“بول كلي أهداني المفتاح الذي علّمني سرّ الجماليّات في بلدي”
أسدل الستار على "ملتقى الفنون" الذي نظمه "المركز الثقافي الدولي بالحمامات" على مدى ثلاثة أيام (7 و8 و9 من شهر فبراير 2014)، وكان وقفة فنية رفيعة المستوى انتظمت تحت عنوان مثير للإنتباه "ربيع آخر لبول كلي بالحمامات بعد مائة سنة"، وتنوعت العروض فيها ما بين رسم وموسيقى وسينما.
في هذا الإطار الأنيق والجميل، تم عرض شريط سينمائي للمخرج “برينو مول” «رحلة إلى تونس»، تم على إثره حوار عميق أداره الرسام والمخرج الناصر خمير بطريقته الخاصة، الذي اشترك في إخراج الشريط، ومهّد بكلماته للحلقة الدراسية التي خُصّصت إثر ذلك للنظر والدفع نحو “توظيف رحلات كبار الفنانين إلى تونس كشكل من أشكال تعزيز السياحة التونسية”.
هكذا اكتشفتُ بول كلي
لكن ما الذي دفع بناصر خمير إلى التوقف مُطولا عند هذا الرسام السويسري الذي زار العاصمة التونسية عشية انطلاق الحرب العالمية الأولى، أي قبل قرن من الآن؟
سؤال طرحناه على هذا المبدع التونسي الذي أثارت أعماله السينمائية ردود فعل واسعة في صفوف النقاد، فكان جوابه كما يلي: “لم يتسنّ لي أن أسال نفسي ما الذي شدني إلى بول كلي، إلا أني اكتشفته في الثالثة عشرة من عمري. كان بالنسبة لي المنفذ الفريد لفهم جماليات ما يُحيط بي من معمار وألوان وزينة وضوء، كنت في ذلك الحين مُغرما بالرسم”.
وأضاف خمير: “اكتشفت الرسم الغربي في حالة غربة، وأرجعني بول كلي إلى بلادي ومحيطي كما يفعل خال أو عم وجدك تتسكّع على أرصفة باريس أو أوروبا. وهكذا من خلاله عدتُ إلى بلادي لا كفقير متسكع ولكن غنيا برؤية تتجدد وتخلق امتدادا لحضارة قد ولاّها أبناؤها ظهورهم، فكان بول مفتاح الرؤية في سنواتي الأولى حسّا ورسما وإبداعا”.
رسوماته “فُسحة للخلق”
هذه الإجابة زادت من حجم الرغبة في معرفة طبيعة هذه العلاقة التي انطلقت بين الرجلين منذ الصغر رغم اختلاف السياق وتباعد المرحلة الزمنية، فكيف كانت رحلة الغوص في شخصية بول كلي؟ هل شدتك ألوانه الثابتة في رسومه أم سيرته الذاتية المثيرة؟
أجاب الفنان التونسي متحدثا عن زميله المبدع السويسري قائلا: “في الحقيقة، أعتقد أنّ كل إنسان عالم فريد يمكن مصافحته ويصعُب معرفته، والفنان لغز، مثلما تقول الآية “قُـل الرّوح من أمر ربّي”، ولكن شيئان يمثلان المدخل لبول كلي: الأول، نظرتُه من خلال صورة فوتوغرافية له بالأبيض والأسود التي تعبّر عن حسّ إنساني، والثاني، رسوماته التي هي المرتع الحقيقي التي تجوّلت فيه وكانت في ذات الوقت درسًا وفسحةً وخلقًا بلا حدود”.
الناصر خمير، مخرج سينمائي تونسي
هو من الفنانين القلائل الذين أتوا بلادنا ولم ينظروا لنا كديكور يُطعّم لوحاتهم أو يستمدّوا منه موضوعا أو مادة يثري فنّهم
“لم ينظر لنا كديكور”
بما أن ناصر خمير قد تحدث عن الفسحة والخلق بدون حدود، فقد سألناه حول ما إذا كان لبول كلي دور في توثيق العلاقة بين الشرق والغرب من خلال أعماله، وبشكل أدق، هل كان جسرا فاعلا في تقريب المسافات بين تونس وسويسرا؟
من وجهة نظر خمير، يُعتبر بول كلي “من الفنانين القلائل الذين أتوا بلادنا ولم ينظروا لنا كديكور يُطعّم لوحاتهم أو يستمدّوا منه موضوعا أو مادة يثري فنّهم. لم ينظر لنا كأشباح أو كعالم بدائي يعرضه في صالونات ومتاحف العواصم الأوروبية. ولأصدقك القول، في نظري هو الوحيد الذي لمّا أتى البلاد فتح روحه على مصراعيها فولج فيه العالم بألوانه وحسّه وفكره وفنّه وحضارته وجعل في وجدانه شرقا حيا إنسانيا. اكتشف بول كلي ينبوعا فنيا حضاريا فنظر إليه بافتتان، ونهل منه بغبطة فأجّج فيه حركة الخلق، فكان له مسلكا فنيا فريدا وطريقة جديدة لوضع الألوان ورسم التجسيمات” .
واختتم الناصر خمير ردّه باعتراف بالجميل قائلا: “لقد أهداني من حيث لا يعلم المفتاح الذي علّمني سرّ الجماليّات في بلدي وحبّب لي الأشياء التي حكم عليها المجتمع في أكثر الأحيان بالإندثار”.
لم تبق تجربته معزولة
هذا الإعتراف بالفضل لم ينفرد به ناصر خمير، ولكن أقـرّ به أيضا رسام تونسي آخر له تجربة طويلة في مجال الإبداع. فقد أشار حمدة دنيدن إلى أن الفنان بول كلي يُعتبر “من أهم الفنانين التشكيليين في القرن الماضي وإلى يومنا هذا، فكما يعرف، تصاعد نجمه في أواخر الحرب العالمية الثانية، وقد كانت زيارته لتونس سنة 1914 صحبة صديقه مايك الأثر العميق في تحقيق حلمه المنشود والنابع من باطنه وبناء شخصيته الفنية”.
وفي تصريح إلى swissinfo.ch، أضاف الرسام حمدة دنيدن أن كلي “وجد في تونس تجاوبا وانعكاسا لشعوره الذاتي، فهو إذ يختلف عن المستشرقين في الفنون والآداب فلا مقارنة ولا تشابه، فهو يتمتع بأسلوبه الطريف المتحرر وقراءته العميقة والمتعمقة في المحيط التونسي”، كما أن “انغماسه في المخزون الثقافي والتراثي من رموز وأشكال وهندسة – ومنه الخفي أو المتهمش – كل هذا جعله من أهم الرواد للفن المعاصر على الإطلاق”.
وبسؤاله عما إذا كان لبول بصمة ما على مدارس الرسم في تونس، اعتبر أنه “لم تبق تجربة هذا الفنان معزولة، فهي تختفي حينا وتطفو حينا آخر لتقرأ من جديد. لكن مع ذلك لم تتأثر الساحة الفنية بأعماله في تونس نظرا للثقافة السائدة ٱنذاك والإنغلاق الكلي للفكر إلى جانب أسباب أخرى يطول شرحها. لكن اكتشافه تونس كان له أثر طيب وساعد كثيرا على التعريف بتراثنا وهويتنا المنفردة والمتميزة في حوض البحر المتوسط”.
ودعت الحمامات بول كلي بعد عرض مُجمل الأعمال التي أنتجها عدد من الرسامين خلال الأيام الثلاثة من التظاهرة، لكن الرسام السويسري مدعُـو مرة أخرى، بعد أقل من شهر لتنظيم عرض آخر بنفس المدينة، ما بين 18 و30 مارس القادم، لاستكمال الإحتفال بهذا الرسام المُرهف الإحساس الذي قال يوما عن تونس: «لقد أخذني وتمّلكني اللون… أصبحنا أنا واللون واحدا».
1879: ولد بول كلي يوم 18 ديسمبر في مونشنبوخسي قرب العاصمة السويسرية برن في أسرة ألمانية.
1898-1901: ذهب إلى ميونيخ بألمانيا حيث التحق بمدرسة الرسم الخاصة “هاينريش كنير” ثم أكاديمية “فرانس فون شتوك”.
1901-1902: قام برحلة دراسية إلى إيطاليا صحبة الباحث هيرمان هالر.
1902-1906: عاش في برن حيث عمل عازف كمان في جمعية برن الموسيقية.
1906: تزوج بعازفة البيانو ليلي شتومبف واستقر الزوجان بمدينة ميونيخ.
1907: ميلاد ابنهما الوحيد فيليكس.
1911: يتعرف خلال زيارة لصديق الطفولة لويس موايي على أوغوست ماكي، ثم على كانديسكي في الخريف.
1914: يزور تونس رفقة لويس ماويي وأوغوست ماكي، ويزورون العاصمة التونسية والحمامات والقيروان.
1916 – 1918: يؤدي الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الألماني.
1928/29: سافر إلى مصر حيث قضى أربعة أسابيع.
1933: هاجر مع زوجته إلى سويسرا بعد أن طرده النازيون من ألمانيا.
1934: تقدم بأول طلب للحصول على الجنسية السويسرية. وتم رفضه.
1935: ظهور أولى أعراض مرض خطير سيتم تشخيصه بعد وفاته على أنه تصلب جلد متطور عضال.
1939: أعاد تجديد طلب التجنيس.
1939: بلغ الإنتاج الفني لبول كلي رقما قياسيا من حيث الكم: 1253 عملا إبداعيا.
1940:وافته المنية يوم 29 يونيو في لوكارنو-مورالتو في كانتون تيتشينو جنوب سويسرا، وذلك قبل أسبوع واحد من إعلان سلطات برن قرارها بمنحه الجنسية السويسرية في الخامس من يوليو 1940.
مركز ذو صبغة وطنية ومتوسطية ودولية تشرف عليه وزارة الثقافة التونسية. ويعتبر من أهم المعالم الثقافية لمدينة الحمامات الواقعة شمال شرق البلاد.
تتمثل أهم مكونات المركز في دار “سيبستيان”، وهي في الأصل مقر إقامة بناها عام 1927 جورج سيباستيان، وهو ثري أمريكي من أصل روماني.
تمتاز دار “سيبستيان” بهندستها المعماريّة التقليديّة التونسية وتحيط بها حديقة تتواجد فبها مختلف أنواع النباتات المتوسطيّة. وبعد أن أصبحت في عام 1959 ملكا للدولة التونسية، تم تحويلها إلى مركز ثقافي دولي.
يتوفر المركز أيضا على مسرح الهواء الطلق الذي شُيّد عام 1964، وتبلغ طاقة استيعابه 1200 متفرج.
يُشرف المركز على إدارة المهرجان الدولي بالحمامات الذي انطلق عام 1966، وينتظم سنويا في شهري يوليو وأغسطس، لتقدم فيه العروض المسرحية والفنية وغيرها.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.