“في ظلال الشرق” و”دبي قادمة”: بين المعمار والثقافة صلة وصل لا تنقطع
"معمار القصبة، مركز المدينة العربية التقليدية، صورة مكتملة لما يجب أن يكون عليه العمران البشري. ويتميز بحساسية مفرطة لكل الاحتياجات البشرية، ولكل الرغبات". بهذه العبارة الواضحة والبسيطة عبّر المصمم المعماري السويسري الشهير لو كوربوزيي عن إعجابه الكبير بنمط المعمار الشرقي. ولفت أنظار أجيال من المصممين المعماريين لاحقا إلى الشرق فاستلهموا منه الكثير في أعمالهم.
لكن الوضع السياسي المتقلب في العالم العربي في السنوات الأخيرة حجب عن الأنظار هذه الصفحات المشرقة، واقتصر ذكر هذه المنطقة على التقارير الإخبارية اليومية المتراوحة بين تفجيرات وحروب، وسجن وتقتيل.
ولمقاومة هذا النسيان، قرر القائمون على “متحف فيترا للتصميمات” الواقع على الحدود السويسرية الألمانية تخصيص أحد أجنحته الهامة لتنظيم معرض حول المعمار التقليدي في البلدان العربية، تحت عنوان: “رحلة في ظلال الشرق”. ويؤكد المنظمون أن زوّار هذا المعرض الذي يُختتم يوم 31 أغسطس قد تجاوزوا الثمانية آلاف زائر.
أوّل مفاجأة يصطدم بها الزائر، التنوع الكبير في نمط المعمار العربي، والاختلاف البيّن بين سوق السمّارين بمراكش، وباب اليمن بصنعاء، أو نهج جامع الزيتونة بتونس، وحي الجامع الأموي بدمشق. لكن المتحكم في تشييد هذه العواصم الثقافية الشهيرة في التاريخ العربي تكشف تماثل العقليات وإن تباينت الأشكال والزخارف.
وأحد ثوابت تلك العقلية، أن هدف المعمار في الثقافة العربية حماية سكان البيت من أنظار الغريب، والحفاظ على الحرمات، وإفراد الضيف بمنزل خاص، وتوفير أشكال مناسبة للتهوية والاقتصاد في استهلاك الماء. وكل هذه القيم، تلتقي عند مرجعية واحدة “إنها قيمة الكرم والضيافة”، مثلما تقول كارول آنّ- بادمان، إحدى المرشدات بمتحف فيترا.
ويكفي بذل قليل من الجهد والتأمل، حتى يتوصل الزائر إلى أن التحديات التي تواجه المصمم المعماري واحدة: ما هو النمط المعماري المناسب لكل منطقة، والقادر على توفير الراحة والاستجمام، في انسجام وتوافق مع هوية قاطنيه وثقافتهم؟ وكيف يمكن المحافظة على التوازن بين الطابع الفني للمعمار، ودوره الوظيفي، وإلى أي حد لا تزال الجماليات المعمارية، من ألوان وأشكال وما شابه ذلك تعبر عن الهوية الثقافية للشعوب؟
المعمار الحديث لا يخلو من سلبيات
هنا تنكشف أهمية أخرى لهذا المعرض الذي أنتجه كل من المصمم المعماري المصري حسن فاتي، والمصمم المغربي إيلي مويال، والمعماري عبد الوهاب الوكيل، و جميعهم يشتهرون بتوظيف التراث المعماري العربي في أعمالهم الهندسية وفي تصميماتهم.
فمن ناحية، تروي المعروضات التأثير السلبي البالغ للمعمار الغربي الحديث في مختلف البلدان العربية. إذ منذ بداية الثلاثينات، من القرن الماضي، اتخذ كل من جون فرونسوا زيفاكو، وإيدموند بريون، وميشال إيكوشار، وغيرهم من العالم العربي ميدانا لتجربة ما اعتبروه نمطا معماريا عالميا. ومن المشاريع التي تشهد على قصور ذلك الخيار الطراز الذي استخدم في تشييد معهد العالم العربي بباريس، وأستوديو 65 في الخليج العربي.
ومن السلبيات التي يشير إليها المعرض في هذا السياق العنف الذي رافق استنبات هذا النمط المعماري الغريب عن الثقافة العربية، كتدمير أحياء بأكملها من المدن العربية القديمة كما حدث في بيروت، والنزوح الجماعي من الأرياف إلى المدن الكبرى، وتحوّل المدن العربية إلى مجرد مواقع للنوم بجانب الأحياء الصناعية الفاقدة للحياة.
رسالة المعرض إذن كما تقرأ السيدة كارول آنّ- بادمانن من أسرة متحف فيترا، هي “لفت الأنظار إلى أن العالم العربي يمتلك تراثا معماريا زاخرا، يغنيه عن استيراد أنماط معمارية أخرى، وأن ذلك التراث قادر على تقديم حلول معاصرة، ومعقولة ومستدامة، تنسجم مع الثقافة المحلية، وتحقق الأغراض المرجوة”.
الصورة أصدق من الكتب
كأي معرض جاد، يمتلك “في ظلال الشرق” قيمة وثائقية وتاريخية مهمة يمكن أن يلاحظها الزائر العادي منذ اللحظة الأولى كما يمكن أن يستفيد منها المعني بالدراسات الاجتماعية أو المعمارية على السواء.
وأولى حلقات المعمار العربي بدأت بالخيمة السوداء مترامية الأطراف، والتي يصل اتساعها في بعض الأحيان إلى 40 مترا أو يزيد. والنظام داخل الخيمة، تقول كارول آنّ- بادمان: “صورة مصغّرة للنظام الاجتماعي العام، إذ يتصدّر الرجل الشأن العام، كما يتصدّر المائدة داخل الخيمة، وتظهر النساء في خلفية الصورة، وحضورهن، نفي لغيابهن في النظام التقليدي العربي. وعلى خلاف ما هو مشاع، تتحكم المرأة في مجريات الحياة المنزلية، وتمسك بتلابيب القرار فيه”.
وإلى جانب الخيمة، يربض الجمل، سفينة الصحراء كما يلقبه العرب، وتورد آنّ- بادمان أسطورة يرددها الطوارق بالصحراء الكبرى تقول “إن الآلهة خلقت الصحراء، وحين أدركت خطأها، خلقت الجمال”.
لكن مع تطور الحياة، وميل العرب إلى الاستقرار في تجمعات سكنية داخل قرى ومدن، وتعاظم ظاهرة الجفاف، وتحديث الزراعة، ساد نمط جديد من المعمار عند العرب، دون أن يقطع نهائيا مع المرجعية الثقافية العربية. فالبيت العربي، كما المدينة العربية الأصيلة، يحيط بها حائط مرتفع، يفرض على القادم إليها الإستئذان قبل الدخول، ويحميها من الغزاة، والغرباء، ويسمح لاهل الديار بمزيد من الحرية والإستجمام بعيدا عن أنظار المتطفلين، وتعليقا على هذا النمط المعماري.
وتلفت كارول آنّ- بادمان، وهي متخصصة في التصميمات المعمارية، وموظفة بمؤسسة فيترا الألمانية إلى أن “كل خاصية في المعمار العربي تستجيب لعلة من العلل كالتهوية، والحفاظ على الحياة الخاصة، والإستجامة للظروف المناخية”، وتضيف “هذا المعمار ساعد إلى حد كبير على الحفاظ على التعدد والتنوع والتعايش داخل المدينة العربية، فكانت لقرون طويلة موطنا للأديان والثقافات المتعددة”.
دبي قادمة!
ترافق تنظيم معرض “في ظلال الشرق” مع تنظيم معرض ثان في قاعة “زها حديد” (المصممة العراقية الشهيرة) بمقر شركة فيترا بمدينة فاييل إم راين، ولا تفصل بين المعرضين سوى بضعة أمتار.
ويأتي معرض “دبي قادمة”، الذي تنظمه المؤسسة الثقافية والفنية بإمارة دبي، وقام على إنتاجه كل من الكاتب الهولندي ريم كول هايس، وجاك بارسيكيان،المدير الفني لبيينال الشارقة (معرض تصميمات ينتظم مرة كل عامين) في إطار إعلام الرأي العام الخارجي برؤية 2015، وهو التصوّر الذي بلورته حكومة دبي للوضع المستقبلي للمدينة.
ويدرك الزائر لمعرض “دبي قادمة!” مدى النجاح الذي وفق إليه القائمين على هذا المعرض خاصة عندما أسندوا إعداد محتوياته إلى خبيريّن ينتميان إلى فضائين ثقافيين مختلفيّن، وهو ما يعبر فعلا عن حقيقة ما يجري في مدينة دبي التي تتجاذبها اليوم الثقافة المحلية الخليجية بمرجعيتها العربية الإسلامية، والثقافة المعولمة المتحررة من كل عقال.
يقدم الخبير كول هايس رؤية دبي من الخارج، من خلال توفير صور لتعدد أوجه الحياة الثقافية وأنماط السلوكات في دبي في السنوات الأخيرة، بعد أن أصبحت المدينة تُؤوي أجانب ينتمون إلى 200 جنسية، في بلد يمثل فيه المهاجرون ما يزيد عن 70% من مجموع السكان.
واما بارسيكيان، الخبير الثاني، فيعكس رؤية الداخل، وذلك من خلال عرض أعمال خمسة فنانين مقيمين في دبي، إضافة إلى بعض الأفلام الوثائقية المنتقاة. هذه الأعمال تقدم صورة مفصلة للتحوّلات التي طرأت على حياة السكان المحليين، والذين يصل عددهم إلى 200.000 نسمة، ولا يمثلون سوى 20 % من مجموع السكان الحاليين للإمارة. وتثبت الوثائق المعروضة بما لا يدع مجالا للشك أن هؤلاء قد أصبحوا غرباء في وطنهم.
كلا المعرضيْن “في ظلال الشرق”، و”دبي قادمة” يتعرضان إلى معضلة ما فتئت تواجه المستقبل العربي: كيف يمكن التخفيف من ضريبة التحديث؟ أو كيف الإستجابة لمتطلبات العصر دون ضياع الهوية وحتى لا “نملك العمارات ونخسر الإمارات” مثلما قال مؤخرا مسؤول إماراتي كبير.
الجواب بالنسبة للمعرض الأول يتمثل في إستثمار العناصر الإيجابية في أنماط الثراث المعماري العربي، وهي كثيرة وعديدة، ويتمثل الجواب يالنسبة للمعرض الثاني في إيجاد حالة من التوازن، تحافظ فيه دبي على طابعها الخليجي ومرجعيتها الثقافية دون أن تضحي بمستقبلها الواعد في التحوّل إلى عاصمة دولية للأموال والأعمال.
سويس أنفو – عبد الحفيظ العبدلي – فاييل إم راين (قرب بازل على الحدود السويسرية الألمانية)
يعد “متحف فيترا” الذي أسس سنة 1989، في مدينة فاييل إم راين، الواقعة على الحدود الألمانية السويسرية، والتي تبعد عن مدينة بازل مسافة ربع ساعة، من بين أشهر المتاحف المتخصصة في مجال فنون التصميم على المستوى العالمي.
تتميز البناية التي تؤي المتحف بأناقة وجمالية معمارييين فريدتين من نوعها، صممها الأمريكي فرانك غييري. وتمثل هذه البناية علامة دالة في مساحة كبيرة تنتشر بها وحدات شركة فيترا المتخصصة في تصميم الكراسي والأثاث المنزلي على وجه الخصوص.
يساهم المتحف من خلال برنامج ثري ومتنوع في تطوير ودعم الأبحاث في مجال الأثاث المنزلي والصناعات المرتبطة بها. وتهدف المعارض الدائمة والمؤقتة التي ينظمها إلى تعزيز الرابط بين فنون التصميم من جهة والمجال المعماري من جهة أخرى، من دون إغفال الثقافات الأجنبية.
يحتفظ المتحف بتشكيلات متنوعة من قطع الأثاث الثمينة تعود لعصور مختلفة، وبه أنواع نادرة من الكراسي، ومصابيح الإضاءة، وروائع فنية أخرى. ويرحب المعرض أيضا بكل تصاميم صناعية طريفة منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن.
يشتمل المتحف على مكتبة ثرية تدور أغلب مقتنياتها حول فنون التصميم، بالإضافة إلى مجلدات لصور ووثائق تتعلق بتاريخ شركة فيترا المتخصصة في مجال صناعة الكراسي وجزء من الأثاث المنزلي.
بالإضافة إلى المعارض الثقافية والفنية، يشرف المعرض على تنظيم زيارات للطلبة والمؤسسات المتخصصة في التصيم الصناعي والمعمارين وتشمل الزيارة جناح “زهاء حديد”، كان يؤي ثكنة عسكرية سابقا (1993)، وجناح ريتشارد بوك منستر- فوللر (1950)، ، وجناح تادو – أوندو حيث تعقد المؤتمرات، بالإضافة إلى القاعات التي تصنع فيها الكراسي بمصانع شركة فيترا.
إضافة إلى ذلك، يحتوي البرنامج البيداغوجي للمتحف على تظاهرات وورشات عمل خاصة بالكبار، وبالشباب والأطفال، بما يساعد على تقريب عالم فن التصميم إليهم.
مدينة فاييل إم راين حيث يوجد المتحف هي عبارة عن جوهرة عالقة بخصر بازل، مقصد الفنانين وأعرق المشاهير في مجال التصميم، يعبق منها أريج الفن وجمال المنظر، استضافت منذ عهد شركة فيترا، ففاضت هي الأخرى عليها من روعة تصاميمها، بنايات جميلة، وكراسي مختلفة الأشكال والألوان تعمر شوارعها وحاناتها، وتملأ حدائقها ونواديها. وحق لها بعدئذ أن تلقب “بمدينة الكراسي”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.