“راشيل كوري” في مهرجان فريبورغ.. تذكير بالعدالة المهدورة في غـزة
ضمن فعاليات مهرجان فريبورغ السينمائي الدولي، الذي اختتم أعماله يوم 21 مارس 2009، عرض فيلم "راشيل"، أحدث عمل سينمائي للمخرجة الفرنسية الإسرائيلية من أصل مغربي سيمون بيتون. وقد شارك هذا الفيلم حتى الآن في ثلاث مهرجانات دولية، وقُدم ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان السينما الوثائقية في باريس.
وتزامن هذا العرض مع الذكرى السادسة لمقتل بطلة الفيلم، وهي ناشطة أمريكية من أنصار السلام سحقت جسدها النحيف جرافة إسرائيلية بمنطقة رفح الفلسطينية في السادس عشر من مارس 2003، حينما كانت راشيل وبعض زملائها الأجانب يحاولون إيقاف تقدم الجرافات الإسرائيلية التي جاءت إلى المنطقة لتنفيذ قرار عسكري بهدم بيوت المواطنين الفلسطينيين.
ويسلط الفيلم، بطريقة فنية رائعة ولمدة 100 دقيقة، الضوء على مأساة هذه الناشطة الدولية، ومن خلالها يقدم تحقيقا متأنيا ودراميا في نفس الوقت حول شخصية البطلة وأشواقها إلى الحرية وأفكارها التي قادتها لملاقاة حتفها على أرض غزة، كما يرصد الفيلم الأيام التي سبقت وقوع الحادثة، وكيف أن راشيل لم تنقطع طوال فترة إقامتها في رفح عن كتابة الرسائل إلى أهلها تضمنها حرقة فراق الأهل، وتطعّمها بغرائب الأخبار عما يلاقيه الفلسطينيون بسبب الإحتلال من قتل ودمار وعقاب جماعي.
الإنسان هو الضحية
وتقول مخرجة الفيلم التي التقتها سويس إنفو على هامش مهرجان فريبورغ واصفة هذا العمل الإبداعي: “إنها قصة تستحق أن تقدم للجمهور في كل تفاصيلها، وقد أثّر هذا الحادث المؤلم في نفسي كثيرا، وما عجّل بإنجاز هذا العمل هو أنه لم يكن هناك أي تحقيق قضائي، ولا محاكمة عادلة، ولا حتى حرص من بلدها على معرفة حقيقة ما جرى”.
ولأن الصراع في فلسطين يمتد لعقود طويلة، وهو صراع محتدم ومشتعل باستمرار، ولكونه يحدث في منطقة هي مهد الديانات، ومنبع الثروات الطبيعية، ومحط أطماع ومصالح متعارضة، فإن الحديث عن هذه المأساة، تقول مخرجة هذا الفيلم: “يتجاوز في أبعاده مجرد التنافس على قطعة ارض مهما كانت أهميتها، ليصبح صراعا من اجل القضايا العادلة ومن أجل السلام ونصرة المقهور، ورد الكرامة للمظلومين”، ما يعني أن أي عمل إبداعي اليوم بشان القضية الفلسطينية بهذا المعنى وأي محاولة إنفاذ لخصوصيات هذه القضية، يضعنا مباشرة في لجج الأسئلة المتعلقة بالمصير الإنساني عامة.
ولكن، إذا كان الأمر كذلك، لماذا اختار هذا الفيلم قصة فتاة أمريكية، وتجاهل قصص الآلاف من ضحايا الشعب الفلسطيني، وهل أن الدم العربي أهون من غيره، ليس لدى أصحاب القرار السياسي فقط بل ولدى السينمائيين أيضا؟.
عن هذا السؤال تجيب سيمون بيتون: “إن موت راشيل الأمريكية رمز في حد ذاته، لأن موتها يجعلنا نفكر في مصير الضحايا المنسيين، ولسان الحال يقول: إذا كان الإسرائيليون يستهينون بحياة الإنسان الامريكي إلى هذا الحد، وإذا كانت فتاة أمريكية شقراء مثل راشيل، لا يحاكم قاتلها أو ينال جزاؤه، وإذا كان الإسرائيليون يزيفون الحقائق حتى مع أصدقائهم الامريكيين، فماذا يمكن ان نقول إذا كان الضحية فلسطينيا”.
وتامل المخرجة أن يكون ما قصدت إليه قد فُهم، وتؤكد مرة أخرى “ما أردت الحديث عنه في الفيلم هو الوضع الصعب الذي يعيشه سكان غزة، وما اختيار “راشيل”، إلا للإلتفاف على شركات الإنتاج التي ما كانت لتقبل بتمويل عملي هذا لو كان حول مدني فلسطيني من أبناء غزة العاديين”.
وبالنسبة لسيمون بيتون فإن الجريمة الحقيقية ليست قتل كورّي، بل التدمير اليومي الممنهج لأحياء سكنية باكملها وسكانها داخلها، وكم من الفلسطينيين قتلوا وهم يدافعون عن منازلهم وحقولهم الزراعية.
حادثة بروايات متعددة
اما من حيث المضمون، فالفيلم في حد ذاته عبارة عن مواجهة بين روايتيْن لحدث واحد، وهذا ما يجعل من قضيتيْ الحقيقة والكذب، مسألة مركزية في هذا العمل الإبداعي. وعن هذه النقطة، تقول سيمون بيتون: “الفيلم يروي قصة يصفها البعض بطريقة، ويصفها البعض الآخر بطريقة مناقضة، وليس هناك في الفيلم أي محاولة أو رغبة للتقريب بين الروايتيْن، وفضلت أن أترك للمشاهد حرية الأخذ بأي رواية شاء”.
فمن ناحية يؤكد أصدقاء الضحية، ويدعمهم الفلسطينيون في ذلك، على وجود نية مبيتة لدى الجنود الإسرائيليين لقتل الفتاة الأمريكية، وتبين الشهادات التي يوردها الفيلم احتضان الشعب الفلسطيني لهؤلاء الشباب الذين جاؤوا من جميع بقاع العالم (بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، والولايات المتحدة،..) للدفاع عنه، بشكل سلمي، وقد تحدث هؤلاء بأنفسهم عن تجربتهم ودوافعهم، وعن شعورهم بالألم للدعم الذي تقدمه بلدانهم لآلة الحرب الإسرائيلية. وفي هذا السياق، تروي إحدى الناشطات البريطانيات في الفيلم كيف أن العديد من البيوت الفلسطينية قد هدمت، 24 ساعة فقط بعد أن غادرتها رغبة في حماية بيوت أخرى.
في المقابل، تطل الناطقة الرسمية بإسم الجيش الإسرائيلي لتؤكد أن الأمر يتعلق بحادث غير مقصود، وتصرح بأن “التحقيق الذي اجراه الجيش يؤكد عدم حصول أي تصادم بين الجرافة والناشطة الأمريكية”.
ولبث بذرة الشك، وزيف الرواية الرسمية، يورد الفيلم شهادة مطولة لأحد جنود الاحتياط عمل في صفوف الجيش الإسرائيلي في نفس الزمان والمكان اللذين قتلت فيهما بطلة الفيلم، ويعترف هذا الجندي الذي كان يدير ظهره للكاميرا “قتلتُ أناسا كثيرين، ولا اشك أبدا أن من بينهم أبرياء من نساء وأطفال”، ويضيف: “كنا نطلق النار في غزة لنتسلى، وكنا نفجّر خزانات المياه المثبتة على أسطح المنازل فقط لجمال المنظر الذي يحصل بعد ذلك”.
السينما نزوع إنساني مطلق
السينما كما تفهمها سيمون بيتون تعبيرة فنية إنسانية مطلقة مجردة من أي نزعة قومية او عنصرية. وبكل بساطة، ترى أنه لا يمكن أن يوجد إنسان يحترم نفسه، يغامر بالدفاع من الإحتلال الإسرائيلي، فضلا عن أن يكون هذا الإنسان مبدعا سينمائيا.
من ناحية ثانية، لا تؤمن هذه المخرجة بوجهات النظر الجماعية، وتقول: “في السينما، لا وجود لوجهة نظر فلسطينية وأخرى إسرائيلية، ولا أؤمن بوجهات النظر الجماعية، الخطاب السينمائي يؤمن بالإنسان وكفى”.
ولذلك فإن اهتمام هذه السينمائية اليهودية بفلسطين ليس إلا لكونها “تجسد الصراع المطلق بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والجمال والقبح، والسلام والعنف”.
أما الفيلم الوثائقي الجيد، بالنسبة إليها فهو “عمل إبداعي يساعد الجمهور على تشكيل رؤية أوضح ما يمكن عن الواقع، ويمنحهم الفرصة للفهم والتدبر، إنه الفيلم الذي يحتفظ منه المشاهد بصورتيْن أو ثلاث بعد الخروج من العرض”.
لكن، مثل هذه الرؤية تجرد الفن من دوره السياسي وفعاليته الإجتماعية، فالظلم الذي يتحدث عنه هذا الفيلم هو ظلم اجتماعي وسياسي لا يغيّره إلا فعل جماعي. ولئن كانت السينما الملتزمة مجرد قول في المقاومة فإن هذه الأخيرة تظل في نهاية المطاف موقفا وفعلا ميدانيا.
سويس إنفو – عبد الحفيظ العبدلي – فريبورغ
ولدت المخرجة السينمائية “سيمون بيتون ” في المغرب سنة 1955، وكانت ابنة بائع مجوهرات مغربي يهودي في مدينة الرباط. هاجرت عام 1966 مع أسرتها إلى إسرائيل، قبل أن تغادر البلد نحو فرنسا من أجل دراسة الإخراج السينمائي، في المعهد الباريسي المعروف(IDHEC).
وبعد أن شاركت مشاركة فعلية كجندية في الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين/أكتوبر 1973، تحوّلت “سيمون بيتون” إلى نصيرة للسلام، وقامت بإخراج مجموعة من الأفلام التسجيلية، كمساهمة منها في زرع بذور سلام في كل أرجاء المناطق الملتهبة، وعلى رأسها الشرق الأوسط.
مخرجة فيلم “راشيل” ذات الأصول المغربية، اليهودية، والفرنسية، فتحت بفيلمها الجديد، جرحا غائرا وساهمت في إثارة العديد من الأسئلة العميقة حول المصير الإنساني.
والمخرجة “سيمون بيتون” معروفة بأفلامها الوثائقية التي تتناول قضايا الإنسان العربي بمختلف أبعادها، فأخرجت أكثر من 15 فيلما، من أهمها : “الجدار”، “بن بركة” و”محمود درويش” و”المواطن بشارة”، و”الاعتداء بالقنابل”.
تعتبر المخرجة نفسها مغربية تشعر بثقافاتها المتجذرة في ثلاثة مجتمعات، وهي تساهم بعملها التسجيلي “راشيل”، في بناء وحفظ الذاكرة، وهي تحلم بيوم تُرفع فيه عن الجيش الإسرائيلي الحصانة التي تمنع مقاضاة عناصره وقيادته أمام المحاكم الدولية.
اختتم المهرجان الدولي للسينما بفريبورغ يوم 21 مارس 2009 دورته الثالثة والعشرين، وفاز بالجائزة الرئيسية “الرؤية الذهبية”، وقيمتها 30.000 فرنك سويسري فيلم “My magic”، من سنغفورة لمخرجه إيريك خوو. وقد سبق لهذا المخرج أن فاز بالعديد من الجوائز في دورة 2006 لنفس المهرجان، وسيعرض هذا الفيلم في قاعات السينما في سويسرا انطلاقا من مفتتح شهر أبريل القادم.
أما جائزةالإبداع، وقيمتها 27.000 فرنك سويسري فقد كانت من نصيب سيباستيان سيلفا، مخرج فيلم”La nana” من الشيلي، أمريكا اللاتينية.
أما حضور الجمهور، فقد سجل هذه السنة زيادة بنسبة 10 % مقارنة يالسنة الماضية، وقد بيعت خلال أسبوع المهرجان حوالي 30.000 تذكرة، بالإضافة إلى زيادة بنسبة 25 % للمحترفين في مجال الصناعة السينمائية، إذ وفّر المهرجان فرصة ممتازة لإلتقاء المخرجين والمنتجين الذين قدموا من كل من كولومبيا والجزائر وفلسطين، وإسرائيل ودار الحديث بين المنتجين والمموّلين حول ستة مشروعات لازالت في مرحلة التاليف وصياغة السيناريوهات.
تنظم الدورة القادمة للمهرجان في الفترة المتراوحة بين 13 و20 مارس 2010 بمدبنة فريبورغ السويسرية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.