مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

علي الشلاه: “الاندماج كلمة خطيرة لا أحبِّـذ استخدامها..”

swissinfo.ch

كانت سنوات عُـمر علي شلاه مُـزدحمة بالحروب وبالكوارث، ودفع مع أبناء جيله ضريبة باهظة بسبب حماقات النظام العراقي السابق.

وقبل أن يطبّـق الحصار على بلاده بداية التسعينات، امتطى هذا الشاعر العراقي “صهوة الرحيل، هروبا من الاستبداد الذي يحد من الإبداع ويحوّل المثقف إلى طَـبل أجوف في جوقة طبّـالين عميان”.

على الرغم من اندماج على الشلاه في المشهد الثقافي والمؤسساتي في زيورخ، حيث يرأس منذ أكثر من عقد ونصف مركزا ثقافيا ويُـشرف على مهرجان عالمي للشعر العربي، فإنه لا يزال يصرّف الزمان بساعة عراقية ويضبط الاتجاه ببَـوصلة بابـلية.

ويقول عن نفسه: “لا زلت أحمل أشواقا عراقية وأتدثر بدفء الروح الشرقية، وهي تكبُـر وتنمو داخلي مع مرور السنوات. فهي ليست صفة طارئة من السهل التخلّـص منها، إنها هوية عراقية مخلوطة بحزن تموزي كربلائي”.

الإبداع والحرية صنوان

ونصوص هذا الشاعر مدجّـجة بالمعاني، كما تكون الجيوش مدجّـجة بالسلاح، ويفضّل لُـغة الأنبياء على لغة اللّـصوص، ويقول منتقدا الذين خانوا قُـدسية الكلمة في إحدى قصائده:

من ترى… يهزم اليوم جيش النصوص
فالتواريخ كاذبة… واللغات مدجّـجة باللصوص

وما أكثرها هذه النصوص في التجربة العربية: “بعد الانكسارات والهزائم، وبعد الحروب المتلاحقة، حيث وجد الإنسان العربي نفسه مُـساقا إلى فهم الأشياء بشكل مغلوط، وإلى تسمية الوقائع بغير أسمائها الحقيقية، ولم تزيّـف المفاهيم السياسية فقط، بل انكَـسرت المنظُـومة الأخلاقية بأكملها”.

ولإصلاح ذلك، يدعو محاورنا “إلى القيام بمراجعات كبرى، بحيث لا نصدّق أن الذي حدث سنة 1948 هو مجرّد نَـكبة مَـثلا، إنما هي هزيمة كبرى، وأن الأمر يتجاوز مجرّد النّـكبة، وإلا لماذا كل هذا الانهيار، ولماذا ضاعت ثلاث أرباع فلسطين؟”.

وعن المرحلة الحالية، يقول الشاعر: “نمر اليوم باختبار عسير، وعلينا الاعتراف بهزيمة، ليس فقط المشروع السياسي العربي، وإنما أيضا المشروع الثقافي، إذ لم يثبت المثقف في مجتمعنا أنه أكثر قدرة على استيعاب الأحداث وعلى تحديد المفاهيم الرئيسية في الصِّـراع الحضاري”.

الشعر والمرأة

وعن منزلَـة الشعر في الثقافة العربية، يقول علي الشلاه: “من حُـسن الحظ أننا أمة لا تزال تحتفي بفن الشعر، وعند العرب الشاعر أرفع منزِلة من الكاتب، ورسالته أشبه ما يكون بمهمّـة الرسول، دون أن ينقص منها شيئا”.

ولا غرابة، “فأمّـة العرب أمّـة صحراوية، والشاعر لا يحتاج لكي ينشد شِـعرا إلى جمهور أو إلى رُكح، كما هو الحال بالنسبة إلى فنون أخرى كالسينما والمسرح”.

والنص الذي ينسج خيوطه هذا الشاعر العراقي نصّ تواصُـلي، يرفض الإيغال في الرمزية ويُـزاوج بين الجمالية والتبليغ.

ورغم حمولة الغضب الهادر والثورة الجارفة على الواقع المتردّي، لم يغفل نصّـه الأذناب الثلاث في العملية الإبداعية، وفي مقدمتها صورة المرأة: “لا بمعنى الجِـنس، ولكن بمعنى الجمال في مفهومه المطلق”.

ويضيف: “في تجربتي الشعرية، لم أجعل المرأة المعادل الموضوعي للأنوثة، وإنما حاولت أن أتحاور مع نصف الإنسان الآخر، وبلُـغة تلتزم الاحترام والجمالية”.

والمسألة بالنسبة لعلي الشلاه، مرتبِـطة بطبيعة النص الشعري نفسه، وذلك “لأن الشعر والمرأة لصِـيقان في الإبداع ولصيقان في الحياة نفسها، ولا تخلو تجربة شعرية من حضور للمرأة”.

مكاسب ثقافية متعدّدة

ويقدّم علي الشلاه نفسه كمُـنقذ للثقافة العربية وخادِما لها، ويدعو إلى تحطيم الصورة النمطية السائدة عنها، صورة كانت تنحصِـر عندما وصل إلى سويسرا في “مطاعم الكَـباب والمأكولات والرقص الشرقي”.

وبدلا عن ذلك، أوجد ومجموعة من المثقفين العرب والسويسريين، حالة جديدة يتزاوج فيها الرسم التشكيلي والموسيقى والشعر والرواية والمسرح، وتُـبرِز للآخر ثراءَ الثقافة العربية وتنوّع تعبيراتها.

وعلى الرغم من تواضع الإمكانات، نجح المركز الثقافي العربي السويسري ومهرجان المتنبي العالمي خلال عشر سنوات من العمل الدؤوب، على بناء علاقات جيِّـدة مع المشهد الثقافي السويسري، واستقطب اهتمام المُـبدعين السويسريين، وبلغ عدد الذين حضروا الدورات السبع لمهرجان المتنبي السابقة، قرابة الثلاث مائة مشارك، نصفهم من العرب والنصف الآخر من السويسريين.

ويقول رئيس المركز الثقافي العربي السويسري: “لقد ساهمنا أيضا في تشجيع المثقفين السويسريين على حضور الفعاليات الثقافية في العالم العربي”، ويرجع الشلاه أسباب هذا النجاح إلى “وجود المركز في بلد مواصفات العمل والأداء فيه من الدّرجة الأولى، وهو ما وضعنا أمام تحدِّي الجَـودة وإحكام التنظيم”، ولذلك، كسب هذا المركز الثقافي اعترافا رسميا وشعبيا، ويعتبر المكتب الفدرالي للثقافة في سويسرا مهرجان المتنبي “من أهم الفعاليات الثقافية الوطنية في البلاد”.

وبحثا عن آفاق أرحَـب للعمل، يسعى المُـشرفون على المركز إلى التعاون مع المؤسسات الثقافية في العالم العربي، بما يسمح بتنظيم فعاليات مشتركة في سويسرا أو خارجها، وإلى نشر كتاب كبير عن تجربة الفن التشكيلي العربي، وإنتاج أقراص مُـدمجة للموسيقى التراثية والمعاصِـرة، وكل هذه الأشكال الثقافية من شأنها المساعدة في الانفتاح على الثقافات الأخرى.

ويقول علي الشلاه: “نحن العرب لم ننجح في السياسة، فلماذا لا نجرّب حظّـنا في الثقافة”؟ واليوم، لا أحد ينكر أن هذه الأنشطة الثقافية التي تُـدار من زيورخ وتنظّـم في العديد من المدن السويسرية، تجد صدى لها على مستوى الإعلام المحلي، وتسجل حضورها بقوة في المشهد الثقافي السويسري.

وعن الأهداف الإستراتيجية لهذا العمل الثقافي، يقول علي الشلاه: “الثقافة العربية يُـساء لها من أبنائها ومن أعدائها، وترك المشهد الثقافي العربي يرسم حدوده المستشرقون سابقا والمتطرّفون حاضرا، خطأ فادح”.

الاندماج لم يفشل

وبالإضافة إلى التزاماته الثقافية السابقة، فإن علي الشلاه عضو فاعل في استشارية الأجانب بمدينة زيورخ، ويتمثل دور هذه الهيئة في إبلاغ السلطات بالتبايُـنات الثقافية والمشكلات التي قد تعترض أقلية معيّـنة، لكن مشكلات الإقامة والجِـنسية تخرج عن صلاحياتها، وهي أمور محسومة بالقانون مسبقا.

وعن الاندماج الذي يتردّد على كل الألسنة في سويسرا خلال السنوات الأخيرة، يقول الشلاه: “الاندماج كلمة خطيرة لا أحبِّـذ استخدامها، ربما يكون من الأنسب الحديث عن التعايُـش، وهذا ليس تعبيرا عن الإنغلاق أو العُـنصرية، إنه موقِـف نابع من نزوع طبيعي للتمسّـك بالهوية”.

وعن مسيرة الجالية العربية المُـقيمة في سويسرا، يُضيف هذا المثقف العراقي السويسري: “لا ينبغي لهذه الجالية أن تعيش في غِـيتوهات مُـغلقة، لا يُـمكنها أن تكون كمًّـا مهملا غير منظور. فهذه الأقلية تمتلك سِـمات ثقافية متنوّعة، وتعيش في عالم كوسموبوليتاني، وبالتالي، لا يجب الحديث عن اندماجها كبديل عن التعدّد والاختلاف الذي يميِّـزها”.

وفي سياق متّـصل، يقول: “إذا كان المطلوب من الاندماج تعلّـم لغة البلد المضيف، فلا بأس، لكننا نريد أيضا تفهّـم حضارات الآخرين وعدم محاولة حشرها قَـسرا في قوالب محدّدة مُـسبقا”.

ورغم المصاعب التي تعترض الأقلية العربية والإسلامية في سويسرا، لا يرى أن تجربة التعايش قد فشِـلت، لأنها عملية لا تزال في بدايتها وتحتاج إلى سنوات طويلة يستطيع فيها كلّ طرف تجاوُز آثار الماضي المثقَـل بالصِّـراعات والنزاعات.

ولِـد علي فاضل حسين الشلاه سنة 1965 في بابل، وفيها أتمّ دراسته الابتدائية والثانوية، ثم تابع دراساته العُـليا في جامعات بغداد واليرموك وحصل على الدكتوراه في جامعة برن السويسرية قسم الدراسات الإسلامية والآداب الشرقية وأعدّ أطروحة تحت عنوان (المرأة شاعرةً – القصيدة النسوية العربية الحديثة) بإشراف المستشرق الألماني المعروف شولزه، رئيس قسم الأدب الحديث بجامعة برن. غادر العراق واستقر بمدينة زيورخ بسويسرا منذ 1991.

أنجز العديد من الدواوين الشعرية، منها على سبيل الذكر: ليت المعرّي كان أعمى، وشرائع معلقة، والتوقيعات، وكتاب الشين، والعباءات والأضرحة، وأيضا بعض الدراسات النقدية، كالبياتي في مُـدن العِـشق وكربلاء في الشعر العربي الحديث.

رأس عدّة مؤسسات وصُـحف ومجلات ثقافية، ومدير عام المركز الثقافي العربي السويسري (زيورخ – بغداد) / غاليري الأرض منذ عام 1997، ورئيس مهرجان المتنبّي الشعري العالمي، الذي سينظم هذه السنة دورته الثامنة.

ترجمت مجموعته الأخيرة “غروب بابلي” إلى الألمانية والفرنسية والإسبانية والصربية، وأصدرت دار الشؤون الثقافية العامة مختارات له عام 2004 تحت عنوان: البابلي علي، وهي مختارات من مجموعات الشاعر الخمس الأولى، وقد كتب عن تجربته عدد كبير من النقاد والأدباء العراقيين والعرب.

يُـقيم في مدينة زيورخ وهو عضو في برلمان الأجانب فيها منذ عامين. نال عدة جوائز إبداعية، آخرها من مهرجان أصيلة الدولي بالمغرب.

كاتِـب في شؤون الثقافة العربية والإسلامية في عدد من الصحف والدوريات السويسرية والعربية، وخصص سلسلة كبيرة من المقالات نُـشرت على موقع “الحالم بغَـدٍ أفضل”، لمتابعة الشأن العراقي، خاصة بعد سقوط نظام صدّام حسين، وبعض تلك المقالات تقييم للمسار السياسي وبعضها في الجدل الطائفي.

مؤسسة ثقافية عربية سويسرية تسعى إلى خدمة الثقافة العربية والتعريف بها لدى أبناء الثقافات الأخرى، كما تسعى إلى مدّ جسور التواصل مع المُـبدعين في مختلف بقاع العالم.

أسِّـس هذا المركز سنة 1998 وشارك في ترميم المشهد الثقافي العراقي، وذلك من خلال المساهمة في إعادة لوحات هامّـة إلى متحف الفنون ببغداد، وكانت هذه اللوحات قد فُـقدت منه في أبريل 2003، كما أسهم في دعم الجامعات والكليات العراقية بآلاف الكتب والمطبوعات، بحسب ما يقول.

من أبرز مشروعات هذا المركز، مهرجان المتنبي الشعري العالمي، الذي نظّـم دورته السابعة السنة الماضية في الفترة الممتدة من 1 إلى 6 يونيو 2007، وشارك في دوراته التي انطلقت عام 2000 قُـرابة 250 مُـبدع من 45 دولة، كما أسّس المركز دارا للنشر سنة 2004 أسماها “منشورات بابل”، وقد أصدرت حتى الآن أكثر من 20 كتابا عربيا ومترجما، بالإضافة إلى العديد من الفعاليات الثقافية الأخرى.

يعمل المركز وِفق القوانين السويسرية وله علاقة وثيقة بالمؤسسات الدّاعمة للثقافة في سويسرا، منها وزارتا الثقافة والخارجية، ويستدعي المركز من حين إلى آخر مثقفين عرب، كما ينظم رحلات لمبدعين سويسريين إلى بلدان عربية، مثل سوريا ومصر والعراق وتونس واليمن.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية