التعددية اللغوية في الكنفدرالية “ثقافة حية” و”رابط مُـهــمّ” للهوية السويسرية
أظهَرَت النتائج النهائية لدراسةٍ واسعة النطاق حول التَعَددية اللغوية في سويسرا، بأنَّه من غير الضروري إتْـقان الناس للُغةٍ ما إلى حد الكَمال من أجل تحقيق التواصل فيما بينهم. كما توصَّـل الباحثون وعُلماء اللغة الذين أشرفوا على إعدادها إلى إنَّ التعددية اللغوية في الكنفدرالية، ليست مصدراً للتفاهم المُشترك فحَسب، ولكنها رابط مُهم لِـتماسك السُكان فيما بينهم.
لم تكن هذه سوى بعض الإستنتاجات المُشَجِّـعة التي أوردها التقرير النهائي، الصادر عن “برامج البحوث الوطنية السويسرية 56” (NRP) بتكليفٍ ودعمٍ من الصندوق الوطني السويسري للبحث العلمي والمُتعلَّق بالدراسة الواسعة النطاق، التي حملت عنوان “التنوّع اللغوي والمهارات اللغوية في سويسرا”.
وأعلِـنَت النتائِج النهائية لهذه الدراسة، التي شكلَت حصيلة خمسة أعوام من العمل الدؤوب، يوم 25 نوفمبر 2010. وقد عمِل الباحثون خلال هذه السنوات في 26 مشروعا بحثيا مختلفاً غطَّـت مجالات إستخدام اللغة في القانون والسياسة والكفاءة اللغوية لِسُكان سويسرا، بالإضافة إلى تعزيز مبدإ تَعَدّد اللغات في المدارس السويسرية.
تحدّيات جديدة
بشكلٍ عام، تعتَـبِـر سويسرا لُـغاتها المُتَعَدّدة “ثقافة حية” تنتمي إلى الكنفدرالية، كما هو الحال مع الجبال والمصارف والشوكولاطة السويسرية. ومع أنَّ تَعَدُّد اللغات ليس سِـمة مُميِّـزة من سِـمات سويسرا، فإنَّها تشكِّـل مع ذلك حالة خاصة في الكنفدرالية، وفقاً لمؤلِّـفي الدراسة، ويعود ذلك إلى “إعتبار كل من الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش، لغات وطنية تتمتَّـع بحِـماية الدستور بصورة مُـتساوية، على الرغم من الاختلاف الكبير في حجْـم المَجاميع السكانية المُتحدِّثة بإحدى هذه اللغات”.
ويدل هذا الموقف الاستثنائي على أنَّ الاختلاف اللغوي والتعامل مع الأقلّيات، لا ينتمي إلى النظرة الذاتية لسويسرا فحَسب، ولكنه جزء من ثقافة الكنفدرالية الصغيرة في ذات الوقت. وتتميز سويسرا بـ “المُـرونة والعَمَلية” في النَّـهج الذي تَتَّـبِـعه، غير أنَّ كلاًّ من الهجرة والعولمة المُتَزايدة، جعلت الكنفدراية تواجه تحدّيات جديدة، تكمُـن إحداها بوجود نِـسبة أعلى من الناطقين بالإسبانية والبرتغالية والإنجليزية ولغات دول البلقان المختلفة والتركية، مُقارنة بالمُتَحَدِّثين بالرومانش، التي تُعتَبَر اللغة الرسمية الرابعة في البلد على سبيل المثال.
تعدد اللغات كرابط مُشتَرَك
في مقابلة مع swissinfo.ch، قال ساندرو كاتاسين، أستاذ عِـلم المجتمع في جامعة جنيف: “في سويسرا، لا يُعتَبَر التعدّد اللغوي مشكلة، بل يُنظَـر إليه كموردٍ إضافي”. وكان كاتاسين مسؤولاً عن فريق عملٍ قام بدراسة مجموعات، ينتمي أعضاؤها إلى أنحاء مُختلفة من سويسرا، كما يتكلَّـمون لغات مُتعدّدة. وشمِلَ ذلك أعضاء المنتخب الوطني السويسري لكرة القدم دون سِنّ 17 عاما، بالإضافة إلى أعضاءٍ من الجيش والإدارة الفدرالية (الحكومة) السويسرية.
وتفيد إحدى النتائج التي توصَّـل إليها الفريق، بأنَّ عامل اختلاف اللغة خدَمَ هُـنا في تَحديد هوية المجموعة. وكما يقول كاتاسين: “لو أخذنا الجيش السويسري على سبيل المثال، سنرى بِأنَّ المُدَرِّبين استخدموا لغات مُختلفة لإدماج الجنود القادمين من مناطق لغوية مُختلفة”.
وكان المُـشرف على التدريب يُلْـحِق شرحاً باللغة الفرنسية بعد قِـيامه بداية بِشَرح موضوعٍ ما باللغة الألمانية ِلوضع الناطقين بالفرنسية في الصورة. وعند إخلائه سبيل الجنود في النهاية، كان المُدرِب يلجأ إلى استخدام تعابير إيطالية لِبَثِّ روح الحماسة مثل “Forza ragazzi” (الهِمَة يا شباب)، لِتَعريف المجموعة بِأكمَلِها على اللغة الإيطالية، التي تُعتَبَر اللغة المُحَفزة”. ويُضيف كاتاسين: “هنا، تُـشَكِّـل التَعَدُّدية اللغوية “هوية” من خلال الإختلاف، وليس من خلال التصرّف، كما لو تَشابه الجميع”.
كيف يُمكن تعلّم لغة ما؟
يُعرَف عن الشعب السويسري إجادته لأكثر من لغة واحدة. ووجدت الدراسة بالفِعل، بأن كل شخص سويسري يُـجيد التَحَدُّث بلغتيْـن أجنَبيتين في المتوسط. وفي مقابلة مع swissinfo.ch، نفى فالتر هاس، الأستاذ الفخري لِعِلم اللغات في جامعة فريبورغ والذي ترأس اللجنة التوجيهية لهذه الدراسة، وجود ما يُسَمّى بـ “الموهبة” في تعلّم اللغات. وعلى حد تعبيره فإنه “بإمكان أيّ شخص تعلُّـم لغة ما، ويتعلّم السويسريون هذه اللغات لِكَونهم مُجبَـرين على فِعل ذلك”.
كما حَمَلت نتائج هذه الدراسة أخباراً سارّة لِلذين قَضّوا ساعات طويلة في تَعَلُّم قواعد لغة ما خلال دراستهم ثم فَشَلوا في تكوين جملة واحدة مفيدة بهذه اللغة، عند مواجهتهم لموقفٍ يضطرهم إلى الكلام مع شخصٍ مُتَحَدثٍ بها. قد أبرَزَت الدراسة بهذا الصدّد وجود تَحَوّل مُلفِت للنَظَر في أساليب وطُرُق التدريس.
وكما يقول هاس: “لقد تعلَّـمنا بأنه بِإمكان الناس التواصل فيما بينهم، حتى لو لم يُتقنوا اللغة بِشَكلٍ كامل”، وأضاف: “بالطبع، يقع على عاتق المدارس تعليم الطلاّب بالشكل الصحيح، ولكن الأمر برمته مسألة تقديرية”.
تعلُّم الايطالية في أسبوع!
وفي سياق مشروعٍ أطلق لِمُواجهة ازدياد شعبية اللغة الإنجليزية على حِساب الإيطالية، طَوَّر برونو موريتي، أستاذ عِـلم اللغة الإيطالية في جامعة برن، برنامجاً مُكَثَّـفاً يُتيح لطلاب المدارس مِمَّـن تتراوح أعمارهم بين 12-13 عاما، التواصل فيما بينهم باللغة الإيطالية في غضون أسبوعٍ واحد فقط. وليس من المُهم حدوث أخطاء لغوية هنا، بل إن ما يَهُم، هو قابلية هؤلاء الأطفال للتَعبير عن أنفسهم في المواقف الأساسية للحياة اليومية. والفكرة هنا، هي أنه من الأفضل أن يَتَحَدَّث العديد من السويسريين لغة ما بشكلٍ قليل، بَدلاً من تحدث عدد قليل منهم هذه اللغة بِطلاقة.
وفي مقابلة له مع swissinfo.ch.، أوضحَ موريتي بِأنَّ المُستوى اللغوي المُتَحَقِـق لهذه التجربة، يجب أن يتوافَـق مع نفس المُـستوى الذي يصل إليه طلاّب المدارس الابتدائية بعد 18 شهراً من تعلُّـمهم دروساً باللغة الإنجليزية.
ووِفقاً لموريتي، كان بإمكان العديد من الطلاب “الأضعف”، الذين شاركوا في هذا المشروع التجريبي، التواصل باللغة الإيطالية في نهاية هذا البرنامج، بسبَب عدم التركيز على الإتقان الكامل لِلّغة. وكما قال: “إنَّ حقيقةَ تَمَكُّـن هؤلاء الطلاب من قول كلامٍ مفهوم بعد أسبوعٍ واحدٍ فقط، هو دافع كافٍ بحدّ ذاته”، وهذا الأسلوب الذي تمّ تطويره كاستجابة لتَراجُع أهمية اللغة الإيطالية في سويسرا، يُمكن تطبيقه على لغاتٍ أخرى أيضاً. وتُدرَس حالياً إمكانية تَكييف هذه الطريقة لِتَدريس اللغة السويسرية الوطنية الرابعة، أي الرومانش.
نتائج مؤقتة
ولكن ليس الجميع راغِباً في تعَلُّم لغاتٍ أخرى، حتى ضِمن المواطنين السويسريين. وفي هذا السياق، يقول كاتاسين مُعَـلِّـقاً: “إذا لم يرغب الشخص بالتعلُّم، فإنَّه لا يتعلَّم”. ويضيف قائِلاً: “ليس من المَـنطقي أن تُنتهج سياسة تَفرِِض على الناس تَعلَّـم لغاتٍ أخرى، بل يجب علينا جَمْع الناس معاً ضِمن مشاريع وإعطاءهم الفرصة للتَعَلُّـم سوية، من خلال إشتراكهم في القيام بعملٍ ما”.
وفي حين تُساعِد المشاريع البَحثية المختلفة على خَلْق أساس لوضع مبادئ توجيهية جديدة، ليس باستطاعة أحدٍ الجزم بِأنَّ هذه هي الحلول النهائية.
وفي عرضِه للتقرير النهائي قال هاس: “إنَّ المُتَطَلَّبات والأيديولوجيات اللغوية للمجتمع تتغير باستمرار ومعها تَتَغَيّر اللغة أيضاً”. وأضاف مُختَتِماً: “إنَّ التحقيق في اللغة والعلاقات اللغوية، هو مشروع طويل الأجل، كما أنَّ نتائجها ذات طبيعة مؤقتة ومرحَلية”.
منذ عام 2005، شارك نحو 200 باحث وباحثة في البرنامج الوطني للبحوث الذي حمل عنوان: “التنوع اللغوي والمهارات اللغوية في سويسرا”.
قام الباحثون بِفَحص الأسُس اللازمة لتعزيز وحِفظ واستخدام التَنَوع اللغوي في سويسرا من خلال 26 مشروعاً.
في التقرير النهائي الذي حملت نسخته الإنجليزية عنوان “هل تتحدّث السويسرية؟”، سَلِّط الخُبراء الضوء على الحالة المُعقدة لِلُّغات في سويسرا.
بموجب الدستور، هناك أربع لغات وطنية في سويسرا هي: الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش.
بالإضافة إلى ذلك، يتحَدَّث الأجانب الوافدين والمقيمين في سويسرا، مجموعة متنوعة من اللغات الأخرى من جميع أنحاء العالم (كما هو موضح أدناه).
اللغات الوطنية
اللغة الألمانية 63,7%
اللغة الفرنسية 20,4%
اللغة الإيطالية 6,5%
الرومانش 0,5%
لغات أخرى
الصربية – الكرواتية 1,4%
الألبانية 1,3%
البرتغالية 1,2%
الإسبانية 1,1%
الإنجليزية 1,0%
التركية 0,6%
التاميلية 0,3%
العربية 0,2%
(المصدر: التعداد الفدرالي الأخير للغات الذي أجري عام 2000)
تُنَفَّذ برامج البحوث الوطنية السويسرية تحت رعاية الصندوق الوطني للبحث العلمي في سويسرا.
يتم اختيار مواضيع البحث من قِبَل الحكومة الفدرالية السويسرية.
يكمُن الغرض من إجراء هذه البحوث في تقديم حلولٍ عِلمية للمشاكل التي تَتسم بالأهمية على المستوى الوطني.
في العادة تكون هذه البحوث ثمرة دراسات مُتعددة الإختصاصات.
تم تكليف برامج الأبحاث العلمية الوطنية السويسرية بإجراء دراسة حول “التنوع اللغوي والمهارات اللغوية في سويسرا” في عام 2005.
تم تخصِيص ميزانية قدرها 8 مليون فرنك سويسري (8 مليون دولار) لهذا البحث.
عمل حوالي 200 باحث وباحثة في 26 مشروعاً، تم تصنيفها إلى ثلاثة مواضيع رئيسية تشمل المُتَطَلَّبات القانونية والشروط العامة والمهارات اللغوية إضافة إلى اللغة والهوية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.