“عصابات بغداد”.. شهادات حيّة عن معاناة الضحايا وعائلاتهم
"عصابات بغداد"، عنوان لا يقل إثارة عن التجارب المرة التي ترويها شخصيات هذا الفيلم الوثائقي الذي أنجزته المخرجة السويسرية العراقية المبدعة عايدة شلافّر. وعلى مدى 52 دقيقة، يقص مواطنون عراقيون ما عانوه بسبب الأعمال "الإجرامية" و"الإرهابية" التي ترتكبها عصابات مجهولة انتشرت في السنوات الأخير في أحياء بغداد.
وتهدف عايدة شلافّر، مخرجة هذا الفيلم، من خلال عملها هذا كما تقول إلى “تسليط الضوء على ظاهرة الاختطاف والتعذيب والقتل على أيْدي عصابات مجهولة في بغداد”. ولئن كان الموضوع نفسه محور أعمال فنية سابقة، فإن ما يتميز به هذا الفيلم هو أنه يمثل رؤية لواقع العراق بعيون عراقية، ويعتمد مقاربة نفسية لموضوعه، تعبّر في حد ذاتها عن عمق المأساة والمعاناة في بلاد الرافدين.
للوقوف على خلفيات وأهداف هذا العمل، والدور المنوط بالعمل الإبداعي عموما في المساعدة على تجاوز الأوضاع الحالية، أجرت swissinfo.ch حوارا مع المخرجة العراقية السويسرية عايدة شلافّر، المتحصّلة على الإجازة الجامعية في الفن والتصميم الإعلامي، والمتخرّجة من أكاديمية الفنون بزيورخ، ومن المعهد العالي للسينما بأكاديمية بالقاهرة. وفيما يلي نص الحوار.
swissinfo.ch : لماذا كان من الضروري بالنسبة لك إنجاز فيلم “عصابات بغداد”؟
عايدة شلافّر: فكرة الفيلم نشأت لدى عندما كنت في زيارة لمصر، والتقيت خلالها بعراقيين كثيرين أُجبروا على ترك ديارهم. وقد روت لي صديقة ما حصل لها خلال عملية اختطاف على أيد مجهولين لما كانت في بغداد. أما الغاية، فكانت محاولة الإسهام في دعم العراق من خلال العمل الإبداعي الذي هو مجال اشتغالي. ومثلما أن هناك أناس متخصصون في السياسة، وآخرون في الدعم المادي، أردت كمخرجة لفت أنظار العالم إلى ظاهرة الخطف، وما يعقبها من أزمات نفسية واجتماعية. الرسالة التي يريد الفيلم إيصالها للجمهور هو أننا نحن العراقيين في حاجة إلى علاج نفسي بعد كل هذه الحروب والمآسي التي مررنا بها. ثم إن هذا الفيلم يعكس هاجس الطفل العراقي الذي تربى في أتون الحرب، والتفجيرات، والأعمال الإرهابية، والذي قتل أبوه أو أخوه، وأصيبت أمه وأخته أو تعرضتا للإغتصاب.
في العراق اليوم ثلاثة أجيال تربوا وعاشوا في ظل هذه الأوضاع، ولن أفاجأ إذا ارتكب أبناء هذه الأجيال الأعمال التي يسميها الغرب والأمريكيون أعمالا إرهابية، لأن هؤلاء لم يُسمح لهم بالعيش في أوضاع تجعل منهم أناسا أسوياء. فيلم “عصابات بغداد” لا يزعم أنه سيغيّر هذا الوضع، لكن بإمكانه التوعية بهذا الواقع، وإطلاق نقاش حول هذه المشكلة.
الكثير من الأعمال السينمائية اهتمت بتصوير الأوضاع في العراق. ما الذي يفرق ان يكون الفيلم باللغة العربية، ومخرجته عراقية؟
عايدة شلافّر: ما يتغيّر هنا هو طبيعة الرؤية والمقاربة. عندما يكون المخرج عراقي سيكون دافعه لذلك تقديم خدمة مخلصة لبلاده، ولن تكون تلك العلاقة بنفس الحميمية عندما يكون المخرج أجنبيا. عندما نشاهد مثلا الفيلم الأمريكي “ذي هورت لوكير”، للمخرجة كاترين بيغلو، والتي حصدت بفضله جائزة الأوسكار، نجد أن هذا الفيلم لم يصوّر في العراق، وشخصياته من جنسيات أردنية، ولا يتكلمون اللهجة العراقية، وأي عراقي يشاهد الفيلم، يجد أنه لا صلة له به. أنا كمخرجة عراقية في المقابل حافظت على المكان، وعلى الحقيقة، ولم أسع فقط لإرضاء العالم الخارجي. المخرجة الأمريكية استخدمت العراق فقط كأداة للوصول إلى مكانة معينة تريد أن تصل إليها.
قدمت من قبل أعمال سينمائية على علاقة بالحرب والسلام، ما الذي يجعلك تهتمين بهذا النوع من التيمات؟
عايدة شلافّر: أنا عشت في طفولتي حرب إيران والعراق، وعشت في الثمانينات والتسعينات الحرب الأهلية، والحروب الإسرائيلية في لبنان. في حياتي ما عشته في ظل الحرب أكثر مما عشته في ظل السلام. لذلك أحسّ أني أقدر من غيري على معالجة هذا النوع من الموضوعات.
قلت في حوارات سابقة أن الغرض من فيلم “عصابات بغداد” تقديم الدعم لضحايا الاختطاف. ما هي طبيعة الدعم الذي قدمه الفيلم لهؤلاء الضحايا؟
عايدة شلافّر: تحدثت إلى كثيرين بعد العروض التي تمت لهذا الفيلم، وجميعهم كانوا شاكرين. من عادتنا نحن العرب هو الخجل من الذهاب إلى خبير نفسي للعلاج، لكن كثيرين غيّروا رؤيتهم لهذا الأمر بعد أن شاهدوا الفيلم. بعض العراقيين الآخرين إستاؤوا من وجود أخصائي نفسي في الفيلم. أتفهّم موقفهم، والمهم بالنسبة لي أنهم في داخلهم مقتنعون بذلك. مشكلتنا نحن العرب أننا كثيرا ما نعرف الحقيقة، لكننا نخجل من الإقرار بها. أما بالنسبة للمشاهد الغربي، فقد فوجئت عندما عرضت الفيلم في هوليود، ضمن المسابقة الرسمية. وجدت أن الجمهور الأمريكي كان يجهل تماما الواقع الذي يصوره الفيلم. لم يكونوا يعلمون من عمليات الاختطاف سوى تلك التي تحدث في فترات متباعدة، ويكون ضحاياها صحافيين أو رعايا غربيين. لم تكن لهم أي معرفة مثلا بالعمليات والجرائم التي ترتكب يوميا في حق العراقيين، من تعذيب وقتل واغتصاب،..
هل أدى عرض هذا الفيلم مثلا إلى فتح تحقيق قضائي ضد هذه العصابات الإجرامية؟
عايدة شلافّر: لم يحصل هذا. سوف يعرض الفيلم داخل العراق لأوّل مرة في السنة القادمة حفاظا على سلامة العائلات التي شاركت في الإدلاء بشهاداتها في الفيلم، وهي اليوم خائفة من أن تلحق بها العصابات أذى بسبب ذلك. لقد طلبوا مني ألا يعرض الفيلم في العراق، لكنني أرسلت الفيلم، وسوف ننظم له عروضا، ونرسله إلى جهات معيّنة للنظر فيما يمكن فعله.
بعد مشاهدة هذا الفيلم، والاستماع إلى الشهادات المقدمة فيه. لا يخرج المشاهد بفكرة واضحة عن هوية هذه العصابات. هل تعمّد الفيلم التستّر عليها؟
عايدة شلافّر: خلال عملنا التسجيلي لم نصل إلى الجزم بشان هوية تلك الجهات، وأظن أننا لن نصل. هذه الأخيرة شبكات معقّدة بعضها يعمل لمصلحته، وبعضها لمصلحة جهات أخرى، وعمليات الخطف تدرّ مردودا ماليا كبيرا، إلى درجة أن السرقات البسيطة في بغداد قد انعدمت في السنوات الأخيرة لتترك مكانها لهذه الجرائم الخطيرة. والخطف أصبح أنجع وسيلة لربح المال. البعض الآخر يقول أن هذه العصابات على علاقات بجماعات إرهابية، تخطف المواطنين للحصول على المال من أجل شراء الأسلحة، وتجنيد الأنصار،.. وهناك من يذهب إلى حد اتهام الأجهزة الأمنية العراقية بتقديم الدعم لهذه العصابات. أنا لم أتستّر، ولن أتستّر إذا عرفت الجهات الحقيقية المرتكبة لتلك الأعمال، لأنني لست خائفة.
عندما يكون جزءً كبيرا من ضحايا هذه العصابات من كبار علماء العراق، ألا يكشف هذا عن هوية تلك الجهات؟ هل يمكن ان تكون جهات عراقية، ام أجنبية؟
عايدة شلافّر: رغم افتقاري إلى الحجج أو الوقائع الملموسة هنا، لكني اعتقد مع ذلك أن قتل العلماء، عماد العراق والحجر الأساس لنهضته في المستقبل، يصب في مصلحة الجهات التي تحاول أن تبقي العراق في دائرة التخلف، وأن تعيده إلى العصر الحجري. أعني بهذه الجهات الدول المجاورة كسوريا، وإيران، والكويت، والمملكة العربية السعودية. كل من له ثأر سابق مع العراق في عهد صدام حسين، هو الآن يثار من الشعب العراقي.
لماذا لا تكون جهات غير عربية؟
عايدة شلافّر: طبعا هناك جهات أخرى لها مصلحة في ذلك كقوة الاحتلال. الأمريكيون لم يأتوا كما يقولون لإنقاذ الشعب العراقي، هم يقتلون الشعب العراقي كل يوم. للدول الغربية يد في ما يحدث في العراق اليوم، وهي توظّف مآسي العراق لتحقيق مصالحها.
رغم تمسك بعض من عرضت شهاداتهم في الفيلم بالأمل في المستقبل، يطغى على هذا العمل الطابع التشاؤمي؟
عايدة شلافّر: آمل كغيري في مستقبل زاهر للعراق. لكن كان عليّ أن أقدم في الفيلم صور حقيقية ومعبّرة، وشهادات حية لأشخاص تعرضوا للإختطاف وتركت تلك التجربة أثرها النفسي عليهم. الفيلم دعوة إلى الإقرار أوّلا بصعوبة الواقع، ثم العمل بجد بعدئذ للخروج منه. المهم بحسب رأيي أن نقرأ الواقع بشكل صحيح، وأن نستخلص منه الدروس، ثم نبني المستقبل من خلال ذلك. لن يتغيّر الواقع بالقفز عن حقائقه.
العنف يبدأ عندما تتعطّل لغة الحوار، بدل الدعوة إلى اعتماد الطب النفسي لمعالجة الواقع العراقي، هل يمكن أن تضطلع الثقافة والإبداع بهذا الدور؟
عايدة شلافّر: الثقافة هي أجمل ما صنع الإنسان، وهي أجدى وسيلة لتحقيق التفاهم، لان الثقافة هي اللغة وهي التواصل، وليت العراقيين يقرؤون تاريخهم جيدا، سيدركون أنهم يحسنون صناعة المعرفة أكثر مما هم قادرون على إلحاق الأذى ببعضهم البعض.
ولدت المخرجة العرقية السويسرية عايدة شلافّر في بغداد سنة 1970 من أم لبنانية وأب عراقي. وقضت طفولتها في بلديْ أبويها.
انتقلت للعيش في أوروبا بعد بلوغها 20 سنة، حيث درست الألمانية قبل أن تستقر نهائيا في سويسرا.
رغم حصولها على دبلوم محاسبة، ظل اهتمام عايدة شلافّر مشدودا إلى الفن عموما والفن السابع خصوصا. وقد دفعها ذلك إلى الحصول على دبلوم في مجال الفنون الجميلة والإعلام من المدرسة العليا للفنون بزيورخ.
في 2003، التحقت بالمعهد العالي للسينما، التابع لأكاديمية الفنون بالقاهرة، حيث حصلت على دبلوم عالي في الإخراج السينمائي.
من أعمالها السينمائية الأفلام التالية: الظل الأسود والأبيض (2002)، والرقص الشرقي والغربي (2003)، والصمت (2001)، وبحث في جوهر امرأة (2005)، وماريونات (2007)، وعصابات بغداد (2007). بالإضافة إلى العديد من الفيديوهات المصورة.
تعمل شلافّر بالإضافة إلى ذلك لصالح شركة للإنتاج السينمائي، وهي مؤسسة ورئيسة “المهرجان الدولي للفيلم العربي بزيورخ”.
هو شريط وثائقي حول فرق الموت وعصابات الإجرام والخطف في العراق يبلغ طوله 52 دقيقة.
يعرض الفيلم تجارب وشهادات حية لمجموعة من الأشخاص والعائلات التي كانت ضحايا للخطف والتعذيب، وقتل بعض أقاربهم من طرف تلك الفرق.
تهدف مخرجة الفيلم من خلال عملها هذا إلى لفت أنظار العالم إلى ما يعانيه العراقيين في ظل الحرب وعدم الإستقرار الأمني، وإلى مساعدة ضحايا ذلك الوضع على تضميد جراحهم، وتجاوز المخلفات النفسية للمحن التي مروا بها.
هذا الفيلم هو أيضا عبارة عن دعوة ونداء إلى جميع الضمائر الحية في العالم وإلى المؤسسات الصحية والجمعيات الإنسانية لتقديم الدعم المالي والنفسي إلى ضحايا الإختطاف والتعذيب في العراق.
حل العراق ضيفا على “ليالي الفيلم العربي”، في دورتها الثالثة التي نظمت يوم 5 نوفمبر 2010 من طرف المهرجان الدولي للفيلم العربي في زيورخ.
أقيمت الدورة الثالثة يوم 5 نوفمبر 2010، وعرض خلالها شريطان حول الأوضاع في العراق، هما “عصابات بغداد” (52 دقيقة)، للمخرجة عايدة شلافر، و”الغبار القاتل” (93 دقيقة)، للمخرج الألماني فريدر فاغنر. وهو مخرج ألماني تتبع في أعماله غبار اليورانيوم الذي استخدمته القوات الأمريكية، في كوسوفو، والعراق، والبوسنة.
نشأت فكرة هذه الليالي السينمائية نظرا للشعور بالحاجة للمساهمة في تنشيطٌ التبادل الثقافي للدفع بعجلة التفاهم الى الأمام وخاصة في هذه الفترة الحرجة، وما تموج به من مشاحنات حول الدين، والتطرف، والإرهاب، وكذلك الجدل حول دور المرأة في المجتمع العربي.
هذه الليالي تحاول توصيل صورة أخرى عن العرب إلى الجمهور السويسري مغايرة للصورة التي تروّجها وسائل الإعلام الغربية.
توفِّـر التظاهرة مجالا للنقاش مع المخرجين المدعوين، كما تُـقام أمسية ثقافية موسيقية بالعربية والألمانية، تُـقدَّم فيها المشروبات والمأكولات الشرقية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.