متحف زيورخ للفنون.. مقاربة جديدة لتناول “الفن في سياق الحروب والنزاعات”
يشرع متحف زيورخ للفنون من جديد في التعاون مع مجموعة بوهرلي الفنية المُثيرة للجدل. سويس إنفو أجرت مقابلة مع مديرة المتحفآن ديميستر للحديث عن هذا المعرض الفنِّي، وما يحيط به من جدل.
في خريف عام 2022، افتتح متحف زيورخ للفنون معرضًا تتشكل أغلبية معروضاته من أعمال فنيِّة انطباعية استعارها المتحف من مؤسسة إميل بوهرلي. وتعرَّض المتحف بسبب ذلك إلى موجة عالمية من الانتقادات سببها الرئيسي أنَّ بوهرلي كان تاجر أسلحة، وأنَّ الكثير من الأعمال الفنيَّة في مجموعته كان قد اقتناها إبَّان النظام النازيِّ في ظروف غامضة ظلَّت قيد الدراسة لفترة طويلة.
وكان ضلوع المؤسسة في توجيه الفهم العام حول السياق التاريخي للمجموعة سببًا آخرًا للجدل الذي أحاط بالمعرض قبل افتتاحه. وفي ظلِّ إدارة جديدة، يُعيد المتحف اليوم تدشين المعرض تحت عنوان “الفن في سياق الحروب والنزاعات”، في إطار مساعيه إلى فتح فصل جديد في تاريخ هذه المجموعة الفنيَّة، وتجديد نهجه ليُركِّز على السياق الذي ساد وقت الاستحواذ على هذه اللوحات.
وتحدَّثت مديرة المتحف آن ديميستر إلى سويس إنفو (SWI Swissinfo.ch) وشرحت النهج الذي تتبنَّاه في التعاطي مع المجموعة الفنيَّة، والذي يختلف كثيرًا عن النهج الذي تبنَّاه سلفها كريستوف بيكر، وأوضحت ما لمتحف زيورخ من خصوصيات مقارنةً بنظيره في برن، الذي كان عليه أيضًا أن يتعاطى مع قضية بارزة أخرى هي مجموعة غُرليت الفنيَّة.
سويس إنفو: في مقابلة سابقة أُجريت معكِ في عام 2022، قُلت إنَّ العمل الفنِّي يظل تحت رحمة التاريخ بعد وفاة الفنَّان. فهل يعتريك الغضب أحيانًا تجاه إميل بوهرلي ومجموعة أعماله الفنية، بسبب ما ارتكبه بحق الفن؟
آن ديميستر: أُحاول ألَّا أغضب على أشخاص قضوا نحبهم، فلا فائدة كبيرة تُرجى من ذلك. ولكنني أدرك دائمًا حقيقة أنَّ الفنَّ والتاريخ لا يمكن الفصل بينهما في حالة مجموعة بوهرلي للأعمال الفنية. فالأعمال الفنية في حدّ ذاتها لا ذنب لها، ولكنها شواهد على جرائم واضحة وظلم مبين. وأصبحت أيضًا وثائق تُذكِّر بالفظائع التي ارتكبها النظام النازي.
ومن خلال هذا المعرض، نودُّ إظهار الجانبين: فهذه مجموعة جميلة من روائع فنية استثنائية. ولكنها أيضًا مُحاطة بالجدل. فمن ضمنها أعمال كانت فيما مضى مقتنيات خاصة لأفراد يهود، ولا تزال تلك الحالات موضوع نقاش إلى الآن. وكذلك بعض الأعمال الفنية التي اشتراها إميل بوهرلي برأسماله الخاص، وهو رأسمال تحقَّق جزء كبير منه من بيع الأسلحة لألمانيا النازية.
ما هي الأسباب الدقيقة التي دفعت بوهرلي إلى شراء هذه اللوحات؟
اشترى بوهرلي أعمالاً فنية من الدرجة الأولى وذات جودة استثنائية لفنانين مرموقين. وتراوحت اهتماماته بين أعمال الأساتذة القدامى، ومنحوتات القرون الوسطى وأعمال الحداثة الكلاسيكية المبكرة. وكان يمقت الفن التجريدي. فقد كان في بداياته يرغب عن شراء لوحات بيكاسو، ربما بسبب انتمائه للشيوعية، ولكن قيل لي إنَّه أصبح يشتريها لاحقًا، لأنَّ بيكاسو أصبح جزءًا من المرجعية الفنية في ذلك الوقت. لقد كان بوهرلي شديد السعي وراء الأسماء التي تُشكِّل مرجعية فنية.
قلَّما لفت متحف زيورخ للفنون الأنظار كما حصل في السنتين الماضيتين. فهل يكون في هذا فرصة أيضًا؟
سيكون ذلك أمرًا غير واقعيّ، فهناك الكثير من المعاناة التي تحيط بهذه المجموعة الفنية. ولكنني أعتقد أن مجموعة بوهرلي أجبرتنا على أن نأخذ دورنا على محمل الجد، وأن نواجه العالم، وألَّا نكون مجرد قصر للفنون الجميلة. علينا أن نكون متحفًا معاصرًا يخوض أيضًا في نقاش المواضيع المؤلمة، ولا يمكنه دائمًا أن يسكن إلى الانسجام.
قبل أسبوع، حدثت انتكاسة عندما استقال جميع أعضاء المجلس الاستشاري العلمي لمؤسستكم.
لولا المجلس الاستشاري لكان هذا المعرض مختلفًا؛ لقد قدَّم لنا ملاحظات لا تقدر بثمن على مدى 12 شهرًا مضت حول مواضيع المعرض وكيفية توجيه الدعوى الفاعلة لحثِّ الجمهور على المشاركة. ولولاه، لربما كنا سنتبنى منظورًا مختلفًا تمامًا. ولكنهم، في نهاية الأمر، شعروا أنَّ بوهرلي لا يزال يحتلُّ جزءًا كبيرًا من بقعة الضوء وأن الضحايا ليسوا في بقعة الضوء كما يجب. ونحن نحترم ذلك، ولكننا نرى الأمور بطريقة مختلفة.
كانت إحدى نقاط الانتقاد التي قدَّمها أيضًا المجلس الاستشاري هي أنه يمكن النظر إلى اللوحات دون تدخل، وأن السياق التاريخي الذي انبثقت منه هذه اللوحات لم يبرز بالقدر الكافي.
من واجبنا كمتحف أن نشرح سياق هذه اللوحات. ولكننا نُعرض عن حجبها بطبقات من المعلومات أو تغطيتها فقط لجعلها أكثر وضوحًا. نودُّ أن نعطي هذه الأعمال متنفَّسًا وأن نجعلها أيضًا قادرة على الظهور كأعمال فنية.
برأينا، فإنَّ التاريخ لا يُمكن تجنبه في معرضنا، ولذلك فهو يبدأ عمدًا بلوحة جميلة، ولكنها أيضًا لها تاريخ معقَّد ومؤلم، وهي رسم لإيرين كاهين دانفير بريشة رونوار. نودُّ أن نُتيح للزوَّار أن ينظروا إلى هذه اللوحة باعتبارها تحفة فنية انطباعية.
قبل أسبوع واحد من افتتاح المعرض، استقال المجلس الاستشاري العلمي- بعد إصدار العديد من البيانات الداخلية. وكان المجلس بجميع أعضائه رجالًا ونساءً قد انتقدوا حقيقة أن المعرض لا يزال يركِّز بشكل قوي على شخص إميل كموضوع رئيسي للمعرض. وفي رأي المجلس، يقوّض المعرض الجديد موقف ضحايا الأحداث السياسية التي انتهزها بوهرلي لصالحه كرجل أعمال وجامع للتحف الفنية.
وقدَّم المجلس حججًا بأن حياة الأصحاب السابقين للأعمال لا تلقى التقدير الذي يليق بها. ويركِّز المعرض على “تاريخ المستفيدين” بدلًا من تسليط الضوء على الشخصيات التي لها إسهامات جوهرية في صياغة الحداثة من خلال دعمها للفنانين.
ويرى المجلس أيضًا أن المعرض لا يُقدِّم تفاصيل كافية عن سياسة الإبادة التي انتهجها حكم الاشتراكية الوطنية، والتي تعد جزءًا أساسيًّا من تاريخ المجموعة. ولا يُظهر سياسة سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية. وتقول ستيفاني مارر، العضوة في المجلس الاستشاري: “إنَّ المعرض لا يزال صامتًا أيضًا عن دور سويسرا كنقطة مركزية لإعادة تحميل الأعمال المنهوبة أو الأعمال المباعة نتيجة للهروب”.
ولكن ينبغي لهم أيضًا أن يتعلموا أن وراء هذه اللوحة حياة مليئة بالحرب والخسارة والموت- عائلة إيرين كاهين دانفير قتلت بأكملها في معسكرات الاعتقال، وكان النازيون قد صادروا صورتها هذه. وبعد أن انتهت الحرب، أُعيدت اللوحة إليها ثُمَّ باعتها لبوهرلي في عام 1949.
كيف تمكنتم من عرض هذا؟
حتى بعد القاعة الأولى، هناك مسار محدَّد مُسبقًا عبر المعرض؛ وعلى الزوَّار أن يمروا عبر أشرطة فيديو على بيانات مُسجَّلة عن المعرض، وعبر القاعة التي تتحدث عن مصير الأفراد اليهود من هواة جمع الأعمال الفنية، وكذلك عبر القاعة التي تتناول رحلة الأعمال الفنية من مصدرها حتَّى تاريخه.
وفي النهاية يدخل الزوَّار قاعة يُمكن لهم التعبير فيها عن آرائهم الخاصة.
أنا مهتمَّة بجمع الآراء، ونتشوَّق أنا وفريقي إلى ذلك. لدينا أيضًا جلسة أسبوعية نودُّ من خلالها التحدث مباشرة مع الجمهور. ما هي القضايا التي تشغلهم؟ وما هي المخاوف التي يطرحونها؟ هذا المعرض ليس نقطة النهاية بالنسبة إلينا: ما هي الدروس المستفادة منه في المراحل التالية للمعرض؟ وكيف يجب أن يتغير؟
ولا نسعى إلى إرضاء الجميع. ولن يكون بإمكاننا الردُّ على جميع ما يُطرح. ولكننا نريد أن نفهم أي النقاشات تعتبر مهمة بالنسبة إلى زوارنا. وسنواصل توجيه الدعوات إلى الخبراء. ولو كان بإمكاننا العودة إلى الماضي، لكنَّا وجَّهنا فورًا دعوة أخرى إلى المجلس الاستشاري. دون أدنى شكٍّ ودون تردد.
إلى أي حدٍّ يلقي الجدل حول بوهرلي بظلاله على متحف زيوخ للفنون؟
أتردد في الإجابة. فأنا أُقيم في سويسرا منذ عام. وكمهاجرة جديدة، عليّ أن ألتزم حدا أدنى من التحفظ. ولكنني أعتقد أن مجموعة بوهرلي هي “pars pro toto” [أي مجاز مرسل باللاتينية] وترمز إلى أكثر بكثير من هذه المجموعة.
ولا ينفكُّ الناس يقولون لي إنَّها قد تكون نوعًا من أحجار الشحذ لزيادة الترويج لتاريخ سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية. وقال لي الكثير من الأشخاص الذين تحدثت إليهم إنَّنا ندخل في مرحلة جديدة من إحياء الذكرى يكون فيها دور سويسرا موضعًا للمزيد من التشكيك.
والسؤال المطروح لا يتعلَّق كثيرًا بمفهومي الذنب أو البراءة، ولكن ربما يكون السؤال عن المعنى الذي كان يحمله الحياد ذلك الوقت. وما معنى أن تكون محايدًا سياسيًا، في سياق حرب عالمية، وأن تواصل التجارة مع الجميع؟ ولكن للإجابة، يلزم إجراء نقاشات خارج المتحف تتعلق بالأبحاث القائمة حاليًّا.
أنتِ الآن تتحدثين عن النقاش العام، ولكن هناك أيضًا نوع من العلاقة الدبلوماسية مع مؤسسة بوهرلي وجمعية زيورخ للفنون (Zürcher Kunstgesellschaft). فهل وُضعتْ أي شروط في هذا الإطار؟
لم تفرض مؤسسة بوهرلي أي قيود علينا. يجب أن تظل المجموعة كاملة معًا، ولكننا لدينا الحرية في التنسيق. وكان هذا تطورًا واضحًا- ولكنني لا أرغب في إصدار حكم مسبق على الحقائق. فمن غير مؤكد ما ستُفضي إليه أبحاث تقصِّي المصدر التي يجريها الفنان المؤرخ رافائيل غروس، الذي كُلِّف بمراجعة أصول هذه اللوحات.
هل يُمكننا أن نتوقع نموذجًا مشابهًا لنموذج برن- حيث يُصار إلى إعادة الأعمال إلى أصحابها الشرعيين عند وجود شكٍّ حولها؟
نحن نحترم كثيرًا العمل الذي قام به متحف برن للفنون، ولكنني أعتقد أن هناك فارقًا كبيرًا بين الوضع فيه ووضعنا. فمتحف بيرن للفنون هو المالك للأعمال المشكوك في أمرها. أمَّا نحن فلسنا المالكين في حالة مجموعة بوهرلي للأعمال الفنية. وهذا ليس عذرًا، ولكنها الحقيقة.
وقد وضعنا استراتيجية جديدة لأبحاث تحديد المصدر للمجموعة التي نملكها في مارس 2023. وبالنسبة إلى الأعمال في المجموعة التي نملكها، فأنَّ الظروف والاستراتيجية واضحة- ولكنَّها ليست واضحة بعد بالنسبة إلى مجموعة الأعمال الفنية المملوكة لمؤسسة بوهرلي.
تحرير: بنيامين فون فيل وإدواردو سيمانتوب
ترجمة: ريم حسونه
