الأرشيفات.. حراس الذاكرة ودولة القانون
احتفلت جمعية أمناء المحفوظات السويسريينرابط خارجي بالذكرى المئوية لتأسيسها يوم الخميس 15 سبتمبر الجاري. الجمعية العامة التي عقدت في برن احتفلت بنهاية سنة اليوبيل، التي كانت فرصة لتعريف عامة الجمهور وإعادة تأكيد «الدور الأساسي للمحفوظات من أجل سيادة القانون والديمقراطية». عملية ضرورية لمهنة في صراع مستمر ضد الافتقار إلى الموارد والاعتراف، كما يلاحظ أمين المحفوظات ليونيل دورتي في مقابلة خاصة.
نحن نعلم عموما أن هناك محفوظات. ولكن أقل من ذلك بكثير عندما يتعلق الأمر بما تُستخدم من أجله هذه المحفوظات. لفهم دورها بشكل أفضل التقينا ليونال دورث، المتعاون العلمي مع أرشيف كانتون فريبورغ. وقد ساهم هذ الأخير في تأليف كتاب “صناعة الذاكرة/ تاريخ محفوظات دولة فريبورغرابط خارجي“، أحد الأعمال النادرة التي تسلط الضوء على تاريخ المحفوظات في هذه المنطقة.
تأسّست جمعية أمناء المحفوظات السويسريين في 4 ديسمبر 1922. وتمثّل الهيئة الجامعة للمهنيين المشتغلين بالمحفوظات في كانتونات سويسرا الستة والعشرين في سويسرا وإمارة ليختنشتاين ويشمل ذلك 200 مؤسسة و750 من الأفراد الأعضاء.
في الذكرى المئوية لتأسيسها، أنشأت الجمعية “أرشيف في جولة”رابط خارجي. وقام صندوق من المحفوظات بجولة عبر مناطق سويسرا وليختنشتاين، وفي كل محطة في هذه الجولة يتم إثراء هذا الصندوق بقطعة أرشيفية تتعلق بالمكان الذي حل به الصندوق. انطلق هذا الصندوق من إدارة الأرشيف الفدرالي في العاصمة برن يوم 22 فبراير 2022، وسيعود إلى برن، نقطة انطلاقته، يوم 15 سبتمبر المقبل، بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة المئوية لجمعية أمناء المحفوظات السويسريين.
SWI swissinfo.ch: ما هو أصل المحفوظات كما نعرفها اليوم؟
ليونال دورتي: ظهرت خدمات الأرشيف بشكل غير مباشر، بمعنى أن إدارات حكومية أو مؤسسات كنسية بدأت في الاحتفاظ بوثائق تثبت حيازة حقوق أو حريات معينة. ومنذ اللحظة التي أصبحت فيها الكتابة مسألة ضرورية لضمان الحقوق، كان لابد من وجود مكان للاحتفاظ بتلك الوثائق. مع مرور الوقت، احتوت المحفوظات على وثائق تخص أنشطة يومية تقوم بها الدولة: الحسابات، وتقارير الجلسات الحكومية، وما إلى ذلك.
في فريبورغ، كما هو الحال في بقية سويسرا، وعلى المستوى الأوروبي، تعود هذه الظاهرة إلى القرن الثالث عشر. هل هذا من قبيل المصادفة؟
في الواقع، كان هناك “انفجار وثائقي” في جميع أنحاء أوروبا انطلاقا من 1200 ميلادي فصاعدا. وانتقلت الكتابة من المؤسسة الدينية إلى أيدي اللائكيين. لم تعد الكتابة حكرا على الرهبان، بل باتت مهارة يُمارسها التجار وكتاب العدل والموظفون العاملون في إدارات الدولة. وفي مطلع القرن الثالث عشر، ظهرت الدولة المركزية، وبدأ التوجّه لانتقاء الوثائق التي يتم الاحتفاظ بها.
منذ ذلك الوقت، استمر تدفق وتراكم الوثائق بشكل متزايد، كيف بالامكان التعامل مع هذا الحجم الكبير من الوثائق؟
في جميع أنحاء العالم، يطرح مشكلة محدودية الفضاء للاحتفاظ بالوثائق بغض النظر عن طريقة الحفظ. فالمحفوظات بالضرورة هي في توسّع، لأن الغرض مع كل وثائق جديدة هو الحفاظ عليها. وكلما مرّ المزيد من الوقت، زاد حجم هذه الوثائق.
حسن الاحتفاظ يعني أيضا انتقاء بدقة المستندات التي يجب إتلافها. لأنه لا يمكننا الاحتفاظ بكل شيء. أقصى ما نحتفظ به يترواح ما بين 10% و15% من الوثائق المنجزة. ويتكفّل أمناء المحفوظات في الكانتونات برسم السياسات الواجب اتباعها بهذا الصدد. فبمجرد أن تصبح الوثيقة غير ذات فائدة قانونية أو إدارية، يُطرح السؤال عن مصيرها. فإذا اعتبرت الوثيقة عديمة الفائدة، ولا تصلح أن تكون جزءًا من التراث الوثائقي، فإنه يتم تدميرها.
ويتسبب الافتقار إلى الحيّز المكاني، وكذلك الموارد اللازمة للقيام بعملية الحفظ في ظهور شعور بعدم الاعتراف. كالتساؤل مثلا ما الفائدة من حفظ الوثائق. سؤال يتكرر طرحه باستمرار على مدار تاريخ هذه الممارسة!
بالفعل، ما الفائدة من حفظ الوثائق؟
من دون تنظيم، وبناء مهيكل، فإن وجود أيّ مؤسسة أو شركة أو دولة يظل مُهددا باستمرار. ومن الوهم الاعتقاد بأنه بالامكان التصرّف بشكل صحيح من دون وثائق مبوّبة. الأمر يتعلّق بالفعالية، لأن البحث عن المعلومة يتطلّب الكثير من الوقت ومن الامكانات.
وتضطلع الدولة أيضا بمهمة ضمان سلامة العملية الديمقراطية وشفافية المؤسسات والقرارات المتخذة. وحدها المحفوظات هي التي تضمن إمكانية التتبع؛ وبدونها، لا ديمقراطية! يبدو الأمر تافهًا، لكن الأمر لا يتطلب الكثير حتى تختلط الأمور. من هو المنتخب ومن هو الشرعي أثناء أداءه لعمله؟ لماذا يتعيّن علينا دفع الضرائب؟ يجب الاحتفاظ بالوثائق التي تبرر ذلك في مكان ما.
تشبه مسألة المحفوظات صورة الإله جانوس ذي الوجهيْن: وجه يتجه للماضي، والآخر للمستقبل. وكل مجتمع بلا ذاكرة هو مجتمع بلا مستقبل. ومن الأساسي أن نكون قادرين على ضمان العملية الديمقراطية وشفافية الأنشطة، ولكن علينا أيضا أن نجيد إدارة جميع المحفوظات التاريخية.
في الذكرى المئوية لـ جمعية امناء المحفوظات السويسرية، اخترنا أن نضع رمزيًا في الصندوق المتجوّل سجلًا للسجون يحتوي على محاضر الاستجوابات الجنائية التي أجريت في نهاية القرن السابع عشر في فريبورغ. كانت الفكرة هي إظهار أهمية الحفاظ على تراثنا الوثائقي على المدى الطويل وتوافره اليوم. إنها ذات قيمة إعلامية مهمة للغاية، لأنها لا توثق السجلات القانونية في ذلك الوقت فقط، ولكن أيضًا أعراف أسلافنا وحياتهم اليومية.
من هم “زبائنكم” أو “عملاؤكم”؟
في المقام الأوّل، نجد علماء الأنساب الذين يهتمون بتاريخ أسرهم. وهناك أيضا الكثير من الأشخاص الذين يُنجزون أبحاثا، بما في ذلك البحوث التاريخية. ثم لدينا زملاء في أقسام أخرى، أو حتى مهنيين آخرين، مثل المهندسين المعماريين الذين يرغبون في الاطلاع على الخطط القديمة من أجل (القيام بأعمال) التجديد.
تتيح رقمنة المحفوظات إمكانية الوصول إلى الكثير من الجمهور. أليس كذلك؟
إن فكرة إمكانية استشارة أرشيفنا في جميع أنحاء العالم فكرة جذابة، لكن يجب أن نظل واقعيين. عملية الرقمنة والاحتفاظ بالملفات على الخوادم مُكلفة.
فقط عدد قليل من العلماء والمتخصصين قادرون على فك رموز الكتب المقدسة القديمة، وفهم لغات مثل اللاتينية أو الألمانية القديمة أو الفرنسية البروفنسية. إن وضع كل شيء على الإنترنت سيستغرق الكثير من الجهد والمال مقابل القليل من التأثير.
وبدلاً من التركيز على الكم، قررنا التركيز على جودة الخدمة. وبالتالي نقدم إصدارات مصدريةرابط خارجي، حيث يتم إخفاء المستندات الموجودة على الإنترنت، وشرح المفردات المعقدة وتحديد جميع الأماكن والشخصيات المذكورة.
فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات، لا تزال مجتمعاتنا تقوم بإنشاء المزيد والمزيد من المستندات الإلكترونية. كيف يُمكننا الاحتفاظ بها ؟
المكتب اللاورقي هو فكرة مثالية. لم ننتج قط من قبل هذا الحجم من الورق في عصر انتشار أجهزة الكمبيوتر. لا يزال هناك رد فعل قديم لطباعة ما يُعتبر مهمًا، حتى رسائل البريد، وهو ما يثبت الافتقار إلى الثقة في كل ما هو مجرد وغير مادي.
ما يسود حاليًا هو الحفظ الهجين، حيث يتم الاحتفاظ بالوثائق في شكل مادي ورقمي في آن واحد. وفيما يتعلق بالحفظ الطويل الأجل، فإن الحل الامثل يكمُن في القول بأن الوثائق التي أنجزت في شكل رقمي، يُحتفظ بها على ذلك الشكل. لكن هذا يتطلب التكيّف. لن يحتفظ بمستند في صيغة ملف وورد Word لضمان قدر من الجودة على سبيل المثال، كأن تحوّل الوثيقة إلى ملف في صيغة بي دي اف PDF، حتى نتمكن من الاحتفاظ بها في شكل مستدام والحفاظ على سلامتها.
بالنسبة للمستقبل، يتجه أصحاب المهنة وأصحاب القرار من السياسيين إلى التركيز على الرقمية. لا يزال هذا يمثل مخاطرة، لأننا نفتقر إلى الإدراك المتأخر والخبرة. على عكس الورق، الذي يُمكن أن يضمن أن المعلومات غير المادية يُمكن الإطلاع عليها بعد ألف عام.
في حالة تعرّضت محفوظاتكم إلى التهديد. إلى ماذا ستتجه أولوياتكم في عملية الانقاذ؟
شيئان، دائمًا فيما يتعلق بهذا الوجه المزدوج لـ جوناس. على الجانب الإداري، يجب أن نحتفظ بجميع قرارات الحكومة الأخيرة، وجميع الوثائق التي تُعتبر حيوية لحسن سير الدولة.
على الجانب التراثي، سأحتفظ بميثاق الامتياز (Handfeste) لعام 1249، والذي يشكل الأساس المكتوب لحرية فريبورغ. إنها وثيقة ذات حمولة رمزية قوية. أود أيضًا أن أنقذ معاهدة السلام الأبدي سيئة السمعة بين الكنفدرالية وفرنسا في عام 1516. إنه أحد أكثر المواثيق فخامة لدينا: فالأختام التسعة عشر (التي تُوجد أسفلها) في حالة حفظ استثنائية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.