أعمال رومان سيغنر لازالت تقترن بالحركية والغموض
"أحب حدوث الأشياء والحركة". بهذه العبارة لخّص مؤخرا الفنان السويسري رومان سيغنر ميولاته الفنية. وتكشف فيديوهاته ومنحوتاته وتنصيبياته (أعماله المركبة) عن نوع من السخرية الذاتية المسؤولة. وقد عاد الفنان إلى الأروقة التي شهدت بداياته في متحف الفنون الجميلة بسانت غالن لعرض 16 من أعماله الحديثة التي تسترعي الاهتمام والتــأمل.
الإنطلاقة جيدة: المعرض يبدأ بعملية إقلاع، ولكنه ليس إقلاعا حقيقيا بطبيعة الحال، بل هو حدث فكاهي جدا. في بيتِ درج المتحف، يُعرضُ فيديو بعنوان “بياجيو” (Piaggio)، نسبة للمنتج الإيطالي للدراجات والدرجات النارية. يظهر رومان سيغنررابط خارجي في هذا الشريط وهو يمسك مقود دراجة ثلاثية العجلات مرتديا خوذته وقفازاته الكبيرة المعتادة. يبدو كرائد فضاء من نوع خاص.
يقوم مساعدوه بتوديعه ثم يقلبون العربة على ظهرها. قائد الدراجة يلوح بيده من النافذة، فيُسمع العدّ … ثم تتصاعد سحابة دخان تُخفي تماما الدراجة ثلاثية العجلات. هذه العربة التي لا تشتهر بسرعتها تتحول إلى صاروخ! وهذه ليست المفاجأة الوحيدة التي يتضمنها المعرض الاستعادي الذي أعدّه معرض سانت غالن للزوار.
“الإنفجار” لا يعني دائما “الدمار”
لنقـُـل الأِشياء كما هي منذ البداية: يمكن بسرعة التجول بين أروقة هذا المعرض المستمررابط خارجي حتى 26 أكتوبر 2014، فهو لا يضم سوى 16 عملا في حفنة من القاعات. السرعة والبطء سمتان متلازمتان في “المنحوتات الزمنية” لسيغنر. ويمكن بالفعل النظر إلى وتيرة زيارة المعرض كعنصر يوحي بطبيعة عمل هذا الفنان أصيل كانتون أبنزل. ولكن الصبر مطلوب، كما هو الحال دائما قبل الإنفجار!
في إحدى مقابلاته النادرة التي خصّ بها صحيفة “تاغس أنتسايغر” (التي تصدر بالألمانية في زيورخ) في شهر يونيو 2014، شرح رومان سيغنر أنه لا يُحبُّ بتــاتا وصفه كـ “فنان الإنفجارات”، موضحا أن الإنفجار هو بمثابة تغيّر سريع لأنه “يحوّل شكلا ما إلى شكل آخر، ولا ينبغي أن يكون الإنفجار دائما مرادفا للدّمار، لأن الانفجار يشتمل على إمكانيات كثيرة وجوانب عديدة لم يتم بعد استغلالها”.
هذا الفنان الذي اشتهر بعمل تركيبي استخدم فيه الديناميت وأدى إلى تطاير عدد من المقاعد من نوافذ فندق “كورهاوس فايسباد” المهجور، لازال يمزج بين قطع بسيطة أو حتى قديمة، وعناصر متطورة. ولاشك أن الحداثة عنصر لا مفر منه عند استخدام الديناميت.
وخير مثال على ذلك، تنصيبية “الكرسي المثقوب”رابط خارجي «Stuhl mit Loch» في سانت غالن، التي تم إنجازها لشركة أثاث سويسرية. فقد تم وضع مُتفجرات في مواضع دقيقة لكي تُحدِث ثـُـقبا في ظهر كرسي. وتم بالطبع تصوير مشهد الإنفجار ليـُـعرض لاحقا من خلال ثقب الكرسي، ليوفر بالتالي مشهد انعكاس ذاتي مذهل (بمعنى أن العمل الفني يظهر في عمل فني آخر، الصورة في الصورة، والحكاية في الحكاية، واللوحة في اللوحة، فيما يسمى في لغة الفن بالتقعير أو التجويف الفني أو الإنشطار).
مع ذلك، ينبغي أخذ الوقت الكافي لتأمل العملية برمتها. ولا شك أن الإبتسامة ستــرتسمُ على وجوه المشاهدين.
الشعر والتأمل
من خلال هذا المعرض الإستعادي، يعيد رومان سيغنر شغل الأماكن حيث انطلق كل شيء (أو تقريبا) بالنسبة له. ففي بدايات عقد الثمانينات، تمكّن في الواقع من استخدام هذه المباني – المُغلقة أمام الجمهور – لمدة عام كامل.
المزيد
نماذج من أعمال الفنان السويسري رومان سيغنر
في سانت غالن، لم يجد سيغنر بالتأكيد أيّ صعوبة في تحديد المكان المناسب لعرض أعماله. ففي إحدى القاعات، توجد ثمان طاولات معدنية صغيرة زرقاء اللون. يبدو أن لا شيء بتاتا يحدث من حولها. ولكن من الخطأ اعتقاد ذلك، بحيث أن لمسة دقيقة للطاولة المُضاءة في تلك اللحظة بكشاف ضوئي، تحدث موجة، أو بالأحرى انعكاس موجة في السقف. هذا العمل ابتـُـكر خصيصا لهذا المعرض، وهو يشكل استمرارا للسحر الشاعري الذي تتميز به أعمال رومان سيغنر، فضلا عن الجانب التأملي.
“عملي بديهي محض”
أما السِّمة الطاغية على باقي الأعمال، فتظل تلك الفكاهة الشاعرية دائما: مثل ذلك الكوخ الذي استسلم فيه الفنان لرش جسمه بخراطيم الطلاء، وحيث لازالت آثار جسده غير المتحرك مرئية (وهو عمل أنجز للمشاركة في بينالي البندقية عام 1999)، أو فيلم مجسم الكوكب الأرضي – الذي يُذَكِّر بمجسّم مماثل متواجد في مكتبة سانت غالن الشهيرة- الممتلئ باللون الأزرق والذي تُشاهده وهو يتحطم ببطء.
ويشرح الفنان السويسري في مقابلته مع صحيفة “تاغس أنتسايغر” قائلا: “إن منحوتاتي تتطور انطلاقا من الأحداث والتجارب، فهي ليست أعمال تجريبية وفكرية. إن عملي يرتبط بجسدي، وليس بالفيزياء كما يقال غالبا (…). أنا لا أرغب في تفسير القوانين الطبيعية. (…) عملي بديهي محض”.
وسادة هوائية وكراسي
وتعتبر الوسادة الهوائية الضخمة التي يتم نفخها بهدف استقامة عشرة كراسي معدنية ملقاة عليها (عندما تكون خالية من الهواء)، من الأداءات القليلة التي يتم إنجازها في المتحف من قبل أحد الموظفين. فعندما يبدأ نفخ الوسادة بالأنبوب، تخيم سحابة قلق أيضا على المكان: فماذا إذا انقلبت الكراسي على الجهة الأخرى؟ وماذا إذا ما انتصبت بسرعة وسقطت في الاتجاه الآخر؟ لم يحدث أي مكروه يومها، الأمور جرت على ما يرام.
في غرفة أخرى من المتحف، تُظهر دراجةٌ مقسومة الفنان سيُغنر أثناء إنجازه لعمله، وإن كان عمله هذا قد أُنجز بالفعل. رومان سيغنر يعرض في الواقع “أدوات الجريمة” بحيث يضع في وسط القاعة المنشار الذي أنهى حياة تلك الدراجة، والنظارات التي استُخدمت لحماية عيني “المجرم” أثناء فعلته – وهو ينشر إطار الدراجة.
يمكن للمشاهد بالتالي إعادة بناء أو تركيب الجريمة. فبعد قطعهما بالمنشار، تطاير جزءا الدراجة ليستقر كل واحد منهما في زاويتين متعارضتين من الغرفة لأنهما كانا مشدودين بكابلين مطاطيين. ولازالت “الجثتان” جاثمتين هناك، وفقدت الدراجة سبب وجودها.
آلة عرض قديمة
وتنبعث من أعمال أخرى كآبة مماثلة، كزوج النظارات التي يبدو أنها كانت للفنان سيغنر، والتي تظهر على الأرض تحت لوحة معدنية تسحقها؛ أو آلة العرض القديمة للعلامة التجارية السويسرية العريقة “بايار-بوليكس” (Paillard-Bolex) التي لم تعد تـُـصدر سوى شعاع ضوء – دون عرض أي فيلم. ويصل الشعاع إلى برميل (مأخوذ من عمل “البرميل الأزرق” الذي شارك به في بينالي البندقية) مملوء بالماء. ولا نرى في هذا العمل أيضا سوى بقعة زرقاء، ما يولد لديك شعورا بالحيرة…
خفة الدم تبرز من جديد من خلال شعار “كل شيء يتيح التزلج”، الذي يعود لعام 1963 وهو عنوان لأغنية للفنان الشعبي السويسري الناطق بالألمانية فيكو تورياني. ويطبق رومان سيغنر الشعار حرفيا بحيث يضع كوخا جبليا صغيرا على زلاجات ثم يقطع الحبل الذي يمسكه ليبدأ الكوخ في التزحلق.
وعلى غرار أعمال التجويف الأخرى التي يتضمنها المعرض، يُعرض الفيلم في الكوخ نفسه الذي جُلب إلى المتحف. ورغم أن الكوخ ثابت تماما في مكانه، إلا أن الزائر يشعر بحركة الإنزلاق على مدى عشرات الأمتار تحت قدميه، ويتساءل إن كان الكوخ سيظل مستقرا…
عندما يلمح الزائر مجموعة الكراسي المزودة بالصواريخ، يتحول الشعور بالكآبة والإنتظار إلى حزن.. هل سيتم إطلاقها أم أن الفنان سيتوقف عند هذا الحد؟ يبدو أن رومان سيغنر يريد أن يظهر “إمكانيات الأشياء والمواقف” أيضا، أما الإنتظار المقترن بهذا العمل الأخير، فلازال مستمرا…
ولد رومان سيغنر في عام 1938 في أبنزل. التحق بمدرسة الفنون الجميلة بزيورخ (1966)، ولوتسرن (1969-1971)، ووارسو (1971-1972). يعيش ويعمل في كانتون سانت غالن منذ عام 1971.
بحلول منتصف عقد السبعينات، أثار انتباه الجمهور من خلال “بروتوكولاته المصورة”، وأعماله المرتكزة على “الحركة”.
يسعى رومان سيغنر إلى خلق أشكال تنشأ من تفاعل “القوى”، مثلما شرح ذلك في تصريح للتلفزيون السويسري عام 1981.
يقول الفنان سيغنر: “الإنفجار بالنسبة لي ليس تدميرا، بل هو عملية تحول”. ويُحب أيضا “عندما تبدو لنا الأشياء وكأنها منعدمة الوزن، وتظل معلقة في الهواء.”
ومن أشهر أعمال سيغنر “الأحذية الطويلة” (Les Bottes) في عام 1986، التي تتدفق منها مياه توحي بشكل إنسان. ومنذ ذلك الحين، أصبحت صورة هذا الأداء من أكثر البطاقات البريدية مبيعات على الأرجح في المتاحف السويسرية.
ومن عشرات الأفكار الأخرى لرومان سيغنر قيامه بإغراق قارب كاياك، وترتيب عملية إقلاع للقبعات مثل الصواريخ، أو التحكم في طائرات مروحية مصغرة في صناديق ضيقة، أو في قاعات المتاحف.
في بينالي البندقية لعام 1999، أنشأ سيغنر عملا بعنوان “في نفس الوقت” (Gleichzeitig)، كانت تتساقط خلاله كرات معدنية من السقف على دعامة مصنوعة من الطين.
ساعد عرض الفيلم الوثائقي “سيغنرز كوفر” (Signers Koffer) لبيتر ليتشي (1996) في مهرجانات عديدة، على التعريف بهذا الفنان – الذي يحظى منذ فترة باعتراف دولي – لدى جمهور عريض.
(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.