مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“تحت ظلال الأهرامات”.. عندما يلتقي الشرق بالغرب

الأهرامات في مصر
يعرض 23 مبدعا سويسريا أعمالهم في بيت أوري للفنون بمدينة ألتدورف بعنوان "تحت ظلال الأهرامات"، وهي أعمال أنجزت ضمن ورشة فنية نظمها فرع بروهيلفيسيا بالقاهرة. Ricardo Liberato

طيلة شهرين تقريبا، يحتضن بيت أوري للفنون بمدينة ألتدورف (كانتون أوري) معرضا جماعيا "تحت ظلال الأهرامات"، يشتمل على أعمال 23 فنانا سويسريا، شاركوا في ورشة فنية نظّمتها مؤسسة بروهيلفيسيا بالقاهرة، وانصبت على تصوير تعقيدات الحياة القاهرية، وسماتها الثقافية العربية والشرقية.

هذه اللوحات الفنية التي تختلف في مقارباتها جاءت بتوقيع رسامين ومبدعين سويسريين أقاموا خلال السنوات العشرين الأخيرة في العاصمة المصرية، أكبر مدينة في إفريقيا والشرق الأوسط، وحاضرة الثقافة والفنون العربية.

ويأتي تنظيم هذا المعرض بحسب بربارا تسوكر، مديرة بيت الفنون بمدينة أوري، وهي من المناطق السياحية المتميزة بسويسرا، في لحظة مناسبة للغاية “لكي يلطف من تأثير المشاعر السلبية تجاه العرب والمسلمين، وعشية التصويت على مبادرة حظر المآذن المثيرة للجدل”، لكننا، أردنا أيضا، تضيف السيدة تسوكر: “من خلال هذا التظاهرة حول القاهرة الإعتراف بالجميل لرجل الأعمال المصري سميح ساويرس، والذي تحول – من خلال مشروعه السياحي العظيم في (منتجع) أندرمات – تحوّل في أعين أبناء هذه المنطقة إلى بطل من أبطال أسطورة ألف ليلة وليلة، وأصبح كطائر “المينرفا” والمنقذ الفذ لاقتصاد ومستقبل هذه المنطقة”.

أما بالنسبة للدكتورة هبة الشريف، مديرة فرع المؤسسة الثقافية السويسرية “بروهلفتسيا” بالشرق الأوسط، ومقره القاهرة “يقدم هذا المعرض دليلا واضحا على نجاح تجربة التبادل الثقافي بين سويسرا والعالم العربي، هذه التجربة التي ترعاها منذ عقود المؤسسة الثقافية السويسرية”.

وعما إذ كان هذا المعرض يأتي تكريما لمصر أم للفنانين السويسريين الذين اقاموا فيها لفترات مختلفة، تجيب ماريان بوركي، المسؤولة عن قسم الفنون المرئية بالمؤسسة الثقافية السويسرية: “لا اعتقد ان المعرض يقدم مصر، بل يقدم نظرة سويسرية حول مصر، والقاهرة تحديدا، ورغم أنني لا اعرف جيدا هذا البلد، لكنني أعتقد ان هؤلاء الفنانين قد تأثروا إلى حد كبير بما عاشوه فيها، ولهم شعور قوي بخصائص هذا البلد، والإختلافات التي تفصله عن سويسرا”.

أما على المستوى الفردي لكل فنان مشارك في هذا المعرض، تقول ماريان بوركي: “القاهرة اصبحت اليوم جزءً لا يتجزأ من حياة هؤلاء، ولاشك أن هذه التجربة ستثري تجاربهم الشخصية وستترك أثرها على أعمالهم اللاحقة”.

رحلة السندباد

احتفظت القاهرة عبر العصور المتتالية بقوة جذب لعشاق الشرق، قدامى ومحدثين، فقبل السفر تشد أنظارهم المزايا السياحية، وبعد السفر تأسرهم أسرار الأحياء القديمة، ومنعطفات الحياة المصرية، التي لا تخلو من المفارقات الصارخة: ظلمة ونور، فقر وغنى، حب وكره،..

وعادة ما تتولد عن الصدمة التي تخلقها هذه المفارقات لدى المبدع الغربي أعمال فنية في غاية الروعة والطرافة والجمال، ومنها مثلا فيلم “القاهرة”، للسويسري كريستوف أورتيلّي والمصري أحمد الساوي، برعاية وتمويل من بروهلفتسيا القاهرة، وهو عمل ذو طابع سريالي “يلتقي فيه الواقع الخارجي، بالشعور النفسي الداخلي، ولم نكتفي فيه بالملاحظة فقط”، كما يقول السيد أورتيلي.

أما الفيلم في حد ذاته فهو نوع من رحلة حزينة عبر العالم العربي المعاصر، تتراوح المشاهد فيه بين الحياة في المدن، والحياة في القرى والأرياف، وبين صمت الصحراء، وضجيج المدن الكبرى، كل ذلك على إيقاع عزف موسيقي لأحمد الساوي، مرفوقا بقصائد شعرية حزينة ترثي ضياع الأوطان، واندثار القيم، ودمار بغداد، والأمل في غد أفضل تتغيّر فيه تلك الأوضاع.

الإهتمام بالهوامش

بعيدا عن السياسة، وانشغالاتها، وبدل الإهتمام بتصوير المعالم الكبرى في العاصمة المصرية، كالمآذن الشاهقة، والأهرامات العالية، أفرد دافيد آيبي وقته وجهد لتصوير “أبراج الحمام”، والتي لها حضورها القوي في الثقافة التقليدية المصرية، لكنها تعاني هذه الأيام من الإهمال، برغم اجتهاد السكان المجاورين لها في تزيينها، كل بحسب ذوقه، مرة بعلامة أشهر شركات الملابس الرياضية، أو بالألوان والأشكال التي تعكس حضارة مصر الفرعونية القديمة.

ورغم أن هذه الأبراج لا تبدو إلا باللونين الأبيض والاسود، ولا تظهر زرقة السماء من فوقها، فان المصوّر السويسري مع ذلك يحاول جسر الهوة القائمة بين هذه البنايات القديمة ومحيطها من خلال صور الحمام الوديع، والسواتل البيضاء الملتقطة للقنوات التلفزيونية الفضائية.

وإذا كان الجزء الأكبر من أعمال هذا المصوّر السويسري قد انصب على المعالم المعمارية، فانه لم يغفل الإنسان المصري، وخلال إقامته بالقاهرة لسنوات عدة أصبح آيبي معروفا ومألوفا لدى أبناء البلد، وشغل نفسه بتوثيق حياتهم اليومية، وسعيهم الدؤوب في حركة لا تتوقف إلا لتستأنف دورتها من جديد، وكانت أعماله عبارة عن انتقال مستمر بين الماضي والحاضر، كما هي حياة المصريين عموما.. تردد متواصل بين إكراهات الدولة وجهازها، وفتنة الحرية وضريبتها.

صعوبة الإنفكاك

تختلف ردود افعال البشر عامة، والمبدعون منهم خاصة عندما يجدون أنفسهم في مواجهة وقائع وأنماط حياة لم يألفوها من قبل، وفي حين يختار البعض منهم قبول هذه الظواهر والتسليم بها، وفهمها والتعامل معها في إطارها التاريخي والثقافي، يفضّل البعض الآخر أسلوب الإسقاط الحضاري، ومنطق الإستعلاء الثقافي.

هذا البعد حاضر بشكل جلي في بعض الأعمال المعروضة حاليا في بيت الثقافة بمدينة أوري في إطار معرض “تحت ظل الإهرامات”، وبالتحديد في الأعمال التي اهتمت بتصوير حياة المرأة المصرية، كالمصوّرة السويسرية مريم أرنولاس، التي اشتغلت من خلال لوحات عديدة لعلى حضور المرأة في الشارع المصري، صور توحي كلها بأن المرأة كائن تابع للرجل، كل اهميته تكمن في الجسد، الذي تلفه عباءة طويلة وبرقع أسود، لا يظهر من كيانها حتى الاعين، مما يجعل تواصلها مع المجتمع منعدما، وكما يحجب جسدها عن الانظار، يحجبها عن اأداء دورها ورسالتها في المجتمع.

هذه المقاربة التي لا تبعد كثيرا عما ألفناه من الإستشراق، تؤكد بحسب الدكتورة هبة شريف الواقع بان “بعض الفنانين السويسريين المشاركين في هذا المعرض قد بقوا عند السطح، وظلوا ضحايا الإكليشيهات، واعادوا انتاجها، ونأمل أنه بزيادة عدد الفنانين السويسريين القادمين إلى العالم العربي، والعكس ايضا، عدد الفنانين العرب القادمين إلى سويسرا، أن تهتز هذه الأفكار المسبقة، وان يبدأ الفنان الغربي مشوار مساءلة الأفكار المسبقة التي تعشش في لاشعوره”. هذه المراجعة من الأهمية والعمق، ولذلك تتطلب وقتا طويلا بعض الشيء، وهو ما لم يتوفّر لبعض الرسامين المشاركين بأعمالهم في هذه التظاهرة، لانهم لم يقضوا اكثر من بضعة اشهر في القاهرة.

لا يبدو كلام الدكتورة شريف بعيدا كثيرا عن الواقع، فقد تحدثت باسكال فافر، إحدى الرسامات السويسريات اللواتي أقمن في القاهرة لمدة طويلة عن تجربتها إلى swissinfo.ch قائلة: “كان لا يمر يوم دون أن تتزحزح شيء ما النظرة التي ورثناها في سويسرا عن هذه المجتمعات، وكانت الأفكار المسبقة التي سبق أن حملتها عن الإسلام والثقافة العربية تتساقط مع الأيام، كالورق البالي”.

رغبة في التواصل أم هروب من الذات؟

من خلال الحديث إلى ممثلي بروهيلفيسيا في القاهرة وفي زيورخ، يتبيّن بأن هذه المؤسسة لا تجد أي صعوبة في تعبئة الفنانين السويسريين والعرب في هذا التبادل الثقافي والإجتماعي بين سويسرا والعالم العربي، ويفضّل الفنان السويسري السفر إلى القاهرة، أو الأردن، ولبنان، بدلا من برلين، وباريس، وذلك بحثا عن الجديد والطريف، عن أنماط غير معهودة من الرؤية للحياة ومن انماط العيش، وهي محددات ضرورية لإثراء تجربة المبدع وتحفيزه إلى مزيد من العمل والإبتكار.

وتقول ماريان بوركي عن دوافع هذا الإقبال الشديد للسويسريين على الإقامة في القاهرة: “يريد الفنانون السويسريون أن يجرّبوا واقعا يفرض عليهم مساءلة الأفكار التي يحملون والتصوّرات التي يعتقدون، وكل من ذهب إلى القاهرة، وجد نفسه مضطرا إلى مراجعة الذات، ومساءلة الصورة التي يحملها عن الشرق والثقافة العربية”.

أما عن تجربتها الشخصية، فتقول السيدة بوركي المسؤولة بالمؤسسة الثقافية السويسرية: “عندما حللت لأوّل مرة بالقاهرة، حدث تغيّر كبير في رؤيتي للأشياء، ولاحظت حركة وضوضاء شديدين، وشعرت بأن الحاضر والماضي عصران متزامنين في القاهرة، لقد كانت تجربة جيّدة وثرية ومثمرة”.

لكن إيناس الصديق، وهي فنانة مصرية مقيمة بزيورخ ضمن برنامج بروهلفتسيا، والتي زارت المعرض، تقول: “لقد وجدت في تجربة هؤلاء الفنانين شيئا مختلفا عن نظرائهم السويسريين الذين لم يسافروا إلى مصر، ولم يتعرفوا إلى تجارب الشعوب الأخرى. لو بقي هؤلاء في سويسرا، ما كانوا ليُبدعوا أعمالا مثل هذه، وما كانوا ليجدوا موضوعات لأعمالهم، فالنظام أمّم كل شيء في حياتهم، وأفرغ أفئدتهم من الداخل، لكن لما يذهبون إلى بلدان اخرى، يتغيّر نمط رؤيتهم للأشياء”.

وإذا كان هذا القول على درجة كبيرة من الصحة، ألا يمكن – في المقابل – أن يكون الفنان العربي أيضا بحاجة للتعرف على النمط الإجتماعي الغربي، وأن يستلهم منه بعض القيم المدنية التي لو شاع العمل بها في البلدان العربية لتغيرت الأوضاع فيها شيئا ما!

أنشات بروهلفتسيا مجلس الثقافة السويسرية، سنة 1939، من أجل تشجيع ودعم واشعاع الثقافة السويسرية في الداخل والخارج، وتنشط في العديد من البلدان الأوروبية والشرق أوسطية من خلال شبكة من الفروع.

ومنذ سنة 1988، أنشأت بروهلفتسيا فرعا لها في القاهرة، انصبت جهوده على تمويل والإشراف على المشاريع الثقافية المشتركة بين سويسرا من ناحية، وبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من ناحية أخرى. ومنذ تأسيس هذا الفرع، جعل من اولوياته تعزيز ثقافة الحوار، وتبادل المعارف والتجارب، ودعم المشروعات التي تتميّز بالجودة والطرافة.

لقد نجح فرع بروهلفتسيا بالقاهرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة في تنشيط التعاون الثقافي بين سويسرا وبلدان مثل لبنان، والأردن، وتونس، وتركيا وإيران، كما نسج شبكة من علاقات التعاون مع مؤسسات ثقافية بالمنطقة على أساس من الشراكة والتعاون الفني عالي المستوى.

تحوّل هذا الفرع في السنوات الأخير إلى إطار مناسب للتواصل وتبادل التجارب بين عدد كبير من الفنانين والرسامين والمسرحيين السويسريين ونظرائهم في العديد من البلدان العربية خاصة من المصريين، وقد استفاد من هذا البرنامج اكثر من 180 فنان سويسري، وأقل من ذلك بقليل من المصريين وموّلت مؤسسة بروهلفتسيا فترات إقامة لهؤلاء عادة ما تمتد لثلاثة أشهر، وتمخّضت عن هذه التجربة العديد من الأعمال الفنية المشتركة، وسمحت في نفس الوقت، بتسهيل وصول بعض هذه الأعمال إلى الجمهور في البلديْن على السواء.

من بين نتائج هذا التعاون المعرض الفني الكبير الذي ينظّمه هذه الأيام متحف أوري هوس فوركونست، بأولتدورف، وفيه يتم عرض أعمال 23 فنان سويسري، أنجزوا أعمالهم من خلال تواصلهم مع الشرق. عنوان المعرض “في ظلال الإهرامات”. ويتركّز عمل كل فنان من هؤلاء على جانب من جوانب الحياة في مدينة القاهرة، هذه المدينة التي يكاد يصل عدد سكانها إلى 16 مليون ساكن، أي ما يوازي مرّتيْن عدد سكان سويسرا.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية