مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات
الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش والانجليزية: بأيّ لغة يتحاور السويسريون فيما بينهم؟

اللغات الأصلية تبحث عن موطئ قدم لها في مدارس سويسرا

يرى الخبراء أن اتقان الأطفال من أصول أجنبية للغات الأصلية يساعدهم على اتقان اللغات الوطنية. Reuters

بالرغم من أن 60% من الأطفال الذين يُولدون في سويسرا من أصول أجنبية، يتخاطبون مع أقربائهم بلغات ثقافاتهم الأصلية، تُواصل السياسة الرسمية في مجال الإندماج المُراهنة على تعلّم اللغات الوطنية. في الوقت نفسه، ترتفع المزيد من الأصوات المطالبة بإيلاء أهمية أكبر للغات الأصلية، وخاصة في المدارس.

وبالرغم من تشديد أميليا لومبلي (Amelia Lambelet)، الخبيرة بمعهد التعدد اللغوي بجامعة فريبورغ على أنه لا يوجد ما يكفي من الدراسات حول هذا الموضوع، يؤكد الكثير من الخبراء على أن الإتقان الجيّد للغات الثقافات الأصلية، يشكّل منطلقا ومرتكزا أساسيا بالنسبة للطفل في جهوده، من أجل تعلّم لغة أو لغات البلد المُضيف.

نفس القناعة والرأي نجده أيضا لدى تيريزا سلزمان، المتخصصة في التعدد اللغوي والتنوّع الثقافي بـ “المعهد السويسري لوسائل إعلام الأطفال والشباب” (Schweizerisches Institut für Kinder- und Jugendmedien)، التي ترى أن تعلّم هذه اللغات “يمكّـن الأطفال من الشعور بالأمن والطمأنينة، ويوفّـر لهم قاعدة صلبة لتعلّم لغات أخرى، كاللغات الوطنية (أي الألمانية والفرنسية والإيطالية) أو الإنجليزية”. 

  

وللتأكيد على أهمية هذه اللغات ودعم الجهود المبذولة في هذا السياق، ظهرت في السنوات الأخيرة في سويسرا مجموعات ضغط تضم سياسيين وخبراء أكاديميين ومدافعين عن حقوق الإنسان ومعنيين بقضايا الإندماج والهجرة، تطالب بإيلاء العناية اللازمة للغات الأولى الخاصة بالأطفال من أصول أجنبية، ودمجها في المقررات المدرسية الرسمية.

في هذا السياق، تشير كاترين لوغنبوهل، من جمعية “تشجيع التعليم متعدد اللغات في سويسرا” إلى أن “هدف هذه المجموعات، هو لفت الأنظار إلى أهميّة الجهود التي تبذلها العديد من السفارات الأجنبية والمؤسسات المدنية، عبر تنظيمها دروس اللغات الأصلية (ELCO)”، إضافة إلى “دعوة المسؤولين في قطاع التعليم إلى تفعيل الإمكانات التي يتيحها نظام التعليم الأساسي الموحّد (HarmoS) في مجال تعدد اللغات”.

الأغاني والأشعار

عموما، يُلفت المختصون النظر إلى أهمية هذه اللغات في بناء هوية الأطفال من أصول أجنبية وتحقيق استقرار شخصياتهم. ذلك أن بناء هويّة الطفل من داخل ثقافتيْن مختلفتيْن “يُمكن أن يكون عاملا حاسما في إنجاح اندماجه في المجتمع وفي الميدان المهني، لما يمتلكه الفرد من ثقة في النفس وفي قدراته”، بحسب سلزمان.

بدوره، يُنوّه بيرنود إينوايات، الخبير في مجال الإندماج والعامل في قسم تعزيز تماسك المجتمع متعدد الثقافات بكانتون نوشاتيل إلى أن “كل البحوث العلمية واللسانية أثبتت أن الأجنبي الذي يُتقن لغته الأم بشكل جيّد، يتعلّم اللغات الوطنية بشكل أفضل وأسرع”. ثم يضيف، متحدثا إلى swissinfo.ch أنه “بالنسبة للأجانب البالغين الذين لا يتقنون القراءة والكتابة، نضطرّ في البداية إلى تعليمهم لغاتهم الأم، لكي يُصبح من الممكن لاحقا تعليمهم اللغة الفرنسية (اللغة الرسمية في كانتون نوشاتيل)”. 

وإذا كانت كلّ لغة تمثل نسقا يعبّرعن ثقافة بعينها، فإن إتقان تلك اللغة والتعرّف بعمق على جذورها وأساليبها التعبيرية، من شأنه بحسب هيلان شار، رئيسة شبكة المكتبات متعددة الثقافات بسويسرا (Interkulturellen Bibliotheken der Schweiz) أن “يعزّز الشعور بالإنتماء إلى المجموعة، ويُساعد في بناء شخصية متماسكة ومنسجمة، هي أقدر من غيرها على الإنفتاح على الثقافات الأخرى”، وتضيف أن “المَلكة التي يكتسبها الأطفال من أوليائهم من خلال الإستماع إلى القصص وإلى النصوص الشعرية والنثرية وترديد الأغاني، تهيّؤهم لتعلّم لغات أخرى”. 

العناية بهذا الصنف من اللغات له ارتباط أيضا بمبدإ تكافؤ الفرص أمام الجميع، حيث تعتبر سلزمان أنه “من المؤسف أن تقدّم جميع البرامج الدراسية في لغة واحدة، ولا تُعطى الفرصة للغات أخرى في أن تكون مادة تدريس في المؤسسات التعليمية الرسمية”. غير أن هذا الأثر الإيجابي لهذه العملية، لا يتحقق – وفقا لهذه الخبيرة – إلا بتوفّر شرطيْن: “إتقان تلك اللغة إتقانا جيدا، وتحصيل معارف واسعة في إطارها واعتراف المجتمع واقراره بأهميها”.

يشير الموقع الإلكتروني لوزارة التعليم بكانتون جنيف، إلى أنه لا يمكن لطلاب المدارس من أصول أجنبية تعلّم اللغة الفرنسية بشكل سليم وحقيقي، إلا إذا كانوا يُجيدون لغة ثقافتهم الأصلية، وكانت معرفتهم بها جيّدة. ولذلك، يرى مسؤولو قطاع التعليم في الكانتون، على المستويين الإبتدائي والثانوي، أنه من المهمّ تشجيع الطلاب على المشاركة في دروس تعلّم لغة الثقافة الأصلية. 

تقوم قنصليات وسفارات وجمعيات من شتى البلدان والثقافات، بتنظيم دورات لتعليم اللغات الأصلية، بالإتفاق والتعاون مع المديرية العامة للتعليم الابتدائي في كانتون جنيف في قاعات مُخصّصة للغرض بالمدارس لمدة ساعتيْن أو ثلاث ساعات في الأسبوع.

أكثر من 4000 طالب مسجّل في هذه الدروس. 

حوالي 60 مدرّسا يؤطّرون هذه الدروس. 

أكثر من 125 لغة مستخدمة في مرحلة التعليم الابتدائي. 

أهمّ هذه اللغات بالترتيب (بحسب عدد المسجلين): الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية، اللغات البلقانية، العربية.

بالنسبة للتعليم الإبتدائي في كانتون جنيف عموما: 

في موفى عام 2012، بلغ عدد الطلاب المتابعين لهذه الدروس 33.756 طالبا. 

هناك 168 مدرسة مُوزعة ضمن 79 مؤسسة تعليمية.

(المصدر: مديرية التعليم الابتدائي بجنيف)

التجربة النمساوية

في هذا المجال، تلفت هيلان شار الأنظار إلى تجربة النمسا المجاورة، حيث تجد بعض اللغات الأم لمجموعات من الأجانب طريقها إلى التعليم في المدارس الإبتدائية على وجه الخصوص، وتتكفّل الدولة هناك بدفع رواتب المدرّسين، وذلك منذ عام 1972. وحسب تقييمها، فقد “استندت التجربة النمساوية إلى موقف يثمّن دور المقيمين الأجانب في البلاد، من دون المسّ بوحدة المجتمع المحلّي وثقافته”.

ويعتقد بيرنود إينوايات، الخبير في مجال الإندماج بكانتون نوشاتيل أنه “من المفيد تدريس هذه اللغات في المدارس، وأعني هنا خاصة اللغات الممثلة للجاليات ذات الحضور الواسع في سويسرا، كالإيطالية والإسبانية والبرتغالية والتركية، وأما بقية اللغات كالتامول والعربية وغيرها، فعلى الجاليات نفسها أن تتكفّـل بتعليمها للصغار”.

ولكن رغم الترحيب الذي حظيت به المبادرة النمساوية من طرف الآباء الأجانب وأطفالهم هناك، أشارت دراسة بعنوان “تعليم اللغات الأجنبية في بلدان الإتحاد الأوروبي”، أعدّها كارلوس هيريراس، إلى أن عددا من المدرّسين ومن الخبراء لا يرون فيها سوى “إضاعة للوقت، وجهدا إضافيا يُثقل كاهل التلاميذ من دون أي جدوى”.

لومبيلاي أميليا تُقرّ مثلا بأنه من التعسّف جعل مبدأ تكافؤ الفرص متوقّفا على مسألة تدريس اللغات، وتقول جازمة: “لن يؤدي تشجيع اللغات والثقافات الأصلية، أو حتى إدماجها في النظام التعليمي الرسمي إلى تغيير شيء في الواقع”.

هوة بين القول والفعل

يلمح كل من يزور المواقع الإلكترونية الرسمية على المستويْن الفدرالي والكانتوني، الأهمية الكبرى التي توليها تلك المواقع إلى التعدّد اللغوي والتنوّع الثقافي واعتباره إثراء للثقافة الوطنية .

وشدّدت الخطة الوطنية من اجل تطوير تعليم اللغات، التي اعتمدها مؤتمر مدراء قطاع التعليم العام في سنة 2000، على ضرورة تثمين وإعلاء قيمة اللغات الأصلية، ذات العلاقة بظاهرة الهجرة. ودعت المادة الرابعة من نظام التعليم الأساسي الموحّد (HarmoS) إلى تقديم الدعم اللازم إلى دروس لغات الثقافات الأصلية، التي يتوفّر فيها الحياد الديني والاستقلالية السياسية.

لكن تلك الدعوات لم تلق إلا استجابة جزئية من المسؤولين في قطاع التعليم على المستوى الكانتوني الذين استبعدوا تدريس هذه اللغات في إطار المدارس العمومية، وإن رحَّـبوا بفكرة رعاية تعليم لغات الثقافات الأصلية (ELCO)، برغم اختلاف درجات هذا الإستعداد من مكان على آخر.

في جنيف مثلا، تعمل مديرية التعليم الابتدائي التابعة لإدارة التعليم العمومي (DIP ) على توفير الظروف الملائمة لتنظيم هذه الدروس وإيجاد الإطار الإداري، الذي يقوم بعملية التسجيل والاتصال بالأولياء، وتوفير دورات تدريبية للمدرسين لتحسين الأداء وإلحاق النتائج الدراسية السنوية بالملف المدرسي للطلبة”، هذا على المستوى الابتدائي.

وأمّا على المستوى الثانوي، تقول ماريان لونزار، رئيسة قسم الطلاب بمديرية التعليم الإبتدائي بكانتون جنيف: “تنظّم إدارة التعليم بجنيف دروسا خاصة بلغات الثقافات الأصلية، إذا عبّر عشر طلبة عن استعدادهم  لمتابعة هذه الحصص. وتنظّم هذه الدروس بالتعاون مع قنصليات وسفارات البلدان الاصلية”.

كما يوجد بجنيف برنامج “مدارس مفتوحة للغات”، والذي يسمح من خلاله لمدرّسين زائرين بالقيام بأنشطة في الفصول الدراسية، لتعريف الطلبة بلغاتهم وثقافات أجنبية.

يحتاج الأمر إلى مزيد من البحث

وأما في زيورخ، فيشترط الكانتون حيازة المُدرّسين للغات الثقافات الأصلية على تكوين بيداغوجي في المؤسسات السويسرية المتخصصة، وأن يكون المُدرّس على اتصال دائم بزملائه في المدارس الحكومية وعلى اطلاع على البرنامج الدراسي الرسمي بالكانتون. ولكن ما ينقص هذا الجهد، هو ضعف المتابعة من إدارة الكانتون وقلة الإلتزام من الطرف الثاني.

رغم كل ما سبق، لا يحظى الحديث عن جدوى تعلم لغات الثقافات الأصلية، بالإجماع المطلوب في سويسرا. وهنا تشير لومبيلاي إلى النقص الكبير في الدراسات والبحوث الإستقصائية الميدانية حول أهمية هذه الأنساق اللغوية. كما تقوم الباحثة السويسرية ماغالي ديسغريب (Magalie Desgrippes) حاليا بإعداد أطروحة دكتوراه حول تنمية مهارات الأطفال في مجال اللغات الأصلية وتأثيرها على قدراتهم في اكتساب اللغات الوطنية.

وفي محاولة منها لكسب المزيد من الدعم والإقناع بأطروحاتها، تعتزم مجموعات الضغط التي تقف وراء الدعوة إلى تعليم هذه اللغات تنظيم يوم دراسي في العاصمة الفدرالية في شهر يناير 2014.

تعاضد دروس لغات الثقافات الأصلية شبكة واسعة من المكتبات متعددة اللغات والثقافات، تتوزّع على 22 كانتونا، وتغطي أغلب المدن الكبرى في سويسرا.

أنشئت هذه المكتبات في عام 1993 بمبادرة خاصة من خلال تعاون وثيق بين السكان المحليين والمقيمين الأجانب، من أجل تشجيع المطالعة والكتابة وتعزيز التعدّد اللغوي.

تلعب هذه المكتبات دورا مميزا في حياة الكثير من المهاجرين، وهي بحسب السيدة شار: “مؤسسات ثقافية تسدّ النقص الواضح في مجال الكتاب باللغات الاجنبية في المكتبات العامة والخاصة، وهي أيضا منتدى للالتقاء والحوار بين الافراد المنتمين لثقافة واحدة أو الأفراد والمجموعات الذين مروا بتجارب مشابهة، ومن خلالها يستعيدون شيئا مما تركوه وراءهم بمغادرتهم لأوطانهم ، ويتزوّدون منها بما يحفّزهم إلى الإنفتاح والمشاركة في المجتمع الإقامة”.

تنظم هذه المكتبات حاليا معرضا يقدّم 15 أسلوبا مختلفا في التدوين والكتابة، ويُثبت أن الكتابة لم تبدأ مع ظهور الحروف الهجائية ولا تتوقف عليها.

تشرف هذه المكتبات على مشروع آخر مُوجّه للشباب، يستحثّ فيهم مهارة الكتابة الروائية بهدف إقناعهم بأنهم ليسوا مجبرين على استخدام اللغات المحلية فقط في التعبير عما يخالج نفوسهم.

 

تنظم هذه المكتبات بالإشتراك مع جمعية “تشجيع التعليم متعدد اللغات في سويسرا” يوما دراسيا في العاصمة برن يوم 18 يناير2014 حول “مستقبل تعليم اللغات الأم في سويسرا”، وكيفية تطوير هذا الإختصاص.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية