جوزيف بويز: فنٌ عظيمٌ مَبني على أكاذيب أعظَم
كان جوزيف بويز أحد أشهر الفنّانين الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبمناسبة الذكرى المئوية لميلاده يوم 12 مايو الجاري، يكشف مؤَلِّفُ سيرةٍ ذاتية جديدة للفنّان والنحات والرسّام الراحل عن صلاته بالنازية، والدَّعْم الذي تَلَقاه من دور النشر الفَنيّة وأمناء المتاحف السويسريين.
المزيد
نسف الأساطير حول جوزيف بويز
في مقابلة مع SWI swissinfo.ch، يناقش المؤَلِّف وصانع الأفلام والمُصَور هانز بيتر ريغَل المُقيم في زيورخ، الطبعة الثانية المكونة من أربعة مجلدات من السيرة الذاتية لـ جوزيف بويز، التي تُسلِّط المَزيد من الضوء على الفنان الألماني، وتكشف زَيْف العديد من الأساطير التي اختَلَقَها الفنان عن نفسه. ومن المُتَوَقَّع أن تُنشَر الترجمة الإنجليزية للمُجَلَّدَين الأولَين في الثلاثين من شهر يونيو 2021.
في كتابه، يُسلِّط ريغل الضوءَ على سنوات شباب بويز زمن الحرب العالمية الثانية، التي أمضاها كعضوٍ في الشبيبة الهتلرية [التي كانت تضم أغلبية كبيرة من الأطفال والمراهقين الألمان في ذلك الوقت ]، ومتطوع في القوة الجوية الألمانية. كما يشير إلى احتفاظ الفنان المُثير للجدَل بعلاقاته مع الضباط النازيين السابقين والمصرفيين ورجال الأعمال حتى نهاية حياته.
كان بويز شغوفاً جداً بالسياسة. وقد جَذَبَ الانتباه لأول مرّة أوائل الستينيات عندما كان أستاذاً في أكاديمية دوسَّلدورف للفنون الجميلة في ألمانيا من خلال كَسرِهِ للبروتوكولات والتسلسلات الهرمية. كان استفزازياً خلال العروض العامة، وكان في طليعة الحركة البيئية في أعوام السبعينيات. وقد آلت هذه الحركة إلى حزب الخُضر الألماني – الذي طَرَد بويز في نهاية المطاف بعد وقت قصير من تأسيسِه.
المزيد
هكذا تحرك بويز في بازل سنة 1971
لكن قصة حياته كما رواها بويز نفسه كانت عملاً خيالياً مثيراً للإعجاب لَمْ يختَلِف عليه إثنان حتى سنوات عديدة بعد وفاته في عام 1986. وفي عام 2013 فقط، نَشَرَ ريغل – الذي التقى بـبويز لأول مرة في عام 1973 وعرفه جيداً منذ ذلك الوقت – سيرةً ذاتية للفنان الألماني تتعارض مع العديد من الافتراضات حول حياته، وعمله، وسياسته وفلسفته.
swissinfo.ch: عندما قرأتُ كتابك في عام 2014، لم أحكُم على ما إذا كان بويز نازياً أو مُنتَحلاً أو أي شيء آخر، لكنني خلصتُ إلى أنه كان فناناً وفرداً أكثر تعقيداً بكثير مما كنا نعتقد.
هانز بيتر ريغل: ربما كان بويز مريضاً عقلياً. فالأدلة الظرفية تشير إلى أنه كان يعاني من مشاكل صحية عقلية خطيرة. وقد أخبرني البروفيسور أندرياس ميركر، وهو خبير في أمراض ما بعد الصدمة، أن بويز – برأيه – كان رجلاً مريضاً. المُشكلة أنه كان ذو وَجهَين. كانت هناك الشخصية العامة، حيث نرى المُفَكِر اليساري بعيد النَظَر المُناصِر لحزب الخضر والذي يتطلع للمستقبل. لكن بويز في حقيقتة كان محافظاً للغاية وعالقاً في الماضي. لم يكن يحب الموسيقى الحديثة أو السلوك المعاصر. لقد كان رومانسياً ألمانياً بحتاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه كان يكذب أيضاً في نواحٍ كثيرة. اعتاد بويز أن يقول إنه مُجَرَّد فنّان، مما سمح له بكتابة سيرته الذاتية بِحُرية. لقد كذب بشأن دراسته للعلوم الطبيعية، كما كذب بشأن حياته المهنية أثناء الحرب، وكذلك بشأن ماضيه الإشتراكي القومي. كانت كلها مَحض أكاذيب.
لقد قال في مواقف كثيرة إنه بطل حرب، وإنه حاصل على العديد من الميداليات – حتى الصليب الحديدي. لكنه في الواقع لَمْ يكن بطل حرب أبداً لأنه لم يُصَب بجروحٍ خطيرة. لست أدري لِمَ كان عليه أن يكذب بهذا الصدد.
swissinfo.ch: في ضوء كل هذا، ما هو الجزء الذي كان أصعب بالنسبة لك عند البحث في سيرته الذاتية وكتابتها؟
هانز بيتر ريغل: بداية، كان هناك الارتباط الشخصي، لأنني كنت أعرف بويز جيداً وكنت مُعجباً به. لقد كان شخصاً لطيفاً جداً. عندما توجهت إلى الأرشيف التاريخي الألماني في برلين، وضعوا الملفات النازية لمُمَوِّلِه كارل فاستابيند على طاولتي. في تلك اللحظة، أدرَكتُ مدى ارتباط بويز بالدوائر النازية. كان هذا صدمة حقيقية بالنسبة لي، لأنني كنت أحمل صورة مختلفة تماماً عن هذا الرجل.
مثل أي شخص آخر، كنت مُخطِئاً في اعتقادي بأنه كان مؤيداً حقيقياً للخُضر وشخصاً ذا رؤية يسارية. كنت أعرف عن تردد بعض الشائعات في الأكاديمية بدوسَّلدورف وفي بعض الدوائر الأخرى، التي تقول أن بويز كان قريباً جداً من هذه الطائفة الجرمانية، هذه الطائفة القديمة للبطل الجرماني.
لقد تَحَدَّثتُ مع الناشر عدة مرات، لأن صورة بويز قد تتحطم تماماً في حال تَعَمُّقي في البَحث. بدوره، عبَّر الناشر أيضاً عن قلقه؛ فالجميع كان يعلم أن ذلك سوف يُسبِبُ الكثير من المشاكل. مع ذلك، نَشرَت مجلة ‘دير شبيغل’ الاسبوعية الألمانية مقالاً نقدياً من خمس صفحات، أكَّدَت فيه النتائج التي توصلت إليها. ومعروف ان هذه المجلة الإخبارية تتعامل مع عملية التحقق من المعلومات بجدّية كبيرة.
swissinfo.ch: عند النظر إلى مكانة بويز في المَشهد الفني الغربي ما بعد الحرب، يتبادر السؤال عن سبب عدم ترجمة سيرته الذاتية حتى الآن؟
هانز بيتر ريغل: كانت هناك قضايا تَعاقُدية بالنسبة للطبعة الأولى – ولكن كان هناك نَقْص في الاهتمام أيضاً، لأن بيوز موضوع غير مُربح في الولايات المتحدة.
عندما أقام بويز معرضه الكبير في متحف ‘غوغنهايم’ بنيويورك عام 1979، كانت التَقييميات بشأنه سيئة للغاية. هناك تأثير يهودي قوي على المشهد الثقافي الأمريكي، ولم يَحظ بويز بقبول العديد من النُقّاد اليهود مثل بنيامين بوشلوه. وقد أصبح الفنان الألماني منذ ذلك الحين شخصاً غير مرغوب به في الولايات المتحدة.
swissinfo.ch: رغم تراجع بوشلوه عن بعض تعليقاته النَقدية، لكنه أصَرَّ على أن بويز كان سطحياً ولا يمكن اعتباره فناناً جاداً.
هانز بيتر ريغل: هذا صحيح. لكن المسألة هي أن الناس في الولايات المتحدة أدرَكوا في وقت مبكر جداً أن بويز إنما كان يلعب بموضوع أوشفيتس، وبأنه لَمْ يأخذ هذه الأمور على مَحمَل الجَد. وحتى يومنا هذا، يوجد هناك العديد من الكتّاب الذين يحاولون وَصْف عالم بويز باعتباره تَنفيس عن الهولوكوست. لكن هذا غير صحيح، لأن بويز لم يكُن مَهتماً أبداً بالتعامل مع موضوع الهولوكوست بِجِدّية.
swissinfo.ch: ما مَدى عُمق علاقات بويز السويسرية؟
هانز بيتر ريغل: كان أول شخص يُسَوِّق لـ بيوز هو أمين المتحف ومؤرخ الفن السويسري ديتَر كوبّلين، وجاءَ هذا في وقتٍ كان الجميع يصف فيه بيوز بالدَجّال. وبِفَضل كوبلين، اعتَرف عالم الفن ببيوز كفنّان جاد. بعد ذلك، كان هناك أمين المتحف هارالد ستسيمانّ. ولا يعود ظهور الأخير في الصورة بسبب معرفة الإثنين بعضهما البعض منذ الستينات، ولكن أيضاً بسبب الحضور السويسري القوي في أكاديمية الفنون في دوسَّلدورف، كما كان الحال مع الفنّان ديتر روث من بين آخرين. وهنا أودُّ أن أشير إلى قيام بويز أيضاً بسِرَقة الكثير من الأفكار من روث، وأيضاً من الفنان السويسري دانيال سبورّي الذي اشتهر بفنه التركيبي.
swissinfo.ch: وماذا عن نضال بيوز من أجل الديمقراطية المباشرة؟
هانز بيتر ريغل: هذه واحدة من أوجه سوء الفَهم الرئيسية الأخرى. إن حركة الديمقراطية المباشرة برُمَّتِها، وفي ألمانيا بالأخص، تتخذ شكلاً شعبوياً للغاية. إنهم – وفي تشويه للحركة – يستخدمون المُشاركة الشعبية بطريقة أساسية جداً ضد الديمقراطية نفسها. هذه مسألة في غاية الخطورة. حتى الديمقراطية المُباشرة هنا في سويسرا يمكن أن تنزلق في الاتجاه الخاطئ. ان الألمان لا يفهمون مدى خطورة هذا الوضع، لأن الجماعات اليمينية تتلاعب بهذه الحركة بِرُمَّتِها من أجل مصالحها الخاصة.
بويز من الناحية الأخرى انْضَمَّ إلى الحركة من منظور مُختلف تماماً – وهنا تكمن المشكلة. من المؤكد أنه كان ضِدَّ الحكومة والنظام البرلماني والأحزاب السياسية. لقد أراد تدمير كل ذلك وبناء هذه الديمقراطية الأساسية. بَيْدَ أنَّ فكرته عن الديمقراطية المُباشرة كانت تفترض أن عامة الناس أغبياء. ولكن، وحيث أنهم لا يزالون يمتلكون صوتاً، فلابُدَّ أن أن تكون فَوقَهم نوع من النُخبة التي تفهم الأمور بشكل أفضل. وبالنتيجة، يعني ذلك أنه ستظل هناك طائفة من الأشخاص الذين يتمتعون بمكانة أعلى من غيرهم.
swissinfo.ch: إذن، ما الذي يتبقى من جوزيف بويز في النهاية؟
هانز بيتر ريغل: لا ينبغي التقليل من أهمية بويز. لقد فتح أبواباً للفن، وجلَب الفن إلى الأماكن العامة. لقد صنع فناً إعلامياً. كان مثل القدّيس سيباستيان الذي توَجَهَت كل السهام إلى جسده. كان على خط المواجهة. لقد “ألغى صفة الأكاديمية” عن أكاديمية الفنون. وعندما قال أن “كل إنسان فنّان”، أساء الجميع فهمه. لقد كان مدرساً مهماً جداً لجيل كامل من الفنانين.
من المؤكد أن عمله قائم بذاته. بعض تركيباته رائع حقاً. هذا كلّه سوف يبقى. لكن عليك أن تضع فنه في سياقه، وحيث أنه لا يزال في السياق الخاطئ، فلن تستطيع قراءته أو فهمه، وهذه هي المشكلة. وطالما أنك لن تقبل مَن كان بويز حقاً كشخص، ومُفكر سياسي ،وخَلفية أعماله، فإنك لن تستطيع التَحَدُّث عن فنه بجدّية.
(بمشاركة من كارولين هونيغَّر، حرره توماس ستيفنس)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا