كانت “صوت سويسرا” الدولي في عالم متغيّر..
بدأت سويسرا منذ عام 1935 ومن قلب أوروبا في بَث برامج خاصة موجهة لرعاياها المغتربين في الخارج عبر إذاعة الموجات القصيرة، التي تحولت لاحقاً إلى إذاعة سويسرا العالمية (SRI)، قبل طي آخر صفحة لبثها الإذاعي في أكتوبر 2004. واليوم، ينكب عدد من الباحثين على دراسة السجلات والرسائل والتسجيلات الخاصة بهذه الوسيلة الإعلامية للإطلاع على جهودها في تكريس الهوية الوطنية السويسرية عبر موجات الأثير في تلك الحقبة التاريخية المهمة.
“بإمكانك أن تشعر بالتاريخ في هذه الوثائق”، تقول فاني غوتشيه، المساعدة لشؤون البحوث في مؤتمر الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة بازل، وهي تقلِّب صفحات إحدى المذكرات الداخلية لمجلس إدارة إذاعة الموجات القصيرة السويسرية، يعود تاريخها إلى عام 1968. وكان هذا العام قد شهد ما سُمّي حينئذٍ بـ “ربيع براغ” في الجمهورية الإشتراكية التشيكوسلوفاكية، حينما حاول الحزب الشيوعي هناك انتهاج سياسة إصلاحية أقرب للديمقراطية، انتهت باجتياح عسكري للبلاد بقيادة الإتحاد السوفياتي.
“كانوا يفكرون بإنشاء خدمة اخبارية تشيكية أو برامج تُخاطب الجمهور التشيكي. وكانوا يبحثون في احتمالات نجاح مثل هذا المشروع”، كما توضح. وبالفعل، تم بَث بعض البرامج الإخبارية، ولكنها لم تكن سوى رد فعل قصير الأمد على حدث سياسي، ولم تستمر لفترة طويلة.
في تلك الحقبة المهمة في تاريخ هذه المحطة الإذاعية، كان توفير معلومات مُحايدة حول الأحداث العالمية إبان فترة الحرب الباردة في صميم مَهام هذه الخدمة الإعلامية السويسرية، كما كان الترويج لقوة الكنفدرالية واستقلالها مسألة مهمة. ولكن فكرة ‘السوسرة’ بمعناها الأوسع – ما يعنيه أن يكون المرء سويسريا، أو الإختبار الفعلي لسويسرا – كانت محورية أيضاً في البرامج والموسيقى التي تُبَثها المحطة إلى أصقاع العالم المختلفة، بغية عكس الصورة المثلى عن البلد والترويج له في الخارج.
وكما تكشف المذكرة التي تعود إلى عام 1968، كان إعداد البرامج الموَجَهة للجمهور التشيكي يتم بأسلوب يتجنب الخوض في السياسية.
وفي هذا السياق، تضمنت بعض المواد المطروحة في بث نموذجي مواضيع “التبرع بالدم، والصليب الأحمر، والخدمة البريدية وسياسة اللجوء في سويسرا”. وكانت ردود الأفعال ضئيلة على هذه التجربة التي لم يُكتب لها الدوام طويلاً – الأمر الذي تعزوه غوتشيه إلى الرقابة بشكل أساسي، بالإستناد على هذه المواد الأرشيفية.
“إنها تشير إلى مراقبة الرسائل التي كانت ترد من مُستمعي تشيكوسلوفاكيا. لقد تلقت المحطة الإذاعية رسالة تعرضت للفَتح من قبل الرقيب في تشيكوسلوفاكيا، ولكنها أرسِلَت مع ذلك. هذا كان رد الفعل الوحيد الذي تلقوه… وقد تكون هناك المزيد من الرسائل التي [لم يُكتب لها الوصول]”.
الحفاظ على التواصل…
في السياق، ترى غوتشيه، التي تقوم برفقة باحثين آخرين بدراسة الأرشيف الواسع لهذه الخدمة الإذاعية، التي سبقت الخدمة الدولية الراهنة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية على شبكة الإنترنت “سويس إنفو” swissinfo.ch أن “سويسرا كانت محاطة بدول قوية جدا، وهو ما جعلها تهتم بتقديم نفسها كدولة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها أيضاً”،
وفي عصرها الذهبي، كانت المحطة الإذاعية تبث بسبع لغات رئيسية وهي الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية، والعربية، مع بَث بعض البرامج العرضية القصيرة الأمد، أو تلك التي تُبَث لمرة واحد فقط بلغات أخرى.
