل ملايين الدولارات.
وفي حين كانت الدولة الأمريكية تطارد المافيا من خلال مصلحة الضرائب، كان على الرجلين إيجاد طريقة سرية وفعالة لغسيل أموالهما القذرة. فقاما بإنشاء كازينوهات، وكان أولها كازينو لاس فيغاس “فلامينغو”. واختلطت الأموال القذرة بكل سهولة مع أموال اللاعبين. ولكن، بقيت قضية دفع الضرائب: ما السبيل لتجنب دفع مبالغ كبيرة؟ وماذا سيفعلان بالأموال النقدية التي تخرج من الكازينوهات، وتُخبأ في الحقائب؟
وفي السياق يقول سيباستيان جيكس، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة لوزان والمتخصص في السرية المصرفية السويسرية: «مشكلة كل منظمة إجرامية كبيرة، أي ما نطلق عليه اسم الجريمة المنظمة، التي كانت تدرّ مبالغ طائلة في ذلك الوقت، هي معرفة كيفية تبييض هذه الأموال. أي إخراجها من القنوات غير المشروعة لإظهارها وكأنها متأتية من مصادر مشروعة».
اكتشفوا الحلقة الأولى من بودكاست «الملايين الخطيرة» المُكرَّس لِحَمَلَة الحقائب من المافيا.
وفكر ماير لانسكي بسويسرا، فهي دولة معروفة بتكتمها بالإضافة إلى كونها بعيدة جداً بشكل خاص عن مصلحة الضرائب الأمريكية. وسهلت له البنوك السويسرية المهمة: فهي التي نظمت تحويل الأموال عن طريق حملة الحقائب الذين يُطلق عليهم اسم «حجاج». وتعليقاً على ذلك، يقول سيباستيان جيكس موضحاً: «ينقل هؤلاء الوسطاء بأنفسهم الأموال إلى سويسرا ويتولون مهمة عبور الحدود الحساسة. وهو ما يسمح بتأمين المال وعدم الكشف عن هوية العميل».
العلاقة بجنيف
وهكذا انتهى المطاف بأموال ماير لانسكي وشارل لوسيانو إلى خزائن بنك “كريدي أنترناشيونال” في جنيف. وهو مصرف تيبور روزنبوم، المَجَري الذي نجا بأعجوبة من النازية ولجأ إلى سويسرا، الدولة المحايدة، خلال الحرب. ولا يُعرف الكثير عن الظروف التي جمعتهم. ولكن خلال عشر سنوات، قام البنك بغسيل كميات طائلة من أوراق العملة الخضراء في جنيف، وبكل سرّية.
إنَّ وضع الأموال في سويسرا حَلَّ جزءا من المعادلة. وبقي الجزء الآخر، وهو إعادة إدخال الأموال إلى الولايات المتحدة.
ومعاً، قام تيبور روزنبوم وماير لانسكي بوضع خطة جهنمية. حيث تمَّ تحويل الأموال المودعة في جنيف على هيئة «قروض مصرفية» مُنِحت إلى شركات أمريكية تنتمي إلى المافيا. وكانت هذه القروض تُمنَح بشكل خاص إلى شركات بناء العقارات الفاخرة في فلوريدا أو الكازينوهات. علاوة على ذلك، كانت هذه الشركات تدفع ضرائب أقل لأنها كانت تستفيد من خصم الفائدة على القروض. نظام محكم تماماً، إلا أنه انهار نتيجة تسريب حصل عن طريق الصدفة، مهدداً بذلك بإلحاق الضرر بسمعة سويسرا.
اندلاع الفضيحة
في الأول من سبتمبر 1967، خصصت مجلة “لايف” صفحتها الأولى للحديث عن نظام روزنبوم ـ لانسكي. وكشفت الصحيفة الأسبوعية، من خلال إحدى عشر صفحة، كل شيء ـ بالصور ـ عن امبراطورية الجريمة المنظمة: من الكازينوهات التي تضخ مليارات الدولارات، إلى حَمَلَة الحقائب وخططهم الملتوية وصولاً إلى إيداع الأموال في صناديق مصرف تيبور روزنبوم في جنيف.
وحصل التسريب بسبب خطأ ارتكبه أحد موظفي البنك: سيلفان فيردمان. عندما كان يعيد سيارة استأجرها أثناء احدى عمليات النقل التي كان يقوم بها، سقطت من جيبه قطعة من الورق كُتِبَت عليها بعض الأحرف والأرقام MARAL 2812 التي ترمز لأحد الحسابات المرقمة المعروفة في مصرف كريدي أنترناشيونال. ويُذكَرُ أنَّ أحد موظفي مكتب تأجير السيارات وجدها وقدَّمها إلى مكتب التحقيقات الفدرالي “FBI”.
وفي هذا الخصوص، يؤكد سيباستيان جيكس قائلاً: «لدي قناعة يدعمها المنطق بأنَّ المقالات التي نُشرت في مجلة “لايف” ليست من تأليفها. إنها مقالات مستوحاة من وراء الكواليس من أعلى السلطات الأمريكية».
واشنطن تتدخل لدى برن
في سويسرا، كان المقال مزعجاً. إذا كانت الولايات المتحدة ترغب بتطهير حسابات المافيا، فسويسرا تتقبل تماماً تبييض أموال هذه الأخيرة. وليس هناك ما يلزمها بالتعاون مع السلطات الأمريكية. فالسلطات السويسرية لا توافق على مساعدة الدول الأخرى إلا إذا كانت القضية تتعلق بـ «القانون الجنائي». خاصة وأنَّ سويسرا لم تكن تعتبر التهرب الضريبي جناية في ذلك الحين.
ومع ذلك، أثارت القضية بعض الضجة. واستطاعت swissinfo.ch الوصول، من خلال الأرشيفات الفدرالية، إلى رسالة كتبها السفير السويسري في واشنطن. وأرسلها بعد عدة أيام من نشر تحقيق مجلة لايف إلى «مركز» وزارة الشؤون الخارجية في برن. وجاء فيها: «لقد اتضح أنَّ المافيا اليهودية والإيطالية في نيويورك قد نجحت في تأمين السيطرة على بنك في جنيف. وهذه القضية هي مثال صارخ عن بعض الجوانب الدولية لنظامنا المصرفي والمشاكل التي يُسببها لسلطاتنا. وقد يكون لتجاهل هذه القضية تداعيات سلبية على علاقاتنا الجيدة مع الولايات المتحدة».
وكانت هذه التسريبات مهمة إلى درجة دفعت السلطات السويسرية إلى فتح تحقيق. كما أثارت القضية قلق تيبور روزنبوم، الذي سارع بتوكيل محام من جنيف. ورفع البنك دعوى تشهير ضد مجلة L’Illustré السويسرية، التي كانت على وشك نشر المقال، في محاولة منه لمنع نشره. وفي نهاية الأمر، عرض تيبور روزنبوم عقداً على ناشر المجلة: مفاده أن يحول البنك مبلغ 50 ألف فرنك آنذاك إلى الناشر، فريق Ringier، مقابل أن يتخلى عن نشر المقال. وانتهت الترجمة الفرنسية لمقال مجلة “لايف” في سلة المهملات.
التحقيق السويسري
في نفس الوقت، فتحت الشرطة السويسرية تحقيقاً. ووكلت به المحقق بيار لابيروزا، من شرطة جنيف، الذي نشر بدوره، بعد ستة أشهر، في مارس 1968 تقريراً من ثلاثين صفحة تقريباً. تمكنت swissinfo.ch من الاطلاع عليه.
واتضح من خلال التحقيق أنَّ النخبة من Cosa Nostra قد اعتادت على القدوم إلى شواطئ بحيرة ليمان منذ سنوات عديدة. حيث كان ماير لانسكي والعشرات من المقربين إليه يأتون إليها كل عام من أجل أعمالهم. فكان من بينهم رجال أعمال و«زعماء» ورؤساء وزوجاتهم وفي بعض الأحيان عشيقاتهم.
وأخذ التقرير يتنقل بين جميع إدارات الشرطة السويسرية، ولكن دون أن يحدث أي شيء. وما كان من الإدارة العليا للمحقق لابيروزا إلا أن عرقلت التحقيق وأُلقي التقرير في أسفل الدرج. وعلى حد قول سيباستيان جيكس: «يريد السويسريون تضليل الناس ودفن القضية. وبقي هذا موقفهم على مدار كل هذه السنوات».
الإفلات من العقاب
وبذلك، لم يعد تيبور روزنبوم ومصرفه يشعران بالقلق، وكذلك الأمر بالنسبة لسيلفان فيردمان، الرجل الذي كان ينقل الحقائب. أما ماير لانسكي فقد لجأ إلى إسرائيل بعض الوقت للتهرب من مصلحة الضرائب الأمريكية. وعندما مرض فيما بعد، عاد أدراجه إلى الولايات المتحدة. وخلال محاكمته، أكدت مصلحة الضرائب الأمريكية أنَّ ماير لانسكي خبأ ثروة طائلة تبلغ 300 مليون دولار في «ملاذات ضريبية» في سويسرا وغيرها من الدول. ولكن، بحسب تصريحاته للضرائب، لم يكن يملك قرشاً واحداً. وتمت تبرئته في عام 1974. ثم تقاعد في فلوريدا وتوفي عام 1982 بسرطان الرئة.
لقد حاولنا الاتصال بحفيده، الذي يُطلق على نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي اسم «ماير لانسكي الثاني». إلا أنه رفض مقابلتنا.
ترجمة: ميساء قطيفاني ـ خبية
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.