هل النقاش الدائر حول العنصرية ضروري؟
لا يكاد يوجد شخص يعترف صراحة بأنه عنصري، ففي كثير من الأحيان لا يدرك الشخص أنه يتكلم أو يتصرف بشكل عنصري، كما أن الجدل الدائر حول المسميات وتاريخ الاستعمار والعبودية وصمنا كلنا بالعنصرية وأثار النقاش حول دلالات اللغة وسلطتها.
في خضم الجدل حول العنصرية ارتفعت الأصوات المطالبة بإعادة النظر في مصطلحات اللغة، وهو ما رأى فيه البعض مبالغة وتركيز على صغائر الأمور وأُثيرت تساؤلات: هل النقاشات الدائرة حول اسم نوع من الشوكولاته مجدية أم أن مثل هذا الجدل هامشي ويشتت الانتباه عن القضايا الأهم وهي التمييز المنهجي الذي يعني عدم الحصول على وظيفة أو سكن بسبب العنصرية؟ وهل يجب أن نتخلص الآن من التراث ونمحي التاريخ ونحرق الكتب القديمة لإنشاء جيل غير عنصري؟
في سويسرا أظهر النقاش المشتعل حالياً حول العنصرية وجود اختلاف حول مفهومها وبداياتها ونهاياتها وحدودها. فقد أثير الجدل حول مسميات الأماكن مثل قمة جبل أغاسيتس وأسماء المأكولات ذات الدلالات “العنصرية” وكلاسيكات أدب الأطفال والأغاني التراثية وحتى تسميات أنواع الشوكولاتة مثل موريتي أو “مورين كوبف” وهي كلمات قديمة كانت تستخدم لوصف الأشخاص داكني البشرة وأصبحت دارجة في اللغة وتطلق على الحلوى.
وقائمة الأسماء والكتب والنصب التذكارية التي يجب إعادة النظر في محتواها وتاريخها المرتبط بالإمبريالية والاستعمار وقوانين العنصرية، أصبحت تطول يوماً بعد يوم. ناهيك عن الجدل الراكد تحت الرماد والذي يبعث من جديد في كل موسم مهرجانات الكرنفال الشعبية في سويسرا (Fasnacht) حول المحرمات والمسلمات في التنكر والذي يعني ارتداء أزياء فلكلورية من بلدان أخرى وتلوين البشرة أحياناً و الإبداع في إضفاء روح الفكاهة في شكل الشخصية المتقمصة. وهذا ما يثير حفيظة البعض والنقاش حول مفهوم العنصرية وضرورة التحلي بروح رياضية وحس الفكاهة، ففي الكرنفال كل شيء مباح، طالما أن الهدف مجرد التسلية مثلا أو بلا هدف أو نية سيئة، كما يرى المدافعون والمدافعات عن هذه الممارسات.
شخصيا لفت انتباهي وجود صور نمطية عن العرب في أغاني الأطفال، مثل الأغاني عن الخالة القادمة من المغرب على ظهر جملين وتطلق النار من بندقيتين أو الأغنية التي تروي قصة دكتور سيدي عبد العصار المتيم بحب فتاة ولا يستطيع الزواج بها لمغالاة أبوها في طلب مهر بقيمة 220 جملاً وفي النهاية يرضى بامرأة أقل جمالاً وإن كانت أكثر ذكاءاً. هذا إلى جانب كتب الأطفال المصورة المحتوية على صور نمطية عن العرب. أيضا الصور الإخبارية، لا تخلو من صور الجمال والأسواق المزدحمة بالحيوانات، ما يدفعني أحياناً للتساؤل: هل تبدو شوارعنا فعلا بهذه الصورة وإذا ما كنت لا أرى ما يراه المراسلون والمراسلات؟ المؤكد أن هذه الصورة النمطية تشكل أيضا رؤية الجمهور في الغرب. لكن هل هذه عنصرية؟
من أين نبدأ بمكافحة العنصرية؟
ميريام اسر دافوليورابط خارجي، الأستاذة الجامعية في معهد التنوع والعدالة الاجتماعية، التابع لجامعة زيورخ للعلوم التطبيقية، تنادي بعدم المبالغة في وضع كل مسمى الآن تحت المجهر والتخلص من الماضي وتوضح مريم اسر دافوليو في حوار مع swissinfo.ch أن هذا الجدل حول المسميات اللغوية مهم، لكن لا يمكننا محو كل شيء والانشغال بالقضايا الأقل أهمية في اللحظة الراهنة ” لا ينبغي أن نتشتت عن المشاكل الأساسية في الواقع ، وهي العنصرية المنهجية، على سبيل المثال ، التنميط في جهاز الشرطة والتمييز في سوق العمل والسكن وتهميش الأقليات وكراهية الإسلام أو معاداة السامية واستغلال الدول الأخرى.”.
وفي سؤال مباشر حول الكليشيهات عن صورة العرب في بعض كتب الأطفال مثلا، توضح اسر دافوليو إنه يجب التفريق بين العنصرية وتصنيف الآخر (Othering) والتسمية (labeling) والتمييز الثقافي (culturalistaion) والتمييز (discrimination) في حد ذاته، لو تم التعميم فهذا تنميط . وترى اسر دافوليو أن وجود صور كهذه عن العرب لا تعني أنهم كلهم على هذه الشاكلة”إظهار الاختلافات والتنوع لا يعني العنصرية في حد ذاتها. فقط عندما يرتبط ذلك بتصنيف مثل إعطاء الآخر قيمة أعلى مقابل النقص والحرمان والتمييز، هنا يمكننا التحدث عن العنصرية”.
“العنصرية تبدأ بالقول وتنتهي بالفعل”
في المقابل، يرى أورس أوريشرابط خارجي، المدير التنفيذي لمؤسسة التربية والتسامح في زيورخ أن اللغة هي مرآة الفكر ومحرك السلوك ويؤكد المدير التنفيذي في حوار مع swissinfo.ch على سلطة اللغة وقوتها الوظيفية ويصفها بكائن حي، يتغير دائما “هذه المسميات والصور النمطية يجب مناقشتها لأنها تعكس رؤى الشخص والاعتقاد بأن الاختلاف يعني اختلاف القدرات وهو ما يبرر السلوك التمييزي، حتى النكات البريئة قد تعكس النظرة الفوقية للآخر. المسميات البسيطة تعزز فكرة التصنيف والقبول بتمييز مجموعة معينة من البشر في المجتمع. يتبع هذا القول الفعل، مثل منح صوتي لحزب معين أو التبرع بأموالي لمؤسسة بعينها أو الشراء من محلات محددة”
“اللغة تعكس رؤانا الشخصية وتخلق الأفكار وتجعلها مقبولة في المجتمع وتحرك سلوكنا. هذا الأمر ينعكس بوضوح في إطلاق النكات البريئة على النساء..” أوس اوريش
ويوضح أوريش العلاقة التبادلية بين اللغة التمييزية والسلوك العنصري قائلا: “اللغة تعكس رؤانا الشخصية وتخلق الأفكار وتحرك سلوكنا. هذا مشابه لإطلاق النكات عن النساء، ففي النهاية تدلل على نظرة الشخص للمرأة وتعزز اللغة المواقف المعادية للمرأة وتجعلها فكرة مقبولة داخل المجتمع وتجعل الرجال يفكرون بلا وعي بأنهم أفضل من النساء وبالتالي يستحقون رواتب أعلى في ذات الوظائف. وهو نفس الشيء بالنسبة للعنصرية. بمعنى أن اللغة تعبر عن العنصرية وقد تؤدي إلى العنصرية على أرض الواقع.”.
لذا يشدد أوريش على أهمية التعاطي مع هذه الثنائية: اللغة العنصرية والعنصرية المنهجية: “لا بد من إعادة النظر في المسميات والتنويه إلى الخطأ والتعامل معها بوعي. عندما تبدأ إدارة المدرسة في التدخل بسبب وجود حالات تنمّر وعنصرية، فهذا يعني أنها تأخرت كثيرا وأنها لم تقم بإثارة الموضوع و رفع وعي الطلاب والطالبات قبل فوات الأوان. لذا لا بد من النقاش والتساؤل عن المفردات ومغزاها. في موقعنا على سبيل المثال يوجد قاموس رابط خارجيللمفردات لرفع وعي طلاب وطالبات المدارس”.
ويشدد أورس أوريش على ضرورة التركيز أيضا على التمييز المنهجي في سوق العمل والسكن والنظام التعليمي مع إجراء مراجعات حول المسلمات، ويذهب إلى أن “العنصرية المنهجية هي عندما يمنع كانتون ارتداء الحجاب في المدارس أو أن يمنع نادي كرة اليد ارتداء اللاعبات الحجاب أو عندما لا يحرص مركز لجوء على الالتزام بإجراءات السلامة لمكافحة فيروس كورونا”.
وماذا نفعل بالماضي؟
كيفية التعاطي مع إشكالية العنصرية تزداد تعقيداً عندما يمتد النقاش إلى التاريخ السويسري وكلاسيكيات الأدب والتماثيل المرتبطة بالعنصرية، والتي كانت محل اهتمام وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة بعد انطلاق حركة “حياة السود مهمة” وكأنه تم “إعادة اكتشاف العنصرية، و إن كان الاهتمام بهذه القضية أمر مرحب به للغاية”.” كما ترى الأستاذة الجامعية ميريام اسر دافوليو:
“يبدو وكأن وسائل الإعلام أعادت اكتشاف العنصرية من جديد” ميريام اسر دافوليو
تعارض الأستاذة الجامعية اسر دافوليو بشدة هدم النصب التذكارية وتنادي بتوضيح السياق التاريخي والجدلية المرتبطة بها. في الوقت ذاته تحث دافوليو على تشييد نصب جديدة تناهض العنصرية. هذا الموقف ينطبق أيضاً على الكتب حيث “ستكون خسارة كبيرة ألا يتعرف الأطفال على كلاسيكيات الأدب للكاتب الألماني ميشائل انديه (Michael Ende) على سبيل المثال، يجب أن يتعرفوا عليها وأن يدور نقاش حول المصطلحات والصور التي تمثل إشكالية”. وتنوه إلى عدم وجود دليل علمي على كيفية نشأة الأحكام المسبقة بين الأطفال والمراهقين والمراهقات: بالإضافة إلى كتب الأطفال، ترى الأستاذة الجامعية أن أحد الأسباب الرئيسية هي مشاعر التفوق والهيمنة، التي يتم إيصالها لدى الأطفال وتنشأتهم عليها ، مثلاً، عند التعامل مع طاقم التنظيف أو عند السفر إلى الخارج والتعامل السكان المحليين على أنهم أقل درجة وقيمة.
من جهته، ينصح المدير التنفيذي لمؤسسة التربية والتسامح بعدم إطلاع الأطفال الصغار على هذه الكتب أو روايتها بشكل آخر، حتى يصلوا إلى سن يُمكنهم من النقاش وفهم السياق الذي كُتبت فيه. ويشير أورس أوريش إلى إمكانية إطلاع الأطفال الكبار على هذه الكتب أو التعاطي مع هذه الأغاني وإعادة صياغتها وتغييرها على سبيل المثال. ويلفت أوريش الانتباه إلى أن الأحكام المسبقة تكون أكثر انتشارا بين الطلاب والطالبات في المدارس التي لا يوجد بها مهاجرين ومهاجرات، وأن ظاهرة العنصرية ستبقى في المجتمع، حتى لو لم يكن هناك أشخاص أجانب ” هناك أيضاً أحكام مُسبقة في القرى التي لا يوجد بها أجانب، لكنها تمس في هذا الحالة فئة أخرى، كأطفال الفلاحين والمثليات والمطلقين”.
وتفسر اسر دافوليو هذه الظاهرة بالقول إن “عندما ينمو الطفل وفقًا لنموذج اجتماعي محدد، يتم تقييمه كمعيار مجتمعي، فيصعب قبول الآخر”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.