“في لوحاتي.. الكثير من صدق الطفولة وبراءتها”
للولوج إلى عالم الرسام والمبدع الجزائري علي فضيْلي، كان لابد من تأمّل أوّلا جملة من لوحاته الفنية التي يشارك بها في معرض "تعبيرات" بأحد الأروقة الفنية في مدينة بازل يستمر إلى 22 سبتمبر الجاري.
أعمال هذا الرسّام التشكيلي البارع تضرب بجذورها في تربة الواحة الجزائرية المتأصلة في فضائها العربي الإسلامي، في انفتاح كامل على مكتسبات العصر من تقنيات فنيّة دقيقة. كما أن كل عمل من أعمال علي فضيْلي تشي بأصالة هذه التجربة، وعمق الرؤية التي تصدر عنها، وحدّة الوعي بحدود الإختيارات والمآلات النهائية التي تؤول إليها.
وللتعرّف أكثر على دقائق هذه التجربة الفنيّة وسبر أغوار الإختيارات المتحكمة فيها، التقت swissinfo.ch الرسام والمبدع علي فضيْلي، فكان الحوار التالي:
Swissinfo.ch: لماذا ترسم؟ وما الذي يمثّله الفن التشكيلي بالنسبة لكم؟
على فضيْلي: الفن والإبداع بالنسبة لي هو حاجة، ومثل حاجتي للأكل والنوم، والتفكير، أحتاج إلى فنون الخربشة والرسم والتلوين، وهي وسيلتي المفضّلة للتعبير عن أشياء أفتقدها، وأخرى أنشدها، وهواجس تخالجني، قد تكون هواجس فنية ذوقية، وقد تكون اجتماعية سياسية، وقد تكون حياتية يومية. وتتعقّد العملية الإبداعيّة وتتخذ شكلها بحسب رؤية المبدع للأشياء، وبحسب منطلقاته، وعمق تجربته وإحاطته بعلائق الأشياء بعضها ببعض.
الفن إذن بالنسبة لكم ليس ممارسة عبثية، بل له هدف وغاية؟
على فضيْلي: الغاية القصوى لأي عمل إبداعي بالنسبة لي هو تحرير القيمة الجمالية. ومن خلال مغامرتي التي قطعت حتى الآن ثلاثين سنة، كنت دوما أبحث عن جمالية خاصة أوّلا بي كفرد، ثم خاصة بتراثي كجزائري مسلم من أصول بربرية. كانت غايتي ابتكار شكل جمالي أتحاور به مع الآخر، الممثل خاصة في الإنسان والحضارة الغربية التي تُهيمن بفكرها وبفلسفتها وبقيمها الجمالية على حساب موروثات شعوب أخرى غير غربية، لها تعابيرها الخاصة المختلفة في المنطلقات والتصوّرات والنهائيات عن الحضارة الغربية.
هل أفهم من كلامكم أن الممارسة الإبداعية وسيلة للتبشير بالأفكار وكسب الأنصار إليها، وأن الفن لا يعدو أن يكون وسيلة للدعاية؟
على فضيْلي: قد يبشّر الفن بمجتمع أكثر انسانية، ولكنه لا يمكن أن يتجاوز رسالته الجمالية. وحتى الذين أرادوا أن يُضفوا على الفن رسالة سياسية، أو حديث البعض عن الفن الملتزم، أنا لا أرى أي موجب لذلك، فالإلتزام موقف ذاتي، وإذا كنت كذلك، كل ما تنتجه سيكون هادفا بالضرورة، أما أن يتحوّل العمل الفني إلى أداة للدعاية، فهذا يمسّ من نبل الرسالة الفنية. لو تمكنّا في مجتمعاتنا العربية من إيصال فكرة الإختلاف، أي أن يكون الإنسان حرا في تحديد طريقته في التعبير، وفي معالجة اللون والمساحة والفضاء. هذه فكرة جوهرية.
ما قامت به بعض الحكومات العربية في السبعينات في العراق ومصر وغيرها تأثّرا بالتجارب الإشتراكية من ضغوط على الفنانين في أن تكون رسالتهم الدعاية السمجة للإيديولوجيا السائدة، كان خطاً فادحا. ليس المطلوب من الفنان أن يكون شعبويا، بل أن يساهم بكل تواضع في الإرتقاء بمستوى ذوق الجمهور لمعانقة القيم الإنسانية النبيلة.
بين لوحة رسمها طفل، وأخرى رسمها فنّان مشهور، أيْن يكمُن الفرق؟
على فضيْلي: اللوحة قبل أن تكون موضوعا، هي مساحة ولون وتناسق بين الخط والكتلة والفضاء. والفرق بين هذه وتلك هو أن لوحة الطفل تمتاز بالصدق والبراءة، لأن الطفل متجرّد من الرقيب، وهو يرسم ليعبّر عن حاجة لديه بطريقة تلقائية. لكن مع مرور الوقت، ومع النمو الذهني والفكري، ينضب الصدق والبراءة. وهذا ما حدا ببيكاسو مرّة أن يقول عندما رأى رسما لطفل: أمضيتُ خمسين سنة لأصل إلى هذه المرحلة، أي أن كل ما قام به هو أن يعود إلى طفولته. وأنا أيضا أقول بدوري: الذي فقد طفولته فقد ذاته، وأنا لم أفقد طفولتي. أعود إلى الواحة التي وُلدت فيها (تقع بوسط الجزائر) باستمرار، وأدين لتلك الواحة بأشياء كثيرة منها قيم الصدق والبراءة والإحساس الجمالي المُرهف. وأعتقد أن لوحاتي فيها الكثير من براءة الطفولة، لأنني عندما أكون منهمكا في عملي، أكون خارج الزمان والمكان، وألغي كل ما هو واقعي من حولي لأعيش جُوّانيّتي.
إذا كانت العملية الفنيّة بهذه الدرجة من الجوّانية. وبعيدة كل البعد عن تأثير الواقع، ما الفرق بين هذه اللوحة من إبداعاتك وتلك؟
على فضيْلي: ما نعيشه لا يتكرّر باستمرار، أو لا يتكرّر على الأقل بنفس الدرجة وعلى نفس الهيئة، كذلك اللوحات هي مقامات وحالات مختلفة، مختلفة في موضوعاتها، لكن هناك خيط رفيع يظلّ يربط بين مفاصل العمل الفني. وأحد الهواجس التي تسكنني باستمرار هو ألاّ أكرّر المعايشة في العمل الفنّي، وأتجنّب باستمرار الوقوع في “فخّ التقنية”، أو أن يتحوّل الفنّ التشكيلي إلى تلاعب بالمهارات التقنية، وإلى مجرّد اختيار بين الخامات اللونية أو الأحجام والأشكال. كل لوحة، تجربةٌ في حدّ ذاتها، وهي وليدة حاجة تأتي كما تأتي. هي وليدة رؤية وإحساس قد يكون مبعثه معاينة في الواقع، أو قراءة في كتاب، أو الإصغاء إلى قصيدة شعرية، هي حالة تأتي هكذا دون سابق إضمار أو ترصّد.
الفنّ لا يعدو أن يكون لغة ونسقا، ولكل لغة نحوُها الخاص، ووظيفة تواصلية. ما هي الرسائل التي تريد إيصالها من خلال أعمالك؟
على فضيْلي: أعود وأؤكّد على أن العمل التشكيلي متعة جمالية قبل أن تكون موضوعا. وقد تحدث هذه المتعة وقد لا تحدث بحسب العمل الفنّي نفسه، وبحسب تلقيّ الجمهور له. حدوث المتعة يفتح الباب للأسئلة: من الرسّام، ومن أمضى هذا العمل، وما هو عنوانه، وهذه مفاتيح ضرورية لفهم موضوع اللوحة بعد أن حازت على امتياز القابلية البصرية. وقد يكون العنوان لوحده منطلقا لإعادة النظر في اللوحة، او منطلقا لاكتشاف علاقات جديدة داخل المنجز. وفي كثير من الأحيان، يكون في اللوحة إيحاءات لما هو خارجها، وإدراك ذلك مناط بالجمهور.
اللوحة نص وتواصل، وليس صدفة أنني اخترت الخط العربي في عملي التشكيلي. كان بالإمكان أن أكتفي برسم الجبال والوديان والبحار، لأمتّع الناس بالمناظر الطبيعية، وأنقل لهم مشاهد تثير فضولهم فوتوغرافيا، بما يلبي غرائزهم الفنية البدائية، وأعني هنا الغريزة التي تنظر إلى الجمال من خلال المحاكاة اللصيقة للطبيعة، لكن هذا النوع من الجمال هو الحد الادنى من الذوق الفنّي، وهو مستوى الصفر منه. هنا حضارتنا العربية الإسلامية ارتقت بنا إلى قمّة الذوق، والمتمثّل في التجريدية. أن نرى أشياء مجرّدة لا علاقة لها بالواقع، فعندما تنظر إلى الزليّج، أو الخزف، أو الخط العربي، حتى وإن كان غير مقروءٍ يكون جميلا، وقويّا في تكونيته وفي انسيابيته.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فما هي محدّدات النسق الجمالي الذي تحتكمون وتتحرّكون من داخله؟
على فضيْلي: لكل فنان الحرية في أن يختار النسق والقواعد التي يريد، وشخصيا الجمالية التي أريد أن أتواصل من خلالها مع الآخرين جمالية تجد جذورها في ثقافتي وهويّتي العربية الإسلامية التي أستقي منها خاصة فنون الخط العربي، والوحدات الزخرفية في النسيج والفخّار (عربية وأمازيغية)، والهندسة المعمارية (أقواس وقباب)،…غير أن تناولي لهذه الوحدات يختلف عن آخرين ينهلون من نفس المنهل، لأنني تجاوزت في بعض الأحيان اللوحة إلى فنون أخرى مثل تسجيل الفيديو، والتنصيبات، وفنون الأداء، ولكن في كل الحالات أحافظ على المفردات التي أستقيها من تراثي الثقافي. في العمل الإبداعي، يتعاقد كل فنان مع نفسه. ومن الصعب جدا بالنسبة لي بعد هذه المغامرة التي امتدت لحوالي خمسة وثلاثين عاما أن أعود لرسم المناظر الطبيعية رغم الطلبات المُلحة وكونها مصدرا مريحا للرزق.
رسام تشكيلي وإعلامي ومبدع في مجال تسجيل الفيديوهات وفن الأداء.
بعد حصوله على الماجستير في علوم الإتصال والإعلام، عمل كصحفي ومصمم غرافيك في العديد من الصحف الناطقة بالعربية في الجزائر.
منذ الإنقلاب العسكري على نتائج انتخابات ديسمبر 1991 في الجزائر، غادر بلاده وأصبح يقيم في فرنسا.
منذ عام 2000، انقطع عن ممارسة الصحافة، وتفرّغ للفنون التشكيلية، وله في هذا المجال أبحاث “أصيلة وفريدة من نوعها”، كما يقول في لقاء مع swissinfo.ch.
نظّم العديد من المعارض الفردية والجماعية في فرنسا والجزائر وتونس، وحاليا في سويسرا. وبيعت أعماله في كل من الجزائر وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والصين وأمريكا الشمالية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.