نضال ميشيل باتشليت من أجل حقوق الإنسان
حان الوقت لإجراء حديث آخر مع مفوّض سامٍ سابقٍ للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. كما يعرف القراء والمستمعون المنتظمون، نقوم على مدار هذا العام بإجراء مقابلات مع جميع أولئك الذين شغلوا الوظيفة كجزء من تغطيتنا عبر بودكاست "من داخل جنيف" للذكرى الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ضيفتنا هذه المرة هي ميشيل باتشليت، التي شغلت منصب المفوضة السامية بالأمم المتحدة لحقوق الإنسان هنا في جنيف حتى أغسطس 2022. وكانت الفترة التي قضتها في المنصب مليئة بالتحديات، من جائحة كوفيد-19 إلى الغزو الروسي لأوكرانيا. كما واجهت ضغوطا هائلة لنشر تقرير طال انتظاره عن جرائم الصين بحق سكانها من أقلية الإيغور المسلمة.
لقد أتيحت لي الفرصة للقاء ومقابلة جميع مفوضي حقوق الإنسان في الأمم المتحدة شخصيًا، باستثناء ميشيل باتشيليت وخوسيه أيالا لاسو، الذي كان في منصبه قبل الفترة التي قدمت فيها إلى جنيف. وكان الإغلاق بسبب الوباء يعني أن المقابلات وجهًا لوجه لم تكن ممكنة في كثير من الأحيان. عقدت الأمم المتحدة إحاطات صحفية افتراضية، وهكذا تعرّف الصحفيون على باتشليت عبر شاشات الكمبيوتر.
لذلك عندما أتيحت لي الفرصة أخيرًا لإجراء مقابلة معها (مرة أخرى عن بُعد، لأنها كانت في مكتبها في سانتياغو) كنت متوترة بعض الشيء – لم أشعر أنني أعرفها كما هو الحال مع نافي بيليه أو لويز أربور أو زيد رعد الحسين.
خلال المقابلة، وجدت أنها امرأة مريحة ودافئة ومطلعة للغاية، تتمتع بالكثير من الفكاهة، جنبا إلى جنب مع واقعية فولاذية تتطلبها وظيفة مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
بالامكان الاستماع إلى الحوار مع المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان بالنقر على هذه المادة الصوتية:
نشأت في ظل الدكتاتورية
ربّما تكون باتشليت من أحسن من قام بالمهمة بين جميع نظرائها. فقد خبرت بشكل مباشر معنى انتهاكات حقوق الإنسان. حيث شهدت في شبابها الانقلاب العسكري لأوغستو بيونشيه في تشيلي والقمع العنيف الذي أعقب ذلك.
في تلك الفترة، تم القبض على أبيها، الذي تُوفي في السجن بنوبة قلبية جراء التعذيب. وفي وقت لاحق، تم القبض عليها وعلى والدتها ونقلهما إلى فيلا جريمالدي سيئة السمعة في سانتياغو، والتي تحولت إلى مركز استجواب تديره الشرطة السرية التشيلية (DINA ).
هناك تم فصل الأم عن ابنتها. ولم تعرف أي منهما ما حدث للأخرى. تتذكر باشيليت تركيزها على محاولة “أن أكون قوية قدر الإمكان، وألا أفشل وألا -كيف يمكنني أن أقول- أعترفَ بأشياء يمكن أن تلحق الضرر بالآخرين”.
على امتداد عام 2023، أحيت مؤسسة سويس إنفو (SWI swissinfo.ch) الذكرى السنوية الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهذه الوثيقة، التي تعدّ الأكثر ترجمة في العالم، هي عبارة عن مجموعة من المبادئ الرائدة. ويصف المفوض السامي الحالي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، الإعلان بأنه “وثيقة كان القصد منها تغيير الأوضاع.. ردّا على الأحداث الكارثية التي عاشها العالم خلال الحرب العالمية الثانية”.
تولّى أوّل مفوّض سام للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، خوسيه أيالا لاسو، من الإكوادور، منصبه في عام 1994. فلماذا استغرق تعيين شخص ما كل هذا الوقت بينما صيغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948؟
أجرى بودكاست “من داخل جنيف” مقابلات مع جميع مفوّضي الأمم المتحدة السامين السابقين لحقوق الإنسان (وهي وظيفة تسمى أحيانا أصعب الوظائف في الأمم المتحدة) للتعرف على تجاربهم ونجاحاتهم والتحديات التي واجهتهم.
في النهايةن تم إطلاق سراحهما، واستمرت الدكتاتورية الطويلة في تشيلي، فينما واصلت باتشليت عملها كطبيبة ولكن أيضا كناشطة سياسية. وعندما عادت الديمقراطية إلى تشيلي في النهاية، كانت باتشليت على أتم الاستعداد لخدمة بلادها، أوّلا كوزيرة في الحكومة، ثم كرئيسة لها لفترتيْن غير متتاليتيْن.
وعندما طلبت تعليقها على هذه الرحلة الرائعة من السجن إلى القصر الرئاسي، ردت مبتسمة: “استغرق الأمر وقتا طويلا”.
خبرة سياسية
قد يعتقد البعض أنه من غير المعتاد الانتقال من منصب رئيس حكومة إلى منصب رفيع في الأمم المتحدة. في الواقع، قامت باتشليت بمهمة بالأمم المتحدة خاصة بملف المرأة بين الفترتيْن التي تولت فيهما رئاسة حكومة بلادها. لذلك، عندما دُعيت لتولي وظيفة مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، لم تكن غريبة تماما عن الأمم المتحدة.
خلال فترة تولّي باتشليت منصبَها، انتقدتها جماعات حقوق الإنسان لاتباعها نهج “من زعيم حكومي إلى آخر” في التعامل مع الأنظمة المسيئة، لكنها كانت مقتنعة بأن تجربتها السياسية كانت مفيدة للغاية في مجال حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
تقول باتشليت لـ “من داخل جنيف”: “بما أنني توليت منصب الرئيس مرتين قبل أن أصبح مفوضاً سامياً، كان بإمكاني أن أضع نفسي مكان ذلك الشخص الذي كان يتخذ تلك القرارات، وحاولت التفكير في الحجج التي يمكن أن تقنعه باحترام حقوق الإنسان. هذا ليس الأمر الصحيح الذي ينبغي عمله فحسب، بل هو الأمر الذكي أيضًا”.
هل نجحت في مهمّتها؟ تنقسم الآراء حول ذلك، وقد لا نعرف أبدًا ما إذا كانت المحادثات الخاصة (التي أجراها جميع مفوضي حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة مع رؤساء الحكومات) أدت بالفعل إلى قمع أقل واحترام أكبر للحقوق.
ضغوط الصين
من المرجّح أن أن يتم تذكّر باتشليت أكثر من غيرها بسبب الضغط الهائل الذي مورس عليها لنشر تقرير الأمم المتحدة حول الأوضاع الإنسانية في مقاطعة شينجيانغ في الصين، حيث تقول جماعات حقوق الإنسان إن بكين اعتقلت ما يصل إلى مليون شخص من أقلية الإيغور المسلمة في “معسكرات إعادة التثقيف”. وأشارت التقارير إلى أن المحالين على هذه المخيمات يتعرضون لفصل الأطفال عن والديهم وإلى التعقيم القسري للنساء.
لقد تم تأجيل نشر تقرير الأمم المتحدة هذا عدة مرات، بينما تباينت وجهات نظر أطراف مهتمة كثيرة (بما في ذلك الصين نفسها) حول مضمونه. وتتذكّر باتشليت الضغوط التي كانت تٌمارس عليها بشكل شبه يومي لحثها على التعجيل بنشره التقرير أو تأجيله مرة أخرى حسب الجهة الممارسة للضغط.
وتعلق محاورتنا قائلة: “كنت أقول لهم، أنظروا، إذا طلبتم مني عدم نشر هذا التقرير، فغدًا، سوف تتصل بي دولة كبيرة وتقول، لا، يجب أن تنشره. وبعد ذلك ستأتي دولة كبيرة أخرى، وهكذا. لذا فإن الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله هو العودة إلى المنزل، لأنه يجب علي القيام بعملي. وبالتالي كان هناك الكثير من الضغط والكثير من الانتقادات “.
ويتذكر الصحفيون والصحفيات تلك الليلة في أغسطس الماضي، عندما نشرت باتشيليت أخيرًا التقرير خمس دقائق قبل منتصف الليل في آخر يوم لها في المنصب. لقد شعرنا بالغضب والحرمان من النوم، لكنه كان تقريرًا صارمًا، يشير إلى أن الصين ترتكب جرائم محتملة ضد الإنسانية.
حياة السّود مهمة
بينما هيمن ملف الصين خلال فترة تولي باتشيليت منصبها، كان هناك قضية أخرى أعتقد أنه يجب تذكرها: عملها في مجال حقوق الأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي، وقضايا التمييز العنصري ضدهم…
أثار مقتل جورج فلويد على يد ضباط شرطة الولايات المتحدة غضبًا عالميًا. في جنيف، قدمت الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الدعم ومنصة لعائلات أولئك الذين قُتلوا مثله، وهم كثيرون.
كانت باتشليت هي التي ربطت علنًا بين إرث العبودية والاستعمار، والتمييز المنهجي ضد السكان المنحدرين من أصل أفريقي. ودعت إلى تعويضات بسبب “قرون من العنف والتمييز”.
هل سيتحقق شيء بفضل هذا النداء؟ “لا أعرف”، إجابتها هذه صادقة، لكنها تشعر مع ذلك أن النقاش قد بدأ.
وماذا عن الإعلان العالمي الذي يحيي العالم هذا العام ذكراه الخامسة والسبعين؟ هل هو مناسب للغرض؟ تحذر باتشيليت من الدعوات المطالبة بتعديله لكي يعكس وعيًا جديدًا بالمساواة والهوية. تخشى أن يؤدي ذلك إلى فتح “صندوق باندورا”. وتشير إلى أن الإعلان ينص بالفعل على أن “جميع الأشخاص، كل الأشخاص، الجميع مشمولون هناك. وهذا أمر جيد بما فيه الكفاية”.
ووفقًا لباتشليت: “لا يزال الإعلان العالمي ساري المفعول. لأنه يوفّر الحد الأدنى من المعايير، ويمكّننا من العيش المشترك”.
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.