بول كلي: “بـسـاط الذّكرى” يروي رحلة البحث عن الشرق
يتواصل في "مركز بول كلي" بالعاصمة برن – من 30 مايو إلى 30 أغسطس 2009 – الجزء الثالث والأخير من معرض "جولة الشرق الكبرى" تحت عنوان "بول كلي. بساط الذكرى".
المعرض يسلط الضوء على الجوانب المرتبطة شكلا ومضمونا بموضوع الشرق والثقافة الفارسية والعربية في أعمال الرسام بول كلي الذي كان قد تأثر برباعيات الخيام وبأشعار حافظ الشيرازي قبل زيارته إلى تونس ومصر.
أول شيء يـُلفت انتباه الزائر لمعرض “بساط الذكرى” عدم اقتصاره على تقديـم أعمال الرسـّام بول كلي، بل احتوائه على باقة من تُحف فنون الإسلام العريقة التي تعود أقدمها لعام 950 بعد ميلاد المسيح وأحدثها لبداية القرن العشرين، إلى حدود عام 1920.
التحف وُضعت في خزائن بلورية أنيقة.. فهنا زربيتان من جبال الأطلس المغربية، وهناك سجاد يعود لعصر المماليك بمصر.. ثم لوحة زينتها قصيدة بصرية هندية.. وسرعان ما تجلب عين الناظر أواني معدنية وخزفية.. وإبداعات فن الخط العربي والفارسي.. وأنسجة مُزخرفة بالألوان والرموز..
هذه القطع الفنية وكثير غيرها تأخذنا في جولة تاريخية في العالم الإسلامي من الهند إلى إسبانيا الأندلسية. وقد انتقاها خبراء من التراث الفني لبلدان العالم العربي والإسلامي، مثل مصر وسوريا والمغرب وإيران والمملكة العربية السعودية… لكي يـُوضع زوار معرض “بساط الذكرى” في الأجواء التي تأثر بها رسامو الغرب قبل ذهابهم إلى عين المكان واحتكاكهم الفعلي بالمشرق.
وتقول مُرشدتنا كارول هاينسلر: “لقد استعنا بخبراء من جامعة السوربون بباريس الذين عرضنا عليهم أعمال كلي المتعلقة بالشرق، سواء من خلال العنوان أو الإلهام المواضيعي، أو هيكلة الصورة، وفكروا انطلاقا من ذلك في أعمال فنون الإسلام التي يجب اختيارها كخط أحمر مُوجّه لهذا المعرض. وكان التوجهان اللذان فرضا نفسهما هما فن الخط والميل إلى التجريد في الزينة”.
كـْلِـي تفاعل مع الشرق وفـُتـن به
معرض “بساط الذكرى ” أراد الغوص في أعمال بول كلي لـيُظهر كيف تفاعل هذا الفنان مع الشرق، وليُبـْرز العمل الذي قام به عندما حط قدميه هناك، وما تعلـّمه واستخلصه من تلك التجربة الثرية التي ساهمت في تطوّر إبداعاته، وكيف استخدم المعلومات التي جمـّعها في رحلاته ثم أعاد توظيفها في أعماله، سواء كانت رسوما أو انطباعات أو ذكريات.
وتـُذكرنا مرافقتنا كارول هاينسلر بأن مسيرة بول كلي تميزت بـ “تفاعل واضح” مع الشرق. فالرحلتان اللـَّتان قام بهما إلى الشرق، تمتا في مرحلتين مختلفتين جدا من تطوره الفني: الأولى التي استغرقت عشرة أيام إلى تونس رفقة صديق الطفولة لويس موايي وصديق سن الشباب أوغوست ماكي، كانت في وقت مُبكر جدا، في عام 1914، وكان كلي وصاحباه اللذان لحقا به آنذاك لا يزالون يتعلمون ويكتشفون أشياء وتقنيات جديدة.
وتقول كارول هاينسلر عن تلك الفترة: “عمـِل كلي كثيرا على الرسوم المائية وحاول أن يشتغل انطلاقا من الأبيض بالتحديد لجلب الضوء وليس البدء باللون، كما تميزت تلك الرحلة بدينامية أجواء السفر والصداقة واللعب وروح العمل الجماعي والمنافسة نوعا ما بين أوغوست ماكي وبول كلي اللذين اختارا نفس الموضوع وأرادا معرفة كيف سيعالجه كل واحد منهما”. ويتيح معرض “بساط الذكرى” للزائر تأمل بعض أعمال ماكي في تونس إلى جانب لوحات لكلي.
أما الرحلة إلى مصر فكانت أثناء شتاء 1928/1929 من تمويل “جمعية كلي”. وهذه المرة، سافر الفنان بمفرده بعد فترة انتظار وشوق كبيرين. لكن إنتاجه الفني في عين المكان لم يكن غزيرا خلافا لما تميزت به رحلته إلى تونس (حيث زار العاصمة وقرطاج وسيدي بوسعيد والقيروان) من رسوم أبدعها في عين المكان ومن تركيز على هندسة وبناء اللوحات.
في المقابل، عاد كلي من مصر بانطباعات كانت أساسا لأعمال لاحقة. وتقول هاينسلر عن اكتشاف بول كلي لبلاد الأهرام: “هذه الزيارة كانت في المقام الأول مناسبة للغوص في أجواء وفلسفة مصر القديمة، فهو فـُتن حقـّا بالكتابة الهيروغليفية. وعلى مستوى المناظر، فـُتن بهيكل المشاهد لاسيـّما على طول النيل، وطوّر انطلاقا من ذلك سلسلة من الأعمال تستند بقدر كبير للرياضيات وتستخدم عمليات الأعداد الكاردينالية، لكن كل هذا حدث بعد عودته”.
كما أشارت هاينسلر إلى أن كلي تأثر قبل تحوله إلى مصر بصور التنقيب عن الآثار في مقبرة توت عنخ آمون وغيرها من عمليات التنقيب الموالية في وادي الملوك التي رآها في المجلات والصحف، واستلهم منها طريقة تقطيع لوحات استخدمها لخلق لوحات أخرى وإتمامها.
ويوثق معرض “بساط الذكرى” رحلة كلي إلى تونس ومصر بالخرائط وبالبطاقات التي كان يبعثها إلى أسرته وأصدقائه ومعارفه والمواد التي عاد بها أو اشتغل عليها بعد أسفاره، مثل العرائس اليدوية التي صنعها لابنه فيليكس، ودمى “حلاق بغداد” و”السلطان” وبورتريه بول كلي الشخصي بزيه وقبعته الشرقيين.
فنون الإٍسلام ولوحات كلي
قطع فنون الإسلام المعروضة في القاعات الفسيحة لـ “بساط الذكرى” تسمح للزائر بمتابعة تطور الكتابة في فنون الإسلام، إذ تحولت من أداة عـَمـَلية إلى عنصر للزينة والزخرفة. وهذا التطور نجده أيضا في لوحات بول كلي، مثلما توضح الخبيرة كارول هاينسلر التي تـُذكرنا بأن كلي استلهم في بعض أعماله من الحروف الأبجدية اللاتينية، بحيث حاول تفكيك الجمل واللـّعب بكل حرية بالكلمات من أجل فتحها لتصبح خطا وتخلق مفردات تبتعد عن المعاني الداخلية للكلمات، إذ تتحول إلى مفردات شكلية خاصة بالرسم تتوقف عند المستوى البصري.
وترى هاينسلر في هذا الجانب موازاة جيدة وطريقة تفتح آفاقا جديدة لقراءة أعمال كلي من خلال تعميق الفهم بفنون الإسلام وما تتميز به من زخرفة ورموز، مضيفة: “نستنتج من كل هذا، مثلما يحب مدير مركز بول كلي ترديده، أنه لا يوجد صراع حضارات، بل أرضية مُشتركة طُوّرت في فترة أو أخرى بشكل مُختلف حسب الثقافة التي نترعرع فيها والمسار التاريخي”.
وتنوه هاينسلر إلى أن الزخرفة كانت إحدى المشكلات التي ارتبطت بأعمال كلي الذي كان يوصف بـ “فنان زينة”، وهو نعت كانت له دلالات سلبية في عصره وحاول محاربته، مما يفسر الراديكالية التي تميز بها فنه والتي هدف من خلالها إلى شرح أفضل لانتقال رسومه إلى أبعاد تُعتبر زخرفة في حد ذاتها لكنها في الجوهر مسيرة بحث عن طرق جديدة لتمثيل الأشياء.
ومن أعمال بول كلي المعروضة التي تظهر تأثره بالكتابة السامرية والكتابة الهيروغليفية وفن الخط العربي، لوحة “إنسولا دولكامارا” (جزيرة الحلو والمر) التي رسمها في وقت متأخر من حياته وتُفسـّر من قبل بعض الأخصائيين على أنها شكل من أشكال سيرته الذاتية، بحيث قد يشير الوجه الشاحب الذي يتوسط الصورة إلى البورتريه الشخصي لكلي المرهق الذي كان يعلم أنه مصاب بمرض عضال.. لكن التأويلات كثيرة والرموز تترك للمُتلقي حرية التفسير…
محطات قوية في رحلة “بساط الذكرى”
اسم معرض “بساط الذكرى” هو بمثابة تكريم للوحة كلي التي تحمل نفس الإسم والتي تعتبر محطة رئيسية في هذه الجولة. وتقول كارول هاينسلر عن هذا العمل الإستثنائي الذي أنجزه في عام 1914 وأعاد الإشتغال عليه إلى عام 1921، بأنه “مثال نموذجي لعمل كلي الذي اعتمد فيه على كشط جوانب اللوحة واستخدام الخيش (الجوت) لإعطاء الإنطباع بأن اللوحة تشبه النسيج في صورة ثنائية الأبعاد. فهو استخدم الكتان عمدا ولصقه على الكرتون لكي يظهر باليا. وفي لوحات اخرى استخدم شراريب القماش لتبدو مثل الزرابي”.
وتذكر هاينسلر بأن كلي كان في هذه المرحلة من حياته يعيد استخدام أعمال كان يعتبرها غير مُكتملة من خلال الرسم فوقها أو خلفها لأسباب مالية بحتة، بحيث لم يكن يستطيع شراء لوحات جديدة أو قماش الرسم أو الورق العالي الجودة، وكان يكتفي بالرسم على الصحف أو ورق التغليف. فهو كان يولي أهمية خاصة للورق الذي لديه قصة وحياة.
ومن الأعمال المُبهرة في المعرض لوحة “الصخرة الإصطناعية” (1927) التي كلما اقتربتَ منها كلما ارتفعت درجة الضوء فيها، فعلى بعُد بضعة أمتار، قد تبدو لك كسحابة غامقة تتوسطها بُقع فاتحة بدرجات مختلفة من الأحمر الأرجواني، وعندما تتقدم بخطى بطيئة نحوها ربما تبدو لك رموزها وخطوطها ومربّعاتها الفسيفسائية أشبه بكفّ عروس منقوشة بالحناء بحيث تشتمل على مساحات متقاطعة مليئة بالزخارف الصغيرة العمودية والأفقية والمائلة.
وفي زاوية العرض المجاورة يمكنك تأمل “بوابة مسجد” (1931) ذات المربعات الصغيرة الملونة المتأثرة بوضوح بـ “الفسيفساء الشرقية” وليس الرومانية، مثلما تؤكد كارول هاينسلر. وقبالتها لوحة “دراسة الفسيفساء” (1925) التي تُشبه بالفعل الصورة التي تلتقطها العين لأشكال مُلونة داخل غرفة مُظلمة وتظل راسخة أمامها عندما تخرج إلى الضوء. فهي تتشكل من مربعات مُلونة صغيرة غير منتظمة من حيث الخط واللون، وكأن كلي بعثرها على مساحة اللوحة لتشبه في نهاية المطاف تلك الذكريات الجميلة التي ربما تفقد وضوحها وتفاصيلها لكن تحتفظ بعمقها وقيمتها..
إصلاح بخات – برن – swissinfo.ch
1879: ولد في بول كلي يوم 18 ديسمبر في مونشنبوخسي قرب العاصمة السويسرية برن في أسرة ألمانية.
1898-1901: ذهب إلى ميونيخ بألمانيا حيث التحق بمدرسة الرسم الخاصة “هاينريش كنير” ثم أكاديمية “فرانس فون شتوك”.
1901-1902: قام برحلة دراسية إلى إيطاليا صحبة الناحث هيرمان هالر.
1902-1906: عاش في برن حيث عمل عازف كمان في جمعية برن الموسيقية.
1906: تزوج بعازفة البيانو ليلي شتومبف واستقر الزوجان بميونيخ.
1907: ميلاد ابنهما الوحيد فيليكس.
1911: يتعرف خلال زيارة لصديق الطفولة لويس موايي على أوغوست ماكي، ثم بكانديسكي في الخريف.
1914: يزور تونس رفقة لويس ماويي وأوغوست ماكي، ويزورون العاصمة التونسية والحمامات والقيروان.
1916-1918: يؤدي الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الألماني.
1928/29: سافر إلى مصر حيث أمضى أربعة أسابيع.
1933: هاجر مع زوجته إلى سويسرا بعد أن طرده النازيون من ألمانيا.
1934: تقدم بأول طلب للحصول على الجنسية السويسرية. وتم رفضه.
1935: ظهور أولى أعراض مرض خطير سيتم تشخيصه بعد وفاته على أنه تصلب جلد متطور عضال.
1939: أعاد تجديد طلب التجنيس.
1939: الإنتاج الفني لكلي يبلغ رقما قياسيا من حيث الكم، 1253 عملا إبداعيا.
1940:وافته المنية يوم 29 يونيو في لوكارنو-مورالتو في كانتون تيتشينو جنوب سويسرا، وذلك قبل أسبوع واحد من إعلان سلطات برن قرار منحه الجنسية السويسرية في الخامس من يوليو 1940.
افتتح الجزء الأول من معرض الشرق في مركز بول كلي بالعاصمة الفدرالية برن من 07.02 إلى 24.05.2009، تحت عنوان “البحث عن الشرق. من بلليني إلى كلي“.
يستمر الجزء الثاني من المعرض من 28 فبراير الماضي إلى 16 أغسطس 2009، ويحمل عنوان “الحلم والحقيقة. الفن المعاصر من الشرق الأوسط“. ويعرض أعمالا ذات طابع حضري وعصري لفنانين من بلدان مشرقية مثل لبنان وتركيا وإيران. ويضم أشرطة وثائقية بعضها يسلط الضوء على التناقض بين التقاليد والحداثة، وأفلام خيال تضفي بعدا جماليا على واقع المنطقة بطريقة ذاتية وشاعرية.
كما يعرض مجموعة من التحف الفنية، من أبرزها تخطيط مدينة بيروت على قطعة مطاط عملاقة للفنان مروان رشماوي. كما يمكن للزائر الاستماع لموسيقى مجموعة “نوريون” Norient لتوماس بوركهالتر (من برن). ويضم المعرض أعمالا لفنانين سويسريين يستفيدون من برنامج ثقافي في القاهرة.
انطلقت فعاليات الجزء الثالث “بول كلي.. بساط الذكرى” يوم 30 مايو الماضي وتتواصل إلى 30 أغسطس 2009.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.