“من خلال صروح العبادة سبرتُ أغوار وآفاق الفن المعماري”
في مسيرته الطويلة، قام ماريو بوتارابط خارجي، أحد أشهر المهندسين المعماريين في سويسرا، بتصميم وتشييد العديد من المباني في جميع أنحاء العالم، بدءا من البيوت الفارهة وحتى البنوك، ومن المتاحف إلى الكازينوهات. وفي مقابلة مع swissinfo.ch بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين، قال إن بناء دور العبادة هو الأقرب إلى قلبه.
swissinfo.ch: في الأول من أبريل أتممت خمسة وسبعين عاما. هل هذا الحدث مهم بالنسبة لك؟
ماريو بوتّا: ربما لأصحابي، أما بالنسبة لي فهو يوم كباقي الأيام، وقد تنبع أهميته من كونه يُنبّه إلى كبر السن، مع أننا نظن أنفسنا دوما بأننا لا زلنا صغارا، ولحسن حظي، عملت باتقاد وحرقة فلم أشعر بمرور الزمن. طار الوقت.
swissinfo.ch: هل تقلقك الشيخوخة؟
ماريو بوتّا: لست سعيدًا بالتقدم في السن، أشعر بأن ما تبقى لي من وقت يتناقص، وبهذا المعنى، لا مكان للإحتفال، ومما يثقل عليّ، أن المشاريع المعمارية يلزمها وقت، وكمهندس معماري أتوق لرؤية مشاريعي وقد تحققت، ولا يزال الكثير منها رهن الإنشاء، أتشاهد تلك المخططات التي خلف ظهري؟ إنها تصاميم المنتجع الصحي الجديد في مدينة بادن (Baden).
معرض “فضاءٌ مقدس” لبوتّا
يقام معرض الأعمال المقدسة لماريو بوتّا خلال الفترة الممتدة من 25 مارس ولغاية 12 أغسطس 2018، في مبنى “Pinacoteca Rusca” بمدينة لوكارنو، وفي الجناح الفارِه الذي بُني في الباحة الخارجية خصيصا بهذه المناسبة.
هذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يتم فيها عرض اثنين وعشرين (22) عملاً معمارياً، منها الكنائس والمساجد والكُنُس، التي شيّدها ماريو بوتا في بلدان مختلفة حول العالم من بينها سويسرا وإيطاليا وفرنسا وإسرائيل وأوكرانيا وكوريا الجنوبية والصين.
يتم عرض الأعمال باستخدام النسخ الأصلية من المُجسّمات والمخططات والرسوم التوضيحية كبيرة الحجم.
swissinfo.ch: السن الرسمي للتقاعد في سويسرا هو 65 سنة، وهناك الكثير ممّن يتقاعدون مبكرا، لكن هذا لا ينطبق على المهندس المعماري حسبما يبدو..
ماريو بوتّا: قد أكون مُجازفا، ولكن يبدو لي أن المهندسين المعماريين يُعمّرون – ويخطر ببالي رايت، ولو كوربوزييه، وميس فان دير روه – نظرا لما ينتابهم من توتر بينما يترقبون رؤية أعمالهم بعد إنجازها، فالفلاسفة يحرقون الأفكار بسرعة، وقد قال الأستاذ الكبير، لويس كان، لا توجد هندسة معمارية، بل أعمال المهندس المعماري، ولذلك ليس فكرة وفقط، بل عملية أيضا. فالعمارة تاريخ حياة.
swissinfo.ch: في هذه الأيام، وبمناسبة عيد ميلادك، تم افتتاح معرض لأعمالك المعمارية المقدسةرابط خارجي في لوكارنو: كنائس وصوامع ومساجد وكُنُس. لماذا قررت التركيز على دور العبادة؟
ماريو بُوتّا: اتصل بي من لوكارنو معرض “كازا روسكا” للفنون، وأعربوا لي عن نيتهم افتتاح معرض خاص بالفن المعماري، في حين كانت فكرتي الأولى تدور حول القيام بمعرض لأعمالي غير المعمارية، أقصد تصاميم الكراسي والطاولات وما يتعلق بإقامة المعارض الفنية والعروض المسرحية، وعندما عرضت المشروع، تبيّن لي بأن هذا الموضوع ليس جوهريا بالنسبة لي، ولذلك فكرت في الشيء الذي هو أقرب إلى قلبي، فكان أماكن العبادة وما له وقع في الذاكرة الجماعية، لأن السؤال الأهم كان بالنسبة لي: كيف أبني كنيسة بعد بيكاسو؟
swissinfo.ch: معنى هذا أن هندسة الأماكن المقدسة لها أهمية خاصة بالنسبة لك؟
ماريو بوتّا: لدي انطباع، أنني من خلال صروح العبادة سبرت أغوار وآفاق فن العمارة، إذ من شأن الجاذبية والأبعاد والضوء التي تصنع الأجواء، ومن ثم معادلة النِّسب، والحركة الإيقاعية للأجسام البناءة، أن تساعد المعماري على إعادة اكتشاف الأسباب الأولية للهندسة المعمارية، والتي هي في الأصل ذات طبيعة مقدسة، أضف إلى ذلك أن صروح العبادة هي بمثابة الرمز في مواجهة استشراء الإبتذال للهندسة المعمارية في عالم اليوم.
أنا شخصيا أحترم دور العبادة كثيرا، وهي بالنسبة لي أيضا أماكن صمت
swissinfo.ch: تزايد العلمانية اليوم في المجتمعات أفقد الكنائس، وأماكن العبادة بشكل عام، الكثير من الإعتبار..
ماريو بوتّا: صحيح، فقدت الكنائس جزءا من وظيفتها، ولكنها لا تزال تشكل رمزا في ذاكرتنا الجماعية، فالكنيسة التي نراها في القرية، قد يكون روادها حاليا قليلون، إلا أنها حظيت في يوم من الأيام بأهمية كبيرة، وكانت ملتقى للناس وإحدى المكونات الرئيسية للمدينة. وأيضا مبنى البلدية والمسرح والمتحف هي جزء من تاريخنا، لا سيما في أوروبا، ولذلك نهتم بالمدن التاريخية ونزورها، باعتبارها جزءا من ذاكرتنا الجماعية وتاريخنا.
swissinfo.ch: وهل ينطبق هذا على الكنائس أيضا؟
ماريو بوتّا: أعتقد أن الحاجة للروحانية متأصلة في الإنسان، وأن دور العبادة، في أي دين كان – اليهودية أو المسيحية أو الإسلام – تمثل استجابة لهذه الحاجة، وعلى ضوئها تتشكّل القيم الجماعية في حياتنا، وتؤدي الأجواء والأضواء دورها في عكس مفاهيم اعتبارية نقر بها ونتقاسمها.
swissinfo.ch: هل أصبحتَ متدينا أكثر من ذي قبل؟
ماريو بوتّا: لا، هذا السؤال في غير محله، فأنا ثقافتي مسيحية غربية، وفي الماضي لم أكن أعرف اليهودية ولا الإسلام، ومع ذلك، بنيت كُنُسا ومساجد، وهذا ممكن إذا كان لديك نهج معماري، وما تحتاجه هو أن تُحسن تنظيم المساحة.
وأيضا بَنيتُ بعض البنوك، ومن دون أن أكون مصرفيا، قد يبدو الأمر مضحكا، لكني أستطيع أن أؤكد بأن أبشع الكنائس التي عرفتها بُنِيَت من قبل معماريين متدينين جدا، وأنا شخصيا أحترم دور العبادة كثيرا، وهي بالنسبة لي أيضا أماكن صمت.
swissinfo.ch: في أعمالك المعمارية، أعدت من جديد بعض الأشكال الهندسية: الدائرة، والأسطوانة، وشكل العدسة. فما الخبر؟
ماريو بوتّا: الأشكال الهندسية تساعدني على التحكم بشكل أفضل في المساحة التي يصنعها الضوء، ذلك أن قوة الضوء يغذيها عنصران: الشكل الهندسي والمادة، حيث يعمل الشكل الهندسي على توفير الوضوح والتوازن ويُسرَ قراءة العمل، أما العنصر الثاني وهو المادة، فأنا أفضل استخدام الطوب والحجر المُستخرجَيْن من الأرض.
swissinfo.ch: خلال تقديمك للمعرض في لوكارنو، قلت بأن الأمر كان بالنسبة لك بمثابة التعرية. ماذا كنت تقصد؟
ماريو بوتّا: المعرض هو بمثابة اختبار، وها قد عاد منذ عام 1986 بثوب جديد، المنازل الأسرية في البداية، ثم البنوك بعد السبعينات، والآن المكتبات والمعارض التي شيّدتها في جميع أنحاء العالم، وقد قمت ببناء بعض الكنائس بناء على ما طُلب منّي.
الأشكال الهندسية تُساعدني على التحكّم بشكل أفضل في المساحة التي يصنعها الضوء
swissinfo.ch: بعد مسيرة خمسين عاما، أيّ أعمالك أحب إليك؟
ماريو بوتّا: إن كان لا بد أن أجيب، فهو المشروع القادم، لشغف الإنتظار، كمال أتشوق إلى عمل مكان آخر للعبادة، إذ لعلّي أستطيع التعبير عن فكرة التفكّر والتأمل والتضحية والصمت بصورة مختلفة.
swissinfo.ch: وهل مِن أعمالك مَن فقد حبك؟
ماريو بوتّا: لكل عمل مسوغات وجوده، كما الطفل، وقد لا يكون بذلك المستوى، ولكن تبقى على كل حال له محبة في القلب، وكل المشاريع هي أبناء لمشاريع سبقتها، وربما أستطيع القول بأن المشروع الأول، من بين المباني الدينية، هو الأقرب بشكل خاص إلى قلبي، إنه كنيسة “مونيو Mogno” في الجزء العلوي من “فالي ماجّا Valle Maggia”، التي أعيد بناؤها من الصفر بعد الإنهيار الذي أتى عليها.
swissinfo.ch: أنت وُلدتَ في مِندريزيو، ومنذ بضع سنوات عدتَ للعيش فيها، وفيها تقيم مكتبك رغم صغرها، بينما عملك موزع في جميع أنحاء العالم. ما مدى أهمية التمسك بالجذور بالنسبة لك؟
ماريو بوتّا: بالنسبة لي، أعتبره ثروة وحظوة، كما أنا أعتبر نفسي محظوظا أن تتاح لي فرصة العيش في مسقط رأسي، ولي فيه ذكريات، ولا أحب أن أرى جبال الجنوب تحول بيني وبينه، وأنا هنا أتنسم رائحة البحر المتوسط وإن كنت لا أراه، وما زلت أعتبر البحر المتوسط مركز أوروبا الثقافي، وما زال يحتل أوليسي وأوديسيا جزءا من مخيلتي.
اليوم، العالم كله بلد واحد، فبينما كان أساتذتي، رينو تامي أو تيتا كارلوني، يعملون هنا في منطقة تيتشينو فقط، أنا أعمل في جميع أنحاء العالم، وقد تلقيت حديثا طلبًا من شانغهاي، ولو كان عملي في تيتشينو فقط، لما أمكن لي فتح مكتب في مِندريزيو وتوظيف نحو عشرين شخصًا، والحقيقة أني فخور بالعيش في محيط مدينة ميلانو، ولذلك أقول دوما إني أعيش في ضواحي ميلانو.
ماريو بوتا
ولد في أول أبريل 1943 في مِيندريزيو، الواقعة في كانتون تيتشينو، درس في مدينة لوغانو، وبعدها التحق بالمدرسة الثانوية للفنون في ميلانو، ومن ثم واصل دراسته في المعهد الجامعي للهندسة المعمارية في البندقية (فينيتسيا)، حيث تخرج في عام 1969، وقد أتاحت له إقامته في المدينة الإيطالية الشهيرة فرصة الإلتقاء بلو كوربوزييه ولويس كان والعمل لحسابهما.
في عام 1970، افتتح مكتبه الخاص في لوغانو، وفي عام 1976، عُيّن أستاذا زائرا في المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان.
في بداية عمله في تيتشينو اشتغل في مجال المنازل الأسرية، ثم ما لبث أن توسّع ليشمل أنواعا أخرى عديدة من المباني كالمدارس والبنوك والمباني الإدارية والمكتبات والمتاحف ودور العبادة. ومن بين أهم أعماله: متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث (أمريكا)، وكاتدرائية القيامة في إيفري (فرنسا)، ومتحف جان تينغلي في بازل.
حصل على العديد من الجوائز وشهادات التقدير الدولية، ومن بينها جائزة شيكاغو للهندسة المعمارية في عام 1986.
يقطن ماريو بوتّارابط خارجي ويعمل في مندريزيو، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء بالغين.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.