وبحسب باتريشيا ياغّي، الباحثة الأخرى من جامعة بازل العاملة في مشروع الترويج الإذاعي لمفهوم ‘السوسرة’: “لم يكن التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأهم في ذلك الوقت بعد، وكان البث الإذاعي ولا سيما على الموجات القصيرة في سياق دولي، هو الوسيلة الأكثر أهمية للحفاظ على التواصل عبر المسافات الشاسعة”.
وكما تقول غوتشيه، فقد “حصلت المحطة الإذاعية على تمويل أكثر من الدولة وهيئة الإذاعة والتلفزيون خلال العقود الأولى من فترة الحرب الباردة، وفي أعوام الخمسينيات والستينيات، مما مَكَّنها من التطور والتحول إلى مؤسسة أكبر”. وتضيف: “كانت إذاعة الموجات القصيرة في الأعوام الأولى لتأسيسها موجهة بشكل أكبر للسويسريين المهاجرين في الخارج (أو ما يسمى بسويسرا الخامسة)؛ وكانت تبث الكثير من الموسيقى الشعبية وتستخدم اللهجات السويسرية الألمانية. بيد أنها أصبحت أكثر مهنية وعالمية لاحقاً في أعوام الستينيات، وكانت تصبو لأن تصبح خدمة إذاعية دولية احترافية بِحَق، وتحذو حذو الخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية ‘بي بي سي’”.
وفي مكتبها في بازل، تتوفر غوتشيه على أكوام من الرسائل والوثائق الخاصة بإذاعة سويسرا العالمية (SRI) التي صُنِّفَت حسب العشريات. وتزداد هذه الأكوام سُمْكاً في الخمسينيات والستينيات، ثم تعود لتنكمش مع نهاية التسعينيات، وصولاً إلى المرحلة التي توقفت فيها المحطة عن البث في شهر أكتوبر 2004.
المزيد
من البرازيل وتنزانيا والمغرب وأستراليا.. مع الحب!
وتؤكد غوتشيه على أن “المستمعين كانوا يُنصتون للإذاعة لاعتقادهم بأنها صوت محايد من أوروبا”. ولكن بريق هذا الخطاب المتميز تضاءل بعد سقوط جدار برلين في عام 1989.
…والوحدة الوطنية
وعلى النقيض من الخوض المؤقت في تجربة البث التشيكي، كان الإتصال قوياً على العموم بين الإذاعة ومستمعيها المُنتشرين في شتى أصقاع العالم. واستهدف جزء مهم من هذه الخدمة الإذاعية الحفاظ على وحدة السويسريين أينما كانوا. واتسمت العديد من الرسائل التي كانت ترد إلى الإذاعة بعاطفتها الجياشة، مثل تلك المكتوبة باللغة الألمانية من ولاية نيو جيرسي، التي إستُلِمَت في أواخر الثلاثينيات.
“عندما أستمع إلى المطربين القُدامى ومؤدي اليودل، يغلبني الحنين وتنهمر الدموع من عيني، رغم أني أقيم هنا منذ 50 عاماً وأبلغ السابعة والستين”، كما جاء في رسالة المُستمعة.
المزيد
عزف على ناي من “إلغاو” بكانتون شفيتس
ووفقاً لغوتشيه، كان هذا النوع من الرسائل نموذجياً. وتقول: “كنت أقرأ الكثير جداً من هذه الرسائل بالفعل. كان الإستماع إلى برامج إذاعة سويسرا العالمية يجعل السويسريين المقيمين في الخارج عاطفيين جداً”.
وكانت جموع السويسريين الذين هاجروا من الكنفدرالية (لا سيما في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هرباً من الفقر) حريصة على المشاركة في الأنشطة التي كانت تقربهم من الصورة المثالية لسويسرا، مثل مهرجان الإذاعة العالمي للرماية. وقد أقيمَت هذه المنافسة العالمية التي أنشأتها المحطة سبع مرات من أواخر الثلاثينيات وحتى موفى الستينيات. ومن المعروف أن الرماية بالبندقية هي جزءٌ من التدريب العسكري السويسري، كما تقام مسابقات الرماية في جميع أنحاء البلاد للمهتمين بهذا النوع من النشاط وذوي البصر الثاقب.
وبحسب الباحثين، يمكن اعتبار القدرة على الدفاع عن النفس بالبندقية جزءً من مفهوم ‘السوسرة’ وتقليداً يمتاز بعراقة جذوره. ومن المعروف أن أسطورة ويليام تيل السويسرية الشهيرة تنبع من قدرته على التصويب نحو قبعة أحد الطغاة – باستخدام القوس والسهم بطبيعة الحال وليس البندقية.
“كان بمقدور جميع السكان في أي ‘مستوطنة سويسرية’ في دولة أجنبية الإشتراك في المسابقة”، كما تقول غوتشيه، في إشارة الى المجتمعات السويسرية في الخارج. “كانوا يرسلون نتائج المسابقة إلى الأستوديو في برن بواسطة البرقيات، ليتم إختيار الأول عالمياً هناك”. وكان عدد الدول المشاركة في المهرجان يتراوح ما بين 20 و 30.
التصور السويسري
لابد من القول بأن مهمة تقديم سويسرا إلى العالم في تلك الفترة كانت تتطلب تفكيراً متعمقاً من قبل مُنتجي المحطة والصحفيين الإذاعيين. وكان إعداد البرامج يختلف من لغة إلى أخرى، ولكن يوم العمل كان يبدأ في العادة بساعة ونصف من البث باللغة الألمانية، تليه الإنجليزية، ثم الإسبانية وهلم جرا. وكان للأخبار والمستجدات موقع الصدارة دائماً، كما شغلت الموسيقى – التي كانت خليطاً من الموسيقى السويسرية، والموسيقى الرائجة في تلك الحقبة كالجاز أو انغام الفرق الموسيقية الكبيرة في الخمسينيات – حيزاً مهماً من موادها. إضافة إلى ذلك، اشتملت البرامج الإذاعية على مجموعة من المواضيع الثقافية، والمهرجانات الموسيقية والرياضية، ولا سيما خلال أيام عطلة نهاية الأسبوع.
“كانت المحطة دائماً نقطة لِتلاقي سويسرا مع بقية العالم، وكانوا يريدون بثَّ رسالة عن سويسرا للعالم من جهة، والحصول على إعجاب المُستمعين بالمحطة من جهة اخرى. كان عليهم معرفة ما يهم المستمعين”، كما تقول غوتشيه.
وللتوصل إلى ذلك، كان هناك قسم خاص لتحليل خطابات المستمعين، كما نُظِمَت رحلات إلى محطات إذاعية مختلفة في أنحاء العالم، بغية التعرف على نوع البرامج التي كان المستمعون يتوقعونها في أماكن أخرى.
ووفقا لغوتشيه: “كانت المحطة تعكس صورة نمطية حتى أعوام الستينيات، عندما بدأوا يطمحون بالتحول إلى المزيد من العالمية …ثم أرادوا أن يقولوا ‘نحن سويسرا’، نحن لا نتوفر على الجبال والجبن والشوكولاته فقط، ولكن لدينا العلم والصناعة والإبتكارات أيضاً”. وقد حاولت برامج مثل “لا تبقى واقفاً هكذا، إفعل شيئاً” أن تُحيي مستويات مختلفة لاختبار الحياة في سويسرا.
المزيد
هنا سويسرا .. عالم هايدي
عموما، ترى الباحثة ياغّي أن المستمعين لتلك المحطة “كانوا يبحثون عن أشياء يجهلها الناس دائماً… أشياء خارج المَسار لا يمكن العثور عليها عادة في كل دليل سياحي سويسري”، ثم أضافت: “كانوا يقولون دائماً أنهم يحاولون تقديم الواقع السويسري للناس في جميع أنحاء العالم… وأجدُ أن حماسهم للعمل واهتمامهم به بهذا الشكل أمرٌ مؤثرٌ حقاً”.
بث مشروع أرشيف “السوسرة”
يعكف فريق البحث على النظر في الكيفية التي ساهمت بها برامج وسياسات موجات الخدمات السويسرية القصيرة (التي أصبحت تسمى لاحقا إذاعة سويسرا العالمية) في تشكيل “السوسرة” – وهي الفكرة الكامنة وراء ما يعنيه أن يكون هذا الشخص أو هذا الشيء سويسريا.
وفي الوقت الحاضر، يقوم باحثون من جامعتيْ بازل وزيورخ، ومن جامعة لوتسرن للفنون والعلوم التطبيقية بدراسة مختلف جوانب أرشيف المحطة الإذاعية بما في ذلك الوثائق والتسجيلات والبرمجة التي تشمل الكلام والموسيقى.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.