“السّمندل” و”توك توك”.. نافذة على الكوميكس العربي
كان للقصص المصورة العربية حضور قوي في الدورة الأخيرة من مهرجان "فوميتّو" الدولي للفن التاسع بسويسرا. الجمهور اكتشف أعمالا جريئة ومدهشة ومتعددة الأساليب لـ 22 فنانا من ستة بلدان. swissinfo.ch التقت بوجهين بارزين من الجيل الجديد لكوميكس الكبار: لينا مرهج من لبنان، ومحمد شناوي من مصر.
عيناهما زرقاوتان، وجهُهما بشوش، روحهما مرحة، ولسانهما متعدد اللغات. الفن التاسع يجري في عروقهما. يتحدثان عنه بحماسة وشغف، ويؤمنان بوظيفته التوثيقية للتجارب الحياتية. يعشقان منذ نعومة أظافرهما القصص المُصورة التي باتت تُـعرفُ أكثر فأكثر في الوطن العربي بمصطلح “الكوميكس”، ولئن كان هذا الفن لا يحظى بعدُ بشعبية كبيرة، أو هو يفتقر بالأحرى للدعم المادي الكافي، وقنوات التوسيع الضرورية لتشجيعه ونشره في المنطقة.
لينا مرهج (35 عاما)، مصممة الغرافيك والرسامة التوضيحية، ومحمد شناوي (34 عاما)، مصمم الغرافيك والرسام الحر، باتا اسمين معروفين في عالم القصص المُصورة للبالغين لمشاركتهما، كلٌّ في بلاده، في تأسيس مجلتـين تستأثران أكثر فأكثر باهتمام الجمهور الواسع، وتكتسبان اعترافا متزايدا من طرف الهواة والمختصين لجرأة وتنوع وجودة محتواهما، وهما “السمندل” التي تصدر منذ 2007 ببيروت بالعربية والفرنسية والإنجليزية، و”توك توك”، التي تصدر بالعامية المصرية، والتي نُشر أول عدد منها في القاهرة قبل أيام قليلة من ثورة 25 يناير 2011. وشاءت الصدف أن تشارك في هذا العدد الأول الرسامة التوضيحية السويسرية كاتارينا كرايل التي كانت في زيارة للقاهرة.
تقول لينا مرهج: “الكوميكس العربي معروف أكثر اليوم في أوروبا لأنها احتضنت خلال السنتين الماضيتين العديد من المهرجانات التي اهتمت بجمع أعمال فنانين عرب تتناول مواضيع مختلفة، بحيث لم تقتصر على ثورات [الربيع العربي] والحروب، وهو ما يثري هذا النوع من المعارض المتكاملة الذي نتمنى أن ينتقل إلى بلداننا العربية”.
ومن الأخصائيين الأوروبيين القلائل الذين بحثوا عن رسامي الكوميكس العرب وذهبوا للقائهم وسبر أغوار عوالمهم، المُستعربة الإيطالية أنّا غاباي، من الفريق المسؤول عن معرض “الكوميكس العربي” الذي حلّ بلوتسرن قادما من ألمانيا.
الثورات أبرزت الفنون البصرية
غاباي، التي أعدت أطروحة الماجستير حول مجلة “السمندل” عام 2010، تـُـذكر بأن الأحداث التي شهدها العالم منذ 11 سبتمبر 2001 غيّرت نظرة الغرب للوطن العربي بما رافق ذلك من صدام حضارات وسوء فهم، ثم “جاءت الثورات لتسلّط الضوء على العالم العربي، والكوميكس جزء من هذا العالم (…) وفجأة اكتشف الغرب أن العرب ليسوا فقط [تنظيم] القاعدة إن جاز التعبير، فأصبح هناك وعي جديد بما يحدث في المنطقة وما تزخر به من إنتاجات ثقافية”.
وقد فجّرت الثورات العربية فعلا الطاقات الإبداعية للفنانين والمواطنين عموما، كما تجلى من رسومات الغرافيتي على جدران وطرقات البلدان المنتفضة، أو على اللافتات التي حملها المتظاهرون في ميدان التحرير مثلا.
من جانبه، يقول شناوي ضمن السياق نفسه: “بعد 25 يناير، زادت أهمية العلامات البصرية، حتى عامة الناس لجأت للرسم للتّعبير عما بداخلها وإيصال رسائلها، وبدأت تتابع بشكل كبير أشرطة الفيديو والرسومات والصور التي تُنشر على فيسبوك وتويتر”، مضيفا أن رسامي الكوميس استفادوا من التفاتة العالم إلى منطقة كانت منسية، ما سرّع أيضا وتيرة انتشار الفن التاسع بين البالغين في البلدان العربية بعد أن كان يعتبر مجرد تسلية للأطفال.
كمعظم أطفال عقد السبعينات، قرأت لينا مرهج ومحمد شناوي مجلات الأطفال العربية مثل “ميكي” و”سندباد” و”سمير” و”ماجد”، وتأثرا بما تضمنته من رسومات لفنانين مشهورين مثل رسام الكاريكاتور المصري حجازي (1936-2011)، ومن ترجمات للشخصيات الأمريكية الخارقة مثل “سوبرمان”، و”باتمان” و”سبايدرمان”.
كما تعرفا على المدرستين الفرنسية والبلجيكية من خلال قصص “تان تان” و”أستيريكس” و”سبيرو”، دون إغفال مدرسة المانغا اليابانية.
عندما ذهبت لينا مرهج إلى الولايات المتحدة بغرض الدراسة عام 2001، اكتشفت فنانين “أندرغراوند” مثل الكندية جولي دوسي، والأمريكي كريس وير. أما شناوي الذي تأثر بالمدرسة البلجيكية في عمله من حيث كتابة السيناريو والرسم، فاعجب عندما تحسن فهمه للغة الفرنسية بالجيل الجديد في فرنسا مثل بلوتش ونيكولا دوكريسي.
تربط لينا مرهج ومحمد شناوي صداقة فنية بحيث أصبحت مجلتا “السمندل” و”توك توك” تتعاونان على مستوى تبادل الخبرات والأفكار.
السمندل.. تنقّـل مستمر بين عالمين
كان إنتاج القصص المصورة حلما تمسّكت به الفنانة اللبنانية الألمانية لينا مرهج منذ أن كانت طفلة عايشت ويلات الحرب الأهلية في بيروت. وحققته عام 2007 بمشاركتها في تأسيس مجلة “السمندل” ثلاثية اللغات للجمهور فوق سن 18 سنة، رفقة خمسة أصدقاء (في بداية المغامرة) يعتبرون من كبار الفنانين في البلاد، من بينهم عمر خوري وحاتم إمام وطارق نبعة. ومن ألمع الأسماء اللبنانية التي تساهم بانتظام في المجلة الرسام وعازف البوق مازن كرباج.
التسمية ليست عشوائية. فالسمندل حيوان برمائي يعيش بين البحر والجبل، وهو بالتالي يتنقل باستمرار بين عالمين، ومجلة السمندل تعيش أيضا بين عالمين، “بين النص والصورة، بين الفنون الجميلة والفن الشعبي، بين التقليدي والتجريبي”. فريق المجلة اختار عبارة “قصص مصورة من هنا وهناك” شعارا للمجلة لخرق الحدود الجغرافية واللغوية واحتضان أساليب رسم متنوعة تمزج بين السخرية والشاعرية، وتتناول مواضيع اجتماعية بشتى محاورها، ديني، وسياسي، وجنسي، إلخ، مع جرعة موزونة من الرقابة الذاتية. وبعد أن وزعت 500 نسخة من عددها الأول بالمجان، باتت تنشُر اليوم 2000 نسخة كل ثلاثة أشهر بسعر 2,50 يورو. كما تتيح أعدادَها على موقعها الإلكتروني للوصول إلى أكبر عدد من القراء.
أبواب المجلة مفتوحة أيضا للمواهب غير العربية لإثراء التجارب وتبادل الخبرات شرط الإيفاء بمعايير الجودة والإبداع التي يعتمدها فريق التحرير. ومن أولى الأسماء الغربية التي تعاونت معها فلاب من البرازيل وأندي وارنر من الولايات الأمريكية، أو المجلة البلجيكية “لومبلوايي دو موا” (L’employé du moi). وتقول لينا بلكنتها اللبنانية الجميلة: “السمندل فيها شغل حلو نقراها وننبسط فيها”.
وإن كان الجانب السياسي حاضرا بقوة في رسوم السمندل بحكم ماضي البلاد وحاضرها، فإن الحرب ومآسيها ليست الموضوع المهيمن على المجلة، إذ تقول لينا: من “المُضحك أننا أصبحنا نرفض حتى الكتابة عن الحرب لأننا سئمنا، لم نعد نريد ذلك بل نرغب في العمل على الإبداع والتركيز على إمكانياتنا، وكيفية التعبير عن أفكارنا لخلق قصص جديدة واستخدام تقنيات جديدة لسرد القصص بالصورة والكلمة”. هذا السرد الذي تفضل لينا تسميته بالـ “الفن التسلسلي” بدل “الكوميكس”.
المزيد
لوتسرن تحتفي بالرسم الكاريكاتوري
“توك توك” وزحمة شوارع القاهرة
محمد شناوي الذي لا يُخف انبهاره بتجربة السمندل، لا يُـحبّـذ أيضا تسمية “الكوميكس” بل يُفضل الحديث عن فن “القصص المصورة”. ومجلة “توك توك” التي أسسها رفقة مجموعة من رسامي الكاريكاتور المصريين تُعرّف نفسها بـ “محطة القصص المصورة!”. وكُتـب بوضوح على غلافها بأنها يجب أن “تُحفظ بعيدا عن مُتناول الأطفال”… مثل الأدوية تماما لِما تقترحه من محتويات “قد لا تناسب عقلية الأطفال” مثلما يشرح شناوي.
وتوك توك بالفعل تصور للقارئ أشياء “مُقرفة” لكن واقعية، من الصعب الحديث عنها أو إظهارها بوسيلة أخرى غير الرسم، كمراحيض تفيض بالبراز مثلا. كما قد تصدم بجرأتها لدى عرضها لقذارة الأزقة، أو لأسلوب معاملة المصريين لبعضهم البعض في الشارع وفي العمل، أو للتحرش الجنسي الذي تتعرض له الفتيات…
وبخفة الدم المصرية المعهودة، يحكي كيف خطرت عليه فكرة “توك توك” قائلا: “التوك توك [المركبة النارية ذات ثلاث عجلات] نوع عملي جدا من وسائل المواصلات (…) لأنه يصل إلى شوارع ضيقة في ضواحي القاهرة الزحمة بالذات، ولكنه قد يخلق بعض المشاكل [في حركة المرور] والمجلة، كالتوك توك، مفيدة لأنها تُسعد الناس، ولكنها قد تحدث بعض المشاكل بلهجتها الساخرة”.
الطابع الساخر هو القاسم المشترك بينه وزملائه في المجلة: هشام رحمة، وأنديل ومخلوف، وتوفيق. ويقول شناوي: “الجميل في فريق التحرير أن كل واحد منا بنى أسلوبه في الرسم والحكي والسخرية لوحده، فكل واحد منا تأثر برسامين أو مدرسة معينة، وهذه “الخلطة” تناسقت تماما وهي من بين الأسباب التي جعلتنا نحظى بقبول الناس، لاسيّما أن الضحك والهزار من سمات المصريين عموما والأسلوب الساخر يساعدنا على إيصال الرسائل والمعلومات”.
القراء يميلون أيضا لممارسة الرقابة!
توك توك تحاول كسر المحرمات، ولكن مُبدعيها يدركون أين رُسمت الحدود لا سيما عندما يتعلق الأمر بالشأنين الديني والجنسي، فبعض المواضيع قد تمر بسلام وبعضها الآخر يحدث ردود فعل متباينة. يحكي الشناوي قائلا: “اكتشفنا أن القراء هم الذين يمارسون رقابة ذاتية، أحيانا نتوصل برسائل إلكترونية من بنات وأولاد يصفون عملنا بـ “عيب” ويقولون لنا “اختشوا”، بينما يبدي البعض الآخر إعجابه بالمجلة لأن أحداثها لا تدور في عالم خيالي، بل تعكس الواقع. (…) ونحن بمنعى أصح لا نريد أن نضحك على أنفسنا”.
شناوي وأصدقاؤه يؤمنون بضرورة مراجعة “المجتمع المصري الجميل لنفسه”. فهو معتز بالشعب الذي ينتمي إليه ويعي إيجابياته وسلبياته، ولكن التركيز على “الأشياء الحلوة” فقط لا يوصل الرسالة حسب اعتقاده، إذ يقول: “العكس هو الصحيح للأسف، فيمكن أن يكون الشخص يعيش في أكذوبة كبيرة ولا يدرك ذلك تماما إلى أن يأتي شخص آخر يصدمه بها”.
على غرار “السمندل”، أصدرت توك توك 500 نسخة من عددها الأول بالإمكانيات الخاصة للفريق المؤسس، ثم أصبحت تحظى بدعم الاتحاد الأوروبي في القاهرة ليصل عدد نسخها إلى 2000 بسعر 10 جنيهات (ما يزيد بقليل عن يورو واحد) يوزعها شناوي بنفسه على المكتبات. وتتيح توك توك أيضا أعدادها التي أوشكت على النفاذ من نقاط البيع على الإنترنت، كما تفكر في تطوير تطبيقات على الهواتف واللوحات الذكية لما تلقاه من إقبال خارج البلاد أيضا. ما يدفع كلا من لينا ومحمد للاعتقاد بأنه يمكن بالفعل القول أن الكوميكس العربي يعيش ربيعه أيضا!
تواصلت الدورة 21 من مهرجان فوميتو الدولي للقصص المصورة بمدينة لوتسرن السويسرية من 16 إلى 24 مارس 2013.
خصص المهرجان معرضا بعنوان “الكوميكس العربي” للتعريف بهذا الفن الذي أثار اهتمام الغرب بشكل ملفت منذ اندلاع الثورات العربية قبل عامين.
الدول والأسماء التي مثلت المنطقة العربية في فوميتو هي:
من مصر: شناوي، ومخلوف، وهشام رحمة، وأنديل، وتوفيق (من مجلة توك توك)، وعبد الله، وأنور، وحفناوي.
من لبنان: لينا مهرج، وبراق ريما، وزينا أبي راشد، ومازن كرباج، وجورج أبو مهايا، وجنى طرابلسي، ولاميا زياده. وجميعهم تقريبا يتعاون مع مجلة السمندل.
من ليبيا: مجدي الشافعي، صاحب “مترو” أشهر مجلة كوميكس عربية للكبار في أوروبا، والتي انطلقت في عهد مبارك. وأصبحت تترجم للألمانية منذ العام الماضي.
من الأردن: حسن مناصرة، وخالد صدقة.
من الجزائر: نوال الوراد وريم مختاري.
من المغرب: ابراهيم الرايس، وعبد العزيز مريد الذي اشتهر بتصويره لألبوم “الخبز الحافي” (اقتباس لرواية الأديب المغربي محمد شكري).
من الصعب إيجاد مادة وفيرة عن تطور الفن التاسع في العالم العربي. وحسب أبحاث الاخصائية الإيطالية أنا غاباي، من الفريق المسؤول عن معرض “الكوميكس العربي” بمهرجان لوتسرن، تطورت القصص المصورة في البلدان العربية خلال ثلاثينات القرن الماضي، على شكل ألبومات إنجليزية أو فرنسية.
وخلال عقد الخمسينات، تم رسم وكتابة ونشر قصص بالعربية، بهدف الإسهام في بناء الهويات الوطنية في فترة الاستقلال.
كان لمجلة ميكي ماوس الأمريكية نسختها المصرية التي كانت تدور أحداثها في شوارع القاهرة.
وفي لبنان، تمت ترجمة مغامرات سوبرمان إلى العربية وبيعت إلى كافة الدول العربية.
وكانت تلك القصص المصورة التجارية ترفق برسوم سياسية أو تاريخية من تصميم فنانين مثل الرسام الجزائري سليم أو رسام الكاريكاتور السوري علي فرزات.
القصص المصورة في العالم العربية تعتبر إلى حد كبير كقراءات للأطفال، ولكن خلال السنوات العشر الماضية، ظهر عدد متزايد من القصص للبالغين، وخاصة في الجزائر ومصر ولبنان.
من أشهر القصص المصورة للكبار مجلة “مترو” لمجدي الشافعي التي تدور احداثها في عهد مبارك وتحكي عن مشاعر الاحباط لدى الشعب المصري.
في لبنان، تنشر مجلات كوميكس للراشدين منذ الثمانينات. وبعد فترة انقطاع ظهرت مجلة السمندل عام 2007، ثم مجلة La Revue des Glandeurs. وفي تونس، ألهمت أحداث ثورة الياسمين الرسامة ناديا خياري لابتكار “ويلي فروم تونيس” (Willy From Tunis) على فيسبوك وهو شخصية يتقمصها قط يروي تطورات الأحداث في تونس.
ومن مجلات الكوميكس للكبار التي ظهرت في الآونة الأخيرة بمصر، “خارج السيطرة”، “انا وانا”، “18 يوم”.
وللتعريف أكثر بالكوميكس العربي، طورت مجلة توك توك منذ سنة مشروع ملحق بعنوان “الفن التاسع” يتضمن 8 صفحات لنشر القصص المصورة في الوطن العربي وإقامة التواصل بين القاهرة وبيروت والمغرب العربي، ونشر معلومات لها علاقة بالمهرجانات والمطبوعات التي تتحدث عن العالم العربي أو مهرجانات تشتضيف فنانين عرب.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.