رسوم الصغار.. جزء من الماضي وتدرّج نحو الحاضر
منذ سنوات، تعكِف مؤرِّخة فنونٍ على دراسة أكثر من 50 ألف من رسومات الأطفال، المحفوظة داخل أحد المخازن في مدينة زيورخ، بُغيَـة فهْـم كيفية انعِكاس التغيّرات على الواقع السياسي والإجتماعي والتعليمي، وقد عُثِـر من بين المُكتشَفات على أعمالٍ لبعض الفنانين الكِبار، من أمثال دورينمات وكاريغيت وبْياتّي، أيام كانوا في زهْـرة شبابهم.
في سِباق مع الزمن، ولكن بانتباهٍ شديد، تتحرّك آنّا ليهينغر داخل المخزن، الواقع في إحدى ضواحي زيورخ. تتسلّق السّلم المُتَهالك، تفتح بعض الصناديق أو الكراتين، وتُمضي وقتا تنبش فيها، قبل أن تنزل من السلّم ببعض الورقات. تتناولها ورقة ورقة، تتفحصها، فتنطبع علامات الإستِغراب على مُحَيّاها المفعم بالحيوية والشباب.
يوجد بين يديها الآن، أعمال لفرانكشتاين، الشخصية الحديثة اللامعة، مشغولة بفن القصّ واللّصق، من بعض المجلاّت والكتالوجات، ذات الورق اللّمّيع، مما كان يتوفر في بيوت السويسريين أيام الزّهْـو الإقتصادي، وهي تُعبّـر عن واقعها وزمانها، شأنها شأن 50 ألف رسمٍ في أرشيف مؤسسة “بيستالوتزِييانوم Pestalozzianum” في مدينة أورليكون.
أرشيف رسومات الأطفال والشباب، هو جزء من محفوظات مؤسسة “بيستالوتزِييانوم Pestalozzianum” في زيورخ، التي يُوجد لديها الآن حوالي 50 ألف رسم فني.
تأسس في عام 1932 تحت اسم “المعهد الدولي لدراسة الرسم”، ويهدف إلى توثيق تطوّر تدريس الرسم في المدارس. وفي نفس الوقت، كان جاكوب ويدمان (1897-1975)، أول مدير للمعهد، يعتزم تجديد التعليم التصويري، من خلال تخليصه من الممارسات التقليدية القائمة على النُّسخ النماذج بشكل مطابق.
وتحقيقا لهذا الغرض، حافظ ويدمان على وتيرة من الإتصالات المستمِرة مع معلِّمين من بلدان أخرى، كاليابان والسويد والهند، وانطلاقا من كونه أستاذ فنّ مجدّد، فقد شارك في عدّة مَعارِض متنقِّـلة خارج البلاد، بغية نشر مفاهيم جديدة في تعليم الرسم.
بمرور الوقت، أصبح الأرشيف يتضخّم ويضم إليه محفوظات خاصة من هنا وهناك، كتلك التي كانت محفوظة لدى مسابقات رسوم التقويم الخاص بمؤسسة “بيستالوتزي Pestalozzi” (كانت تضم 22 ألف رسم) إضافة إلى نحو 14 ألف رسم من غيرها.
في الوقت الحاضر، لم تتم رقمنة سوى 400 من بين حوالي 50 ألف رسمة، وتأمل مؤسسة “بيستالوتزٍييانوم Pestalozzianum” في أن تواصل مستقبلا نشاطها في رقمنة وفهرسة كامل ما يُوجد لديها من أعمال.
منذ أغسطس 2012، انكبت آنّا ليهينغر، مؤرخة الفنون والمشاركة في مشروع معهد الثقافات التقليدية في جامعة زيورخ، على دراسة أرشيف الرسومات من وجهة نظرٍ أنتروبولوجية ثقافية، عِلما بأن هناك باحثين آخرين يعملون لدى نفس المؤسسة.
دورينمات، الفائز سيئ الحظ
وعلى مدى الثلاث سنوات الماضية، وقعت المؤرّخة الشابة ذات الـ 33 ربيعا، نمساوية الأصل، والتي تعيش وتدرس في زيورخ منذ عشر سنوات، على الكثير من مثل تلك المفاجآت. فعلى سبيل المثال، عثرت وبالصُّدفة تقريبا، وفي نفس اليوم، على أعمال رسمٍ تعود للصَّبي فريدريش دورينمات، الذي ألّف، بعد أن بلغ الرُّشد، المسرحيتيْن “زيارة السيدة العجوز” و”الفيزيائيون”، اللتان فتحتا له أبواب الشُّهرة العالمية.
تشمل هذه الأعمال، على ستة رسومات بأقلام رصاص وألوان خشبية وأقلام حِبر، ومُؤرَّخة بعام 1934، وتُنبِّئ عن شغَفِه المبكِّر بالرسم والقصة والشخصيات البطولية، لدرجة أنه اختار لها بعض رموز الشجاعة، كالهنود الحُمر وأدريان فون بوبنبيرغ، تلك الشخصية الأسطورية التي دافعت عن مدينة مورتن، أثناء محاصرتها من قبل بورغونيوني عام 1476. ومن جانبها، قالت آنّا ليهينغر: “في الحقيقة، كُنتُ أبحث عن رسمٍ آخر لدورينمات نُشر في تقويم “بيستالوتزي Pestalozzi” زمن الثلاثينات، حيث أبرز هذا الكاتِب السويسري من خلاله، إحدى المعارك التاريخية للاتحاد الكنفدرالي، إلا أنني لم أعثُـر عليه بعدُ، وأخشى أنه لم يعُد ضِمن الأرشيف”.
حين ذاك، مَهَر الصَّبي، الذي يبلغ من العمر 13 عاما، رسومه بالتوقيع “فريتز دورينمات” على ظهرها، وأرسلها للمشاركة في المسابقة السنوية للرسم التي تنظمها مؤسسة بيستالوتزي، وربما قام بذلك وعيْناه تملؤهما دموع الحَسْرة، إذ بحسب قول المؤرِّخة: “كانت لدورينمات، مشاركة قبلها في المسابقة وفاز بالجائزة الأولى، وكانت عبارة عن ساعة جيْب. فبينما كان يستخرج هديته من غلافها، إذا بالجائزة الثمينة تسقط من بين يدَي فريدريش المتلهف، وتنكسر في الحال. ولعلّه قرّر أن يرسل الرسومات الستّة على أمل الفوز بساعة أخرى، إلا أن لجنة التحكيم لم تفعل هذه المرّة واكتفت بالإشادة”.
المزيد
عندما يتصدّى الأطفال لفن الرسم
عظماء آخرين
ليست أعمال دورينمات، الكنز الوحيد الذي تحويه محفوظات ذلك الأرشيف من الرّسوم. فقد اكتشفت آنّا ليهينغر أيضا رقاعة من ماضي الفنان آلواس كاريغيت، من أصل كانتون غراوبوندن، مُلصقة على ورقة مُصْفَرّة من طول المكث، وتحتوي بشكل رئيسي على رسم لشخصية شقيق الرسام ولشيلينوزلي، الشخصية المِحوَرية لقِصص الأطفال السويسرية، كما عثرت على رسم بقلم الرَّصاص لشخصية إدوارد ابن ألبرت أينشتاين، ذو الـ 13 ربيعا، للفنان الشهير تشيليستينو بياتّي، من كانتون تيتشينو، وكذلك الرسم الذي يحمل اسم غلوبي – الببّغاء المُتكلم، ذو القبعة على الرأس والبنطلون ذو المربّعات الملوّنة بالأحمر والأسود – لكاسبار فيليغر، عضو مجلس النواب الفدرالي لاحقا، بالإضافة إلى رسم يمثل انفلات هوغو كوبليت في مقدِّمة سِباق للدراجات الهوائية، من أعمال الفنان والكاتب والمُطرب السويسري فرانس هولر.
ولا تقتصر روعة هذا الأرشيف على ما يحويه من رسوم أطفال، أصبحوا فيما بعد ذائِعي الصيت، وإنما أيضا لكِمية المحتوى الهائلة وتنوُّعها، إذ بلغ عدد ما في الأرشيف من رسومات، 50 ألف رسم، مُجَمّعة من نحو 25 بلدا حول العالم، وقد رُسِمَت أثناء حِصص الرّسم المدرسية أو بمناسبة مسابقات في المِضمار، سواء في سويسرا أو خارجها. ولا يُخفى، أن محفوظات مؤسسة “بيستالوتزِييانوم Pestalozzianum”، هي من بين الأهم في أوروبا، يضاف إليها محفوظات كلّ من فيينا وبراغ ومانهايم ولوزان.
ومن خلال تصفُّح ما في الأرشيف من ثروة، يمكن للمرء مطالعة مسيرة حِقبة من الزّمان ومعاينة التغيّرات والتطوّرات التي طرأت على المجتمع بشكل عام، وعلى العملية التعليمية وتدريس الرسم بشكل خاص، فضلا عن مطالعة أهَـم أحداث القرن الماضي. ووِفقا لما قالته آنّا ليهينغر، فإن: “هناك مادّة تكفي لعُقود من الدِّراسة التحليلية والبحث، ومن المُثير للمتعة والاهتمام، مشاهدة كيف يصور الأطفال الواقِع من حولهم”.
مرآة على الأحداث والتطورات
ما من في أن القرن العشرين، لم يفتقر إلى الأحداث التاريخية، وأن منها ما انطبع في مخيِّلة الفنانين الصِّغار. فعلى سبيل المثال، هناك ما يتعلّق بالدفاع الوطني والحرب العالمية الثانية – من خلال تصوير الأب أو العم أو الخال أو أحد أبناء العم أو أبناء الخال بالزيّ العسكري الرّسمي أو من خلال تصوير الأسلِحة العسكرية أو العَتاد الحربي – وكذلك السباقات الرياضية وأول هبوط للإنسان على سطح القمر.
ومن جهة أخرى، يُمكن اعتبار الرسوم مِرآة تعكِس صورة التغيّر في حركة المجتمع، خاصة داخل الأسْرة. فعلى حدّ قول المؤرِّخة الباحثة: “حتى نهاية الستينات، كانت الأدوار داخل الأسْرة غير متداخلة ومحدّدة تَـبَعا للأعراف والتقاليد، لكن، مع بدايات السبعينات، شرع الأطفال في رسم شكل الأب وهو يشتغِل داخل المطبخ ويَضع الرضّاعة في فم الطفل، والأم جالسة في المقعد الخاص بقيادة السيارة”.
بقي أن نقول بأننا فِعلا أمام ثروة حقيقية، إخراجها من صناديقها، يصوّر لنا فيلما ملوّنا لحكاية قرن من الزمان، ويُرينا التاريخ بعيون الأطفال واليافعين.
يشكِّل أرشيف الرسومات، عيّنة من فن الرسم التصويري لأطفال العالم في القرن الماضي، وهو يحوي رسومات لأطفال من القارّات الخمس، حتى ولو لم تشمل كل قُطر.
وتوضح مؤرخة الفنون آنّا ليهينغر قائلة: “تتيح المجموعة الغنية بالرسوم القادِمة من بعض الدول، مثل السويد واليابان، إمكانية التعرف العميق على أساليب ومناهِج التعليم الخاصة ببعض المعلِّمين أو المدارس أو الفصول الدراسية، كما يمكن من خلالها عقد مقارنة بين سويسرا وغيرها من الدول بخصوص تعليم الفن التصويري، والتعرّف على أوجُه التشابُه والاختلاف فيما بينها. فمثلا في ثلاثينات القرن الماضي، توافت الأهداف التعليمية في تشيكوسلوفاكيا مع تلك المتبعة في زيورخ، ومنذ تلك الفترة أيضا، كانت الرسوم في أحد الفصول الدراسية في موناكو متشرّبة بأفكار وتعبيرات الاشتراكية القومية”.
اهتم جاكوب ويدمان، أول مدير للمعهد الدولي لدراسة الرسوم، أكثر من غيره، بالتعاون مع المؤسسات العالمية ذات التوجّه المُشترك، كما اهتم بفِكرة تعزيز السلام في العالم عن طريق تبادل الرسومات بين الأطفال من مختلف الأجناس واللغات.
أما اليوم، فإن التعاون مع المؤسسات الأخرى، التي تهتم بمثل هذا النوع من الأرشيفات، يبدو متقطعا، وقد أبدى المسؤولون في مؤسسة “بيستالوتزِييانوم Pestalozzianum” رغبتهم الحقيقية في توطيد العلاقات والتعاون مستقبلا، لكي تصبح رسوم الأطفال في سويسرا ضِمن المحفوظات عبْر العالم ولإدراك مدى تأثير المعارض المتنقلة التي يُنظّمها المعهد السويسري على تدريس الرسم في بلدان العالم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.