مُدـن من الشمال والجنوب تتحد في جنيف لأجل البشر وتاريخهم
في الأسبوع الأخير من شهر مارس الماضي، وقعت اثنتي عشرة مدينة في الشمال والجنوب على إعلان جنيف لمجابهة التدمير المتعمد للآثار التاريخية وتحسين سبل حماية الإرث الثقافي وما يرتبط به من مجتمعات. والهدف من ذلك هو ربط المزيد من المدن بهذه الشبكة وسد الثغرات الموجودة في الإتفاقيات القائمة.
“البشر يتحدون سوياً بالدم والدموع، وليس بالأديان”، على حد قول الأب ميخائيل نجيب أثناء مراسم التوقيع على إعلان جنيف في قصر هاينار، الذي يضم بين جنباته بلدية مدينة جنيف.
وبوصفه لاجئا يقدم من مدينة إربيل في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي داخل العراق، فإن القس الكاثوليكي الكلداني يعرف عمّ يتحدث: “أقوم منذ 25 عاماً بإنقاذ الإرث الثقافي، وبذلك إنقاذ البشر أنفسهم. فلا يمكن إنقاذ البشر دون إنقاذ تاريخهم”.
تمكن الأب نجيب من حماية ثمانية آلاف مخطوط من خطر التدمير، يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر، كما استطاع إنقاذ أربعين ألف مستند، منها أوائل الكتب التي تعود إلى حضارة ما بين الرافدين. نجيب، الذي كان يقوم بعمله في البداية في مسقط رأسه بالموصل، استطاع إنقاذ المستندات القيمة من الغضب المدمر لتنظيم “الدولة الإسلامية”، حينما زحفت قوات هذا التنظيم نحو تلك المدينة العراقية في منتصف عام 2014. كانت مغامرة خطيرة، تلك التي قادته نحو إربيل، حيثما واصل عملية الإنقاذ التي بدأها.
هذا الإلتزام النموذجي يمثل نص وروح إعلان جنيف لحقوق الإنسان وللإرث الثقافيرابط خارجي: “فبسبب الأهمية الرمزية الكبيرة للإرث الثقافي ، فإنه وما يرتبط به من معارف وممارسات يصبحون أهدافاً مفضلة في النزاعات الداخلية والدولية. فتدمير هذا الإرث إنما هو بمثابة محاولة لاستهداف أفراد وجماعات، بل شعوب بأكلمها ومراكز هويتها وآثار وجودها”.
هذا ما يؤكده أيضاً رئيس مدينة الموصل، إذ يتذكر زهير محسن الأعرجي الذي قام بالتوقيع على إعلان جنيف، أن “تنظيم الدولة الإسلامية كان يمتلك خطة منهجية لتدمير الإرث التاريخي لمدينة الموصل، حيث كانوا يستهدفون الإرث المعماري في المقام الأول: المساجد والكنائس وكل ما من شأنه إظهار النفوذ الذي كانت تتمتع به تلك المدينة في الماضي”، حسب قوله.
الموصل، تمبكتو، ديار بكر…
فمنذ تحرير المدينة في الصيف الماضي يعمل زهير محسن الأعرجي على إعادة بناء مدينته، بما فيه إرثها التاريخي. فأي أهمية يشكلها إعلان جنيف بالنسبة له؟ “إننا نستفيد من خبرات المدن الأخرى، التي عايشت مثل هذا من قبل، ويمكننا أن نتبادل الحديث مع رؤساء مدن من شتى أنحاء العالم حول هذا الموضوع”، بحسب قوله أثناء مراسم التوقيع.
أما في مدينة تمبكتو بمالي، وهي إحدى المدن التي قامت بالتوقيع على إعلان جنيف، فإن المتشددين الأصوليين التابعين لـ “تنظيم القاعدة ببلاد المغرب” ولحركة “أنصار الدين” قاموا بالاعتداء على أضرحة 333 من أولياء الله الصالحين عام 2012. وقد حكمت المحكمة الجنائية الدولية على أحد قادة الحركتين وهو أحمد الفقي المهديرابط خارجي بالسجن لمدة تسع سنوات، لأنه قام بتدمير الإرث الثقافي. وكانت هي الواقعة الأولى من نوعها في تاريخ القضاء الدولي.
في هذا الإطار، يعرض رئيس تلك المدينة المالية أبو بكرٍ سيسه تقييماً لترميم الأضرحة قائلا: “إن هذه المباني التذكارية هي حياة، إنها الجذور. وإعادة بنائها يعني حياة جديدة”.
“يمكن أن يحدث مثل هذا التدمير كذلك من قِبل دول”، بحسب قول فاطمة سيك، إحدى الموقعين على الإعلان. فهذه السياسية التي كانت تشارك في رئاسة مدينة صُوْر، إحدى بلديات مدينة ديار بكر في الإقليم ذي الأغلبية الكردية جنوب شرق تركيا، قد طُرِدَت من قِبل سلطات أنقرة عام 2016 ومعها عشرات الأكراد الآخرين في أعقاب المعارك التي تجددت بين الجيش التركي ومتمردي حزب العمال الكردستاني. وقد لجأت منذ ذلك الحين إلى سويسرا.
في ساحة الأمم، المُقابلة للمقر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف، حيث دخلت فاطمة سيك منذ التاسع عشر من مارس المنصرم في إضراب عن الطعام رفقة نشطاء أكراد آخرين، احتجاجاً على الإعتداء التركي على مدينة عفرين السورية، تحكي فاطمة أن حوالي مائة مبنى تاريخي قد لحقها الدمار في مدينة صور الكردية، ويوضح معرض رابط خارجيأقيم في جنيف مدى ذلك الدمار.
عموما، تُعتبر آثار الماضي للمجتمعات بمثابة “مصادر هامة تتيح لها التعرف على حقوقها الثقافية وتقوية قدرتها على الإبتكار والمقاومة، وكذلك إجراء الحوار (مع الآخر) برغم الإختلاف، وهذا بمشاركة ذكرياتها مع الآخرين بهدف التعايش المشترك وبناء المستقبل”، بحسب نَص إعلان جنيف.
في السلم والحرب
يظهر التحدي في الدول السلمية كذلك، مثلما يشرح كاتب الإعلان: “إن الدمار سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، لهو نتيجة لسياسة تنموية غير مستدامة، لا تراعي لا طموحات الفرد ولا حقوقه الإنسانية”.
لذلك فإن المدن التي قامت بالتوقيع على الإعلان، سواء كانت من مدن الشمال (وهي جنيف وستراسبورغ ولوند بالسويد وفيينا بالنمسا) أو من مدن الجنوب، تنظر لنفسها ولغيرها من المدن المشاركة على اعتبار أنهم شركاء متساوون في الحقوق. أما الوصاية التي تنشأ في بعض الأحيان من خلال إجراءات حماية الإرث الثقافي وعن طريق الإتفاقيات الدولية، فيجب تجنبها.
هذه هي على أية حال أمنية الأب الروحي للمبادرة وهو رئيس مدينة جنيف رايمي باغانيرابط خارجي، ويضم زيد رعد الحسين، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، صوته لهذه الروح، مُحيّيا “هذا النهج التجديدي” للمبادرة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.