مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات
عندما أرهب الفوضويون سويسرا

“الفوضوية”.. فكرة راديكالية عن الحريّـــة

بعد مرور 140 عاما على مؤتمر سانت إيميي الذي انعقد سنة 1872، قدم الفوضويون وأنصار الأفكار التحررية من داخل سويسرا وخارجها للإجتماع مجددا في نفس المدينة وتبادل التجارب والأفكار. Roger Wehrli

في معظم الأحيان، يثير الفوضويون المعروفون بقلة عددهم الشكوك والهواجس. وفي ظل اليوتوبيا التي يعتنقونها والتي تبدو لكثيرين غير قابلة للتحقيق، اقترن تاريخهم بالعديد من الخيبات. مع ذلك، تتخذ العديد من الحركات الإجتماعية اليوم من الأفكار والممارسات التحررية مرجعا لها.

في الآونة الأخيرة، كتب دافيد غرايبر، عالم الأنتروبولوجيا الأمريكي وأحد المرجعيات الثقافية لحركة “آحتلوا وول ستريت” المناهضة للعولمة يقول: “في أيامنا هذه، تحتل الفوضوية ضمن الحركات الإجتماعية المكانة التي كانت تحظى بها الماركسية في السبعينات، بل حتى الشخص الذي لا يُصنّف نفسه فوضويا، تستند مرجعيته إلى أفكار فوضوية ويُحدد موقفه بالنسبة إليها”.

لا شك أن هذا الكلام يتضمّن قسطا من التفاؤل الطوعي الذي يُعبّر عنه مناضل فوضوي، لكن الصحيح هو أن المزيد من عناصر الفكر التحرري تظهر في الحركات الإجتماعية التي ظهرت للوجود في الآونة الأخيرة من قبيل مبدإ التسيير الذاتي والقرارات القائمة على التوافق ورفض الهرميات.

وبعد بضع سنوات من التأخير، يبدو أن الحركة الفوضوية تستشعر اليوم تداعيات ما حدث سنة 1989 وانهيار جدار برلين. ويُلاحظ غابريال كوهن، وهو فيلسوف فوضوي من أصل نمساوي أن “الفوضوية تشهد موجة تجديدية منذ خمسة عشر عاما”. وبشكل ما، جاء سقوط الأنظمة الشيوعية ليُعطي الحق للفوضويين، من جهته، يُقر اليسار المعادي للرأسمالية أن الفكر الماركسي التقليدي فقد الكثير من وهجه.

جذور في منطقة جُورا السويسرية

وفي لقاء أجري معه مؤخرا معه في سان إيميي St-Imier في مناسبة الإحتفال بمرور 140 عاما على انعقاد المؤتمر الذي انبثقت عنه الأممية المناهضة للإستبداد، أشار غابريال كوهن إلى أنه “خلال عقد التسعينات، كان العديد من الأشخاص يتشاطرون الإنتقادات تجاه الإشتراكية السلطوية، لكنهم كانوا يُعربون عن بعض التحفظات تجاه الفوضوية. فقد كان يُنظر إلى هذه الحركة على أنها طوباوية ورومنطيقية وغير منظمة. ومع ذلك، فقد اقتبسوا العديد من الأفكار من الفوضوية مثل الديمقراطية القاعدية والتنظيم الأفقي والريبة تجاه الهرميّة والسياسيين ومبدأ التحرك المباشر أيضا”.

لقد انطلقت المرحلة الأولى من تاريخ الحركة الفوضوية في هذه المدينة الصناعية الصغيرة الواقعة في منطقة جُـورا شمال غرب سويسرا، حيث تميزت بحضور بارز للفوضويين في الحركة العمالية لعدد من البلدان وتأثرت بالتجربة الثورية لكومونة باريس وبالسوفيات الأوكرانيين وبالثورة الإسبانية. ولم تنته هذه المرحلة إلا عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.

الفكر الفوضوي عاد للظهور مجددا في الحركات التي نشأت في ستينيات القرن العشرين واتسمت بنزوع قوي إلى التحررية حيث يُسجل غابريال كوهن أنه “في إطار اليسار الجديد الذي نجم عن أحداث مايو 1968، تغير طابع الحركة الفوضوية. فالأبعاد الثقافية أصبحت تلعب دورا أكثر أهمية كما تقدّم التمرد على النظام البورجوازي على الصراع بين الطبقات”.

من الصراع الطبقي إلى الثورة الإجتماعية

وفي الواقع، كان التأثير مُتبادلا بين الفوضوية واليسار الجديد، ما أدى إلى انفتاح الحركة على آفاق جديدة حيث أصبح يُنظر لـ “المركزية التقليدية للمسائل الإقتصادية بعين أكثر انتقادا، كما اتسعت دائرة الإهتمام لتشمل أيضا أشكالا أخرى من الهيمنة مثل السلطة الأبوية والعنصرية وأشكال التمييز لأسباب جنسية وتدمير المحيط الطبيعي”.

بعد مايو 1968، أصبحت الفوضوية أكثر تنوعا وأعادت اكتشاف أوجُه من الفكر التحرري التقليدي ظلت حتى ذلك الوقت متوارية في الخلفية من بينها تأملات آريخ موهسام (Erich Mühsam) حول الجنسانية والنزعة الإيكولوجية (حماية البيئة) السابقة لعصرها لإيليزي روكلو (Elisée Reclus) ومبادرات مارغاريث هارديغر (Margarethe Hardegger) في سويسرا المؤيدة لتحديد النسل. وفي هذا السياق، تقول ماريان إنكل، العاملة بالأرشيف في المركز الدولي للأبحاث حول الفوضوية (المعروف اختصارا بـ CIRA) في مدينة لوزان: “إنها دورات أجيال. لقد كان مايو 1968 علامة مهمة لكن جاءت فيما بعد الثمانينات مع ظهور حركة البونك Punk ثم التسعينات مع تمرد حركة زاباتا في المكسيك الذي طبع ميلاد الحركة المناهضة للعولمة وأخيرا ظهور الإنترنت”.

ومع أن فكرة التجديد الثوري الكبير التي كانت رائجة في القرن التاسع عشر لم تندثر تماما، إلا أنها تتجه للتراجع إلى الخلف في سلم الإهتمامات نتيجة للمحاولات الجارية حاليا والرامية إلى إقامة فضاءات يومية تتمتع بأكبر قدر ممكن من الإستقلال الذاتي. ويلخّص ايدي زارّو، أحد منشطي دار نشر فوضوية في كانتون تيتشينو (جنوب سويسرا) الذي تحول خصيصا إلى سانت إيميي رفقة العديد من رفاقه، الموقف بالتنويه إلى أن “الإهتمام بتمثّل لحظة التغيير يتراجع في حين تتزايد محاولات تصور كيفية تطبيق الأفكار الفوضوية في الحياة اليومية”. وفي هذا السياق، يبدو أن الكلمة – المفتاح أصبحت “التسيير الذاتي”.

الفوضوية في الحياة اليومية

في العشريات الأخيرة، عثرت الحركة التحررية على ميدان خصب لإعمال الرأي والتجريب عبر الممارسات العملية للتسيير الذاتي التي ظهرت في إيطاليا وفي إسبانيا وغيرها. وبفضل هياكلها الأفقية والمرنة، أمكن لها بسرعة استيعاب الإسهامات والحوافز الوافدة عليها من حركات اجتماعية أخرى. وينوه باولو كازيليني، أحد النشطاء في “مولينو” وهو مركز اجتماعي يُدار ذاتيا منذ عام 1996 في كانتون تيتشينو أن تجربة “(مُولينو) على سبيل المثال تأثرت بقوة بالحركة الزاباتية (نسبة إلى قائد الثوار زاباتا) في المكسيك. فقد تحول بعض الرفاق إلى منطقة تشياباس وعادوا من هناك بأفكار استنبطنا منها نظريات وممارسات لا زالت تصلح لنا إلى اليوم”.

من جهته، يؤكد ميكالي بريكولا، أحد المحررين في صحيفة “Voce Libertaria ” الفوضوية الصادرة في كانتون تيتشينو أن “ما هو مهم بالنسبة لنا نحن، الفوضويون والتحرريون، اعتماد طرق توافق أفقية تعتمد التسيير الذاتي وبدون أي تفويض. فلا حاجة للتحول حتى المكسيك، إذ يكفي مشاهدة ما يحدث في “فال دي سوزا” (Val di Susa) مع حركة NoTav (التي تُعارض خط السكك الحديدية المخصص للقطارات الفائقة السرعة الرابطة بين فرنسا وإيطاليا)”.

في داخل صفوف الحركة الفوضوية، لا تحظى التوجهات الرامية إلى الإنفتاح على الحركات القريبة منها والنزوع إلى الرغبة في الإنفكاك من براثن السلطة عوضا عن مكافحتها وجها لوجه بالإجماع. مع ذلك، يبدو أن قطاعات واسعة من الحركات الفوضوية أدارات ظهرها لمفاهيم الهيمنة التي بلورتها النظريات السياسية للقرن التاسع عشر، مفضلة عليها بناء علاقات تشابكية مع حركات اجتماعية أخرى. وفي هذا السياق يقول بيتر شريمبس، الذي ينشط منذ أربعين عاما في صفوف الحركة الفوضوية بكانتون تيتشينو: “في ما مضى كنا نصدع بنظريّاتنا، أما اليوم فنحن هنا من أجل أن نتعلم”.

براغماتية.. راديكالية!

في السياق نفسه، يُشير ميشال نيميتز، العضو في المركز الثقافي “الفضاء الأسود” (Espace Noir) المُسيّرُ ذاتيا في سانت إيميي وأحد منظمي اللقاء الدولي إلى أنه “في كل الأحوال، فإن الفوضويين يمثلون أقلية ضئيلة جدا، بحيث إذا رفضوا التعاون مع الآخرين فليس بإمكانهم القيام بشيء يُذكر. فالثورة لن يقوم بها الفوضويون بمفردهم، بل جميع الناس. نحن لا نريد القيام بالأمور مكانهم، فلسنا سوى طليعة ثورية”.

في الوقت الحاضر، يبدو أن الحركة الفوضوية أصبحت تُفضل الممارسة التطبيقية والتحرك الملموس المستخلص من المنهج التحرري.  هذه المقاربة تجد جذورها في تاريخ الحركة ذلك أن “الفوضوية عملت على أن تكون خطابا أخلاقيا حول الممارسة الثورية”، مثلما جاء في كتابات دافيد غرابر. وهو خطاب أخلاقي يتأسس على الفرضية القائلة بأنه “لا يمكن انتزاع الحرية بوسائل سلطوية، كما أن التحول الإجتماعي يبدأ بتغيير العلاقات اليومية”.

بطبيعة الحال، ليست الحركة الفوضوية بمنأى عن البراعة والدوغمائية والغموض أحيانا، لكنها تظل المعبر الأكثر راديكالية، والذي لا غنى عنه بشكل ما، عن المبادئ الأساسية للثورة الفرنسية أي الحرية والمساواة والإخاء. فقد سبق لميخائيل باكونين أن كتب في القرن التاسع عشر “إنني لست حرا حقيقة إلا عندما تكون جميع الكائنات البشرية التي تُحيط بي رجالا ونساء أحرارا أيضا. إن حرية الآخر، أبعد ما تكون عن أن تكون حدا لحريتي أو إلغاء لها، بل هي على العكس من ذلك شرطها الضروري وتأكيد لها”. أما اليوم، فإن المدافعين عن البيئة الفوضويين قد يُوسّعون مجال مفهوم الحرية هذا ليشمل الحيوانات والأشجار والجبال.

خلال مؤتمر سانت إيميي الذي انعقد سنة 1872، أسست بعض الفدراليات العمالية من إيطاليا والولايات المتحدة وإسبانيا وبلجيكا والأنحاء المتحدثة بالفرنسية من سويسرا المتعاطفة مع الفوضويين الذين تم استبعادهم من الأممية الأولى منظمة يتمثل هدفها في تدمير أي سلطة سياسية. واقتصرت المبادئ المؤسسة لهذه المنظمة على استقلالية المجموعات المنضوية فيها واعتماد الأسلوب الفدرالي.

لاقت الفوضوية نجاحا لا بأس به في صفوف عمال البلدان اللاتينية (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال..) لكن الأممية المناهضة للسلطوية لم تعمر طويلا. ففي السنوات الموالية، لفت الفوضويون الأنظار إليهم بالخصوص عن طريق العمليات التي قاموا بها ضد ممثلي سلطة الدولة.

على غرار معظم الحركات السياسية التي أبصرت النور بعد الثورة الفرنسية، يُشاطر العديد من الفوضويين الفكرة القائلة بأن العنف يمكن أن يكون أداة مشروعة للصراع السياسي رغم وجود تيارات مُسالمة ضمن الحركة الفوضوية (من أبرز الممثلين لها المفكر والكاتب الروسي ليون تولستوي).

لفترة طويلة، مارست الأسطورة السوداء المنسوجة حول عدد من رموز الإرهاب الفوضوي (التي تُغذى أحيانا من طرف الفوضويين أنفسهم)، والقمع السياسي والعداء المعلن بشكل واضح ضد الماركسية، ضغطا معتبرا على عموم الحركة التحررية.

في مناسبات نادرة، من بينها كومونة باريس في عام 1871 وفي سياق السوفيات الأوكراني سنة 1917 أو خلال الثورة الإسبانية سنة 1946، وجدت الفوضوية ميدانا خصبا لمحاولة وضع أفكارها الطوباوية التي تتلخص في قيام مجتمع يتشكل من أفراد أحرار ومتساوين لا وجود فيه لأي شكل من أشكال الهيمنة، موضع التطبيق. لكنه دفع في كل مرة ثمنا باهظا جدا.

(نقله إلى العربية وعالجه: كمال الضيف)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية