الفنّان الأردني.. والرحّالة السويسري.. و”البتراء” عاصمة الأنباط!
اختار الفنان الأردني خلدون الداؤد تكريم الرحالة السويسري ابراهيم بوركهارت في مناسبة الذكرى المائتين لإعادة اكتشافه لموقع البتراء الأثري بإصدار كتاب فني بديع عن هذه المدينة النبطية الشهيرة.
المجلد الأنيق الصادر عن رواق البلقاء الأردنية هو حصيلة مكثفة لرؤى وأحاسيس 45 فنانا تشكيليا وموسيقيا وأديبا وشاعرا عبّر عنها كل واحد منهم بطريقته الخاصة في أعقاب زياراتهم للمدينة الأثرية.
ومن المقرر أن تحتضن العاصمة الفدرالية عصر الخميس 28 يوليو 2011 حفل الإطلاق الرسمي لهذا المولود الفني الجديد الذي أشرف على إعداده خلدون الداؤد، تحت رعاية سفير المملكة الأردنية الهاشمية في برن، وهو كتاب يرى فيه الفنان التشكيلي “جسرا لتمتين العلاقات بين الشعبين السويسري والأردني”.
هذا الحدث يأتي أيضا كمقدمة للإستعدادات الجارية من الجانبين السويسري والأردني للإحتفال في عام 2012 بمرور قرنين كاملين على (إعادة) اكتشاف مدينة البتراء من طرف الرحالة السويسري يوهان لودفيغ بوركهارت الشهير بـ “الشيخ إبراهيم ابن عبد الله بوركهارت”، وهي التسمية التي اختارها بعد اعتناقه الدين الإسلامي في بدايات القرن التاسع عشر.
كتاب يعكس جنون وفضول فنانين
كيف نبعت فكرة إعداد كتاب عن البتراء؟ يجيب الفنان خلدون الداؤد في حديث خاص مع swissinfo.ch أنها جاءت من “الأسئلة التي كان يردّدها عدد من الفنانين الذين رافقتُهم لزيارتها”، من بينها تساؤلات فنان مصري اشترك معه في إعداد كتاب عن المدينة من قبيل “كيف نُحتت هذه المدينة في الصخر، وهل ساعدت الطيور في تشييدها..؟” أو مبدع آخر كان يتساءل عن “الخيوط الموجودة في داخل الحجر.. هل هي خيوط صوف أم حرير؟”، وآخر كان يهتم بـ “طبيعة الخط النبطي”، وآخر تساءل عما “إذا كانت الخيول تُصدر موسيقى مُعينة عند مرورها”، وآخر لاحظ أن “هناك نوعا مُحدّدا من الطيور يعيش بكثرة في المنطقة؟”…
وبما أن خلدون الداؤد كان يُرافق كل شهر تقريبا فنانا جديدا إلى المنطقة، انتبه إلى أن الأسئلة المطروحة تختلف باختلاف الزائر، بل تركت لديه جملة من التساؤلات التي أقنعته في نهاية المطاف بأن “هذه المدينة لعظمتها سوف لن يستطيع أي فنان أن يصفها بشكل مقنع لا يترك مجالا لآخرين للتساؤل”. ويضيف بمزيج من الحماسة والفضول “حتى بعد إصدار هذا الكتاب، لدي اقتناع الآن بأن مدينة البتراء لا يمكن رسمها أو تصويرها أو التعبير عنها بنص من النصوص، بل فقط الإحساس بها لأنها إرث إنساني لا زالت رائحة الإنسان (الذي شيدها) منبعثة من بين صخورها إلى حد اليوم “.
ومن هنا جاءت فكرة دعوة 45 فنانا من العالم، لزيارة البتراء، والتعبير عما يخالج أنفسهم من مشاعر بعد الزيارة من خلال أعمال فنية تشكيلية (لوحات ونقوش وتماثيل)، أو من خلال النصوص الأدبية والشعرية، أو من خلال المقطوعات الموسيقية والأفلام والصور الفوتوغرافية. وقد قام رواق البلقاء بتجميع كل هذه الإبداعات ونشرها في كتاب “بترا” الذي حُرّرت نصوصه بست لغات واشتمل على حوالي 280 صفحة عكست بكثير من الأمانة والجمال رؤى وانطباعات هؤلاء الفنانين والأدباء والمصورين.
وبما أنه يعسُر على أي كان التحكم في فنان مبدع أو توجيه أحاسيسه وإلزامه بإطار معين، يؤكد خلدون داؤد أنه تعمّد في كتاب البتراء “عدم التدخل وترك المجال مفتوحا أمام الفنانين للتعبير عن أحاسيسهم بكل حرية لأن في ذلك تعديا على البتراء..”حسب رأيه، ويضيف “ليس من حقي أن أعطي توجيهات لفنانين لتحديد أو تقنين نظرتهم وكيفية حبّهم لهذه الملكة”. وكانت الحصيلة مثلما يقول خلدون الداؤد “توثيق البتراء بالفن وليس بالعودة إلى نصوص تاريخية، وسمحت لي في نفس الوقت باكتشاف زوايا جديدة يمكن النظر من خلالها للبتراء رغم إدماني على التردد عليها”.
ومن أهم مميزات هذا العمل الفني المتعدد الأبعاد والزوايا عن البتراء، اختيار الفنانين للون الذي تمتاز به مبانيها. إذ يقول خلدون داؤد “البتراء هي اللون! وقد أطلقتُ عليها (تعبيرا يفيد) بأن الملك فيها هو اللون والملكة هي الظل، لأن البتراء تتلون بحوالي عشرة ألوان في اليوم حسب كثافة الضوء خصوصا في فصل الربيع. وهذا ما جعل المُصورين يحتارون في تصوير هذا العنصر من عجائب الدنيا السبع”.
الفن جسر ثقافي لحوار الحضارات
بالعودة إلى فعاليات نشر كتاب “البتراء” في سويسرا، يعتبر الفنان خلدون الداؤد أن تنظيمها يعود فيه الفضل إلى سفير المملكة في برن السيد نبيل مصاروة الذي “آمن بفكرة الكتاب.. وسمح بتحويل الحدث الى عنصر لتعزيز العلاقات بين الشعبين السويسري والأردني”. ويقول: “الفن أحسن وسيلة للحوار بين الحضارات، عندما يكون هناك فن يكون فيه سمو ونوع من الإرتقاء بالذوق الإنساني. وهذا ما حاولتُ إيصاله للعالم الغربي بلغتنا العربية مترجمة إلى خمس لغات، بعبارة مفادها أن لدينا إرثا لا يقل أهمية عن الإرث الإنساني”.
إضافة إلى ذلك، يرى الفنان خلدون الداؤد أن الحدث الثقافي برمته يمثل تكريما للرحالة السويسري يوهان فولفغانغ بوركهارت، أو الشيخ إبراهيم ابن عبد الله بوركهارت الذي “أحب الأردن وعاش متنقلا فيه وكتب عنه وسلط الأضواء على البتراء للتعريف بها وإعادة اكتشافها بالنسبة للعالم الخارجي”.
وفي هذا السياق، يقول الفنان الأردني: “مثلما أهدى بوركهارت للعالم إعادة إكتشافه للبتراء وتعب في الكتابة عن بلدي، لدى نية في زيارة منزله في بازل تحية واعترافا لما قام به من أجل بلدي لأن البتراء بالنسبة لنا هي بترول الأردن اليوم”.
من جهة أخرى، يتضمن كتاب “بترا” تكريما لشخصية سويسرية أخرى وهو عالم الآثار أورليخ بيللفالد الذي اكتشف قبل سنوات ظاهرة تربية سكان البتراء للسمك البحري وتوصّل إلى أنهم كانوا يقومون بنقل مياه البحر على ظهور الإبل من العقبة من أجل ملء بِـرك مهيئة لتربيته لفترة أطول في البتراء نفسها.
وخلال تواجده في سويسرا، يغتنم الفنان الأردني الفرصة لوضع اللمسات الأخيرة على حدث فني مُقبل سيقترن بتدشين جدارية عملاقة من إبداعه الشخصي عن البتراء في بازل مُهداة إلى ابن المدينة ومُكتشف البتراء (من جديد) الشيخ إبراهيم بوركهارت، وهي تتميز بمساهمة عالم الآثار السويسري أورليخ بيللفالد Urlich Bellwald في كتابة بعض التدوينات عليها.
ويؤكد خلدون الداؤد أن هذه النوعية من المبادلات الثقافية والفنية تسمح، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات بين البلدين، في “ترغيب مزيد من السويسريين في زيارة البتراء والوقوف على جمالها وخباياها ليس فقط كسائحين بل أيضا كباحثين ومُنقبين عن الآثار”. كما توجد لدى الفنان الأردني أفكار عديدة سيوجهها إلى مدارس الفنون الجميلة في البلدين من أجل “تأسيس مجموعة باحثين تحمل اسم مجموعة بوركهارت”.
ومن يدري؟ فقد تجد الفكرة سبيلا للتحقيق في سنة الإحتفال بالذكرى المائوية الثانية لاكتشاف بوركهارت أو بالأحرى “إعادة اكتشافه” لمدينة وعاصمة الأنباط.. البتراء.
وُلـد يوهان فولفغانغ بوركهارت في مدينة لوزان في 25 نوفمبر 1784 ثم قضى طفولته في مدينة بازل في البيت العائلي الذي تحول الآن إلى متحف. وفي سن السادسة عشرة، غادر لدراسة القانون والفلسفة والتاريخ في مدينة لايبتسيك leipzieg الألمانية.
هذا الشاب الذي درس القانون والفلسفة والتاريخ وتخرج بشواهد، لم يعثر على عمل بسهولة مما جعله يتوجه الى لندن حيث حصل على وظيفة غيرت مجرى حياته بالكامل. فقد أدى لقاؤه بالسير جوزيف بانكس رئيس الجمعية الإفريقية أو جمعية تشجيع اكتشاف المناطق الداخلية من إفريقيا، إلى توليه مهمة اكتشاف نهر النيجر عبر مصر.
أول محطة له بالشرق الأوسط كانت حلب بسوريا في عام 1809 التي قضى فيها 3 سنوات لتعلم اللغة العربية والتعرف على الثقافة العربية. وهي الفترة التي أطلق فيها لحيته على الطريقة الشرقية وارتدى الملابس الشرقية. بعد اعتناقه الإسلام أطلق على نفسه اسم الشيخ إبراهيم ابن عبد الله. من حلب قام بعدة رحلات لمناطق أثرية مثل بعلبك في لبنان ومناطق من العراق ومدينة تدمر في سوريا. وفي عام 1812 توجه الى مصر للشروع في مهمته الإفريقية.
وفي طريقه الى مصر مر بفلسطين والأردن وكان أول غربي يكتب عن مدينة البتراء التي قال عنها “إنها آثار مدينة مهيبة تقع في وادي موسى ويحتمل أن تكون البتراء. فيها نشاهد مدافن منحوتة في الصخر وبقايا معابد وقصور ومدرجات وقنوات مياه وغيرها من الغرائب والروائع النادرة التي تجعل هذه المدينة أكثر إثارة للاهتمام من أي شيء آخر شاهدته في حياتي”.
في انتظار سفره الى تشاد عبر ليبيا نظم رحلة الى صعيد مصر للتعرف على بعض الآثار هناك. وكانت هذه الرحلة فرصة دوّن فيها عادات أهل النوبة ومعلومات عن معبد أبو سمبل الذي كان مدفونا في الرمل، لذلك يعتبر أول أوروبي يشاهد هذا المعبد قبل أن يكتشفه الرحالة الإيطالي بلزوني بالكامل بعد أكثر من 30 سنة.
في صيف 1814 عبر الى الحجاز ومنها الى مكة والمدينة حيث أدى فريضة الحج. وبسبب المرض اضطر للبقاء هناك حتى منتصف عام 1815. وهو ما سمح له بتدوين العديد من المعلومات عن المنطقة وعن عادات الوهابيين والبدو في نجد والحجاز في مخطوطات كتبها باللغة العربية. كما كان أول من رسم خارطة أوروبية حديثة لمدينة مكة.
بعد شهور قليلة من عودته للقاهرة، توفي في 15 أكتوبر 1817 بسبب إصابته بتسمم غذائي ودفن في مدافن باب النصر بشرق العاصمة المصرية حيث لا زالت لوحة قبره حتى اليوم تحمل اسم الشيخ إبراهيم المهدي ابن عبد الله والاسم الأوروبي “بوركهارت اللوزاني”.
(معلومات منقولة عن الدكتور عماد أبو غازي، مدير جناح مصر في دورة معرض الكتاب بجنيف لعام 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.