كيف ساهم المرتزقة السويسريون في توسّع الاستعمار؟
شهد القرن التاسع عشر مشاركة شبان سويسريين من الطبقات الفقيرة في القوات الاستعمارية في آسيا وإفريقيا. وبينما كان دور المرتزقة السويسريين في أوروبا معروفاً، فإن الباحثين كشفوا مؤخراً عن وجود وثائق توضح كيف شارك جنود سويسريون في تكريس السيادة الاستعمارية حتى الحرب العالمية الأولى.
بعد يوم عمل مرهق في المزرعة أراد توماس زوتر* (*اسم مستعار) ابن التاسعة عشرة وأصيل إحدى القرى بوادي إيمنتال تناول مشروباً في الحانة. كان هناك أزيز في الجو. إذ كان الجميع يتحدثون عن يورغ كيلر*، الذي ترك القرية المجاورة في العام الماضي، ليلتحق بجيش الاستعمار الهولندي بالهند.
قام كيلر قبيل ذلك بإرسال خطاب إلى أسرته من جزيرة لومبوك بشرق الهند التي كانت تقع آنذاك تحت نير الاحتلال الهولندي، والتابعة اليوم لإندونيسيا، حيث شكى من الحر والطعام والسكان المحليين. لكن ما وصفه من متاعب، بدا لهؤلاء الذين سمعوا به في تلك الحانة بوادي إيمنتال غريباً ومثيراً للاهتمام. لقد كانوا معتادين على الحياة البسيطة والنمطية في أعمال الفلاحة والرعي. وكان بعض هؤلاء الرجال الشباب يتمنون سراً لو قلدوا كيلر وتركوا هذا الوادي وتسنى الهم الهروب من هذه الحياة التي ليس بها أي جديد، ليصبحوا جنوداً مرتزقة في البلدان الحارة.
وكان كل ما يجب عليهم فعله هو انتظار من يطلبهم. فصحيح أن تجنيد المرتزقة كان ممنوعاً، ذلك لأن السلطات الفدرالية لم تكن راغبة في أن يقوم السويسريون بخدمة القوى الأجنبية، إلا أن هذه القوى كانت تُجري دوراتها التدريبية بصورة منتظمة في الوادي. وكان الشبان السويسريون يُنقلون بعد ذلك عبر نهر الراين إلى هاردرفيك في هولندا، حيث يوجد مكتب جيش الاستعمار الهولندي بالهند. وفي مدينة هاردرفيك كان يمكنهم المبيت في فندق “هيلفيتسيا” أو مقهى “سويس”، الذي كان يديره بعض المرتزقة السويسريون السابقون، والذين كانوا يساعدون الشبان الوافدين في إنهاء إجراءات التجنيد الرسمية في مقابل بعض الرسوم. ومن ثَمَّ يُبحرون بالسفينة إلى شرق الهند الواقع تحت السيطرة الهولندية، حيث ينبغي أن يقيموا به مدة ست سنوات على الأقل.
“لقد كانوا يرون في المستعمرات فرصة تتيح لهم ارتقاء السلم الاجتماعي وتحقيق حلم الحياة البرجوازية”، على حد قول فيليب كراور، الباحث في تاريخ العالم الحديث بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ.
صناديق ملأى بالوثائق
لقد حصل كراور وزملاؤه في الأرشيف الفدرالي مؤخراً على عشرين صندوقاً ملأى بوثائق حول حياة الجند المرتزقة في جيش الاستعمار الهولندي التي لم يتناولها أحد بالدراسة حتى الآن. وعلى الرغم من أن الدور الذي لعبه المرتزقة السويسريون في أوروبا يُعدّ معروفاً، إلا أنه لا توجد الكثير من المعلومات حول عملهم في المستعمرات.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعانة بالمرتزقة أمراً غير اعتيادي في أوروبا ـ حيث كان شبان سويسريون يحاربون آنذاك في المستعمرات الأكثر بُعداً. وفي جيش الاستعمار الهولندي، كان السويسريون محل ترحيب كبير، لأن أغلبهم كان يتمتع بتأهيل عسكري أساسي كما أنهم كانوا رماة مهرة. إلا أن سمعتهم قد تضررت بعد العصيان السويسري الذي وقع عام 1860 في مدينة سيمارانغ بإندونيسيا، والذي كان بدافع من ظروف العمل السيئة. برغم ذلك، وابتداءً من عام 1815 وحتى الحرب العالمية الأولى، كان حوالي 8000 مرتزق سويسري قد التحقوا بجيش الاستعمار الهولندي في أندونيسيا.
في المقابل، التحق المزيد منهم بـ “اللفيف الأجنبي” (أي Légion étrangère) الفرنسي، وتشير التقديرات إلى أنه قد انضم لها ما بين عامي 1830 و1960 حوالي أربعين ألف سويسري، وأنهم شاركوا في معارك بشمال إفريقيا وفيتنام. وبشكل عام، كان المرتزقة السويسريون يشكلون حوالي 10 بالمائة من القوى الأوروبية المتحاربة.
البؤس السويسري
كان المرتزقة كثيراً ما يفرون بسبب الفقر. فحتى نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت سويسرا تعتبر واحدة من أكثر الدول الأوروبية فقراً، وإحدى دول النزوح. بل أن الحكومة السويسرية كانت تقدم لأبنائها قروضاً من أجل الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو أمريكا الجنوبية. وكانت الحكومة ترى أنها سياسة ذات تكلفة مناسبة، بأن تدفع بالشباب الذكور من أبناء الأسر المتواضعة إلى الهجرة للالتحاق بحياة المرتزقة. “لقد كان الكثير من السياسيين ومن موظفي الملاحقة القضائية يعلمون بأمر التجنيد غير القانوني للمرتزقة على الأراضي السويسرية، إلا أنهم كانوا يغضون الطرف عنها. وكان رأيهم، أنه من الأفضل لغير المرغوب فيهم وللفقراء البعد عن الوطن بدلاً من إثارة القلاقل”، على حد تصريحات السيد كراور لـ swissinfo.ch.
إلا أن الحاجة الاقتصادية لم تكن السبب الوحيد ما دعا الشباب السويسري إلى الالتحاق بالجيوش الاستعمارية ـ فالكثير منهم كان يأمل في حياة أكثر إثارة ومغامرة. “لقد قرأت رسالة كتبها أحد الجنود إلى أمه، حيث كان يخبرها بأنه في كل مرة كان يرى فيها قطاراً يمر بقريته، كان يتملكه الحنين إلى الرحيل. ولم يكن يطيق فكرة البقاء في القرية الصغيرة، وأن يصبح فلاحاً مثل أبيه وجده”، يقول كراور.
يضاف إلى كل ذلك الأساطير التي كانت تحتفي بهؤلاء الذين أقدموا على تلك الخطوة الكبرى. فقد كتب غوتفريد كيلر، أحد أشهر الكتاب السويسريين في منتصف القرن التاسع عشر، قصة عن صبي ترك منزل أسرته للالتحاق بالكتيبة البريطانية في شرق الهند، ولاحقاً باللفيف الأجنبي (كتيبة الأجانب الفرنسية) في شمال إفريقيا، حيث قتل أحد الأسود، وترقى إلى رتبة عقيد، ثم أصبح ثرياً للغاية.
حياة صعبة
لكن كثيراً ما بدت الحقيقة مختلفة. فبعد الوصول إلى إندونيسيا شعر الكثيرون بالصدمة، وذلك ليس فقط بسبب الطقس الحار. حيث كان المجندون الشباب يقضون أول ثلاثة أشهر في التأهيل، وكان اتصالهم بأوروبيين خارج الثكنة محدودا جدا. وكانت أمراض مثل الملاريا والكوليرا تمثل خطراً كبيراً: “فقبل توفر عقار الكينين (لعلاج الملاريا) في خمسينيات القرن التاسع عشر، توفى أكثرهم خلال الأشهر الثلاثة الأولى بسبب أمراض المناطق الحارة”، على حد قول كراور.
في ذات الوقت، كانت الحياة اليومية تعد رتيبة إلى حد كبير. إذ كان على المرتزقة التدرب والتمرن كثيراً على استعمال السلاح. أما الطعام الرئيسي فكان يتمثل في الأرز، وكانوا يشربون بصفة أساسية مشروب الجِن الهولندي، ذلك لأن البيرة كانت تستورد من الخارج. وكان يُسمح للمرتزقة السويسريين أن يكون لهم عشيقات، بل وأن يأسّسوا معهن أسراً.
في سياق متصل، توضح المذكرات أن المرتزقة كانوا يسعدون بترك الثكنة ليشاركوا في دوريات بالمزارع. وكان وجودهم هناك يسهم في خلق جوٍ من الرعب بين السكان المحليين، حتى يظل عمال المزارع يعملون بجد. وكان أكبر صراع تورط فيه المرتزقة السويسريون هو حرب آتشيه، التي بدأت عام 1873 واستمرت حوالي أربعين عاماً. آنذاك كان هناك في شمال سومطرة ما بين 8000 إلى 10000 جندياً في الخدمة. وكان السويسريون جزءًا من الوحدات الخاصة التي لا تعرف الرحمة، والتي كانت تقوم بدوريات في الأرخبيل وتُخْضِع القادة المحليين عن طريق استراتيجيات الأرض المحروقة.
“لقد قُتِلَ آلاف الأعداء، وأُحرِقَت بيوتهم وممتلكاتهم الأخرى، وأُسِرَ حاكم لومبوك، وأُرسِلَ أكثر قادة الأعداء إلى العالم الآخر”، مثلما ورد في رسالة الجندي المرتزق إيميل هيفلي إلى والد مواطنه إيغلوف المتوفى في عام 1895. أما الأكثر ضراوة فكانت الإجراءات الانتقامية، حينما كان يُقتَل بعض من زملائهم.
أما أبناء هؤلاء الذين نجوا من المهام التي نفذتها تلك الوحدات الخاصة في جزيرة فلورس الإندونيسية، فإنهم قد سردوا لعلماء الإنثروبولوجيا لاحقاً، كيف كتبت لهم حياة جديدة بعد أن ظلوا مختبئين في مغارة تحت جثث أقربائهم. أما جنود الجيوش الاستعمارية فإنهم لم يفرقوا بين مدنيين ومحاربين.
وكان رأي كراور في ذلك كالآتي: “آنذاك كان لدى سويسرا اللجنة الدولية للصليب الأحمر وكانت هناك نقاشات دائرة حول الكيفية التي يُمكن بها شن حروب أخلاقية. في ذات الوقت كان السويسريون في إندونيسيا يُشاركون في مذابح بشمال سومطرة، وآتشيه وفلورس والعديد من الجزر الأخرى”، يقول كراور.
العودة إلى الوطن
لم يكن من حق الجند المرتزقة العودة إلى الوطن، إلا بعد أن يكونوا قد خدموا ست سنوات على الأقل في إندونيسيا. ولم يكن في مقدورهم الانشقاق، ذلك لأنهم كانوا محاطين بالبحر من كل جانب.
“وإذا ما أرادوا الرحيل قبل مرور ستة سنوات من الخدمة، فإنه كان يتوجب عليهم سداد مبلغ ألفي فرنك سويسري، وهو ما كان يُعتبر مبلغاً ضخماً في تلك الأيام. كما كان عليهم توفير بديل عنهم”، على حد قول كراور. ولم يكن في مقدور الجند المرتزقة ادخار الكثير من المال، لكنهم كانوا يحصلون بعد مرور اثني عشر عاماً من الخدمة، على معاش سنوي قدره مائتا فرنك بحد أدنى، بل إن بعضهم كان يصل معاشه إلى ألفي فرنك سويسري.
وبعودتهم إلى الوطن، لم يُستقبل المرتزقة استقبال الأبطال. حيث كانت سمعة الجند المرتزقة سيئة بين المواطنين: فمن يخدم لفائدة بلد آخر، كان يُنظر إليه باحتقار، وكان يُعتبر منحطاً أخلاقياً ـ حيث كانت القناعات القومية تزداد أهمية آنذاك في هذا البلد الفدرالي الناشئ. كما كان يُخشى أن يعود الجند المرتزقة إلى سويسرا حاملين معهم عادات سيئة.
لقد عانى الكثيرون من صدمات نفسية حادة بسبب تلك المجازر التي شاركوا فيها، ولم يستطيعوا الاندماج مرة أخرى في المجتمع. كما أنهم واجهوا مقاومة، حينما أرادوا الإتيان بعشيقاتهم وأبنائهم إلى سويسرا.
وبعكس التجار السويسريين والمبشرين الدينيين، الذين كانوا يشاركون في الأعمال الاستعمارية، فإن الجند المرتزقة لم يخلفوا إرثاً كبيراً متمثلاً في كتب أو متاحف، تزخر بالأشياء الغريبة. إلا أنه كان لديهم أثر كبير على موقف السويسريين من الأجانب: “لقد ساهم وصفهم للسكان الأصليين في رسائلهم في نشر أفكار نمطية حول الأجناس الأخرى في الأودية والقرى السويسرية. ولا تزال بعض هذه الأفكار النمطية سائدة حتى اليوم”، كما يقول كراور.
لزمن طويل لم يكن الأمر واضحاً تماماً، ما إذا كان عمل المرتزقة السويسريين قانونياً أم لا. وساهمت هذه المنطقة الرمادية في استمرار تلك الظاهرة حتى الحرب العالمية الثانية.
مع تأسيس الدولة القومية السويسرية الحديثة في عام 1848، قام الدستور بمنع إبرام العقود بين الموظفين السويسريين مع أطراف أخرى مثل ملك فرنسا وملك إيطاليا. وكان هذا يعني أن السلطات المحلية لا يمكنها اتخاذ إجراءات وقائية لإمداد الجيوش الأجنبية بكتائب سويسرية. برغم ذلك كان يُمكن للأفراد الانضمام لتلك الجيوش الأجنبية طواعيةً.
وبعد سنوات قليلة أصبح دعم عمل المرتزقة وتجنيدهم على الأراضي السويسرية ممنوعاً.
في عام 1859، مُنِعَ الانضمام لـ “كتائب غير وطنية” بموجب قانون جديد، إلا أن التعريف لم يكن دقيقاً، ذلك لأن الهولنديين أصروا على أن جيوشهم الاستعمارية ما هي إلا جزء من جيوشهم القومية.
في عام 1928، أضيفت إلى قانون الجيش مادة لا لبس فيها، تنص على أن المواطن السويسري لا يُسمح له بالخدمة في أي جيش أجنبي كان. إلا أن البعض استمروا في الإنضمام إلى “اللفيف الأجنبي” وهي كتيبة فرنسية تتشكل من مقاتلين أجانب.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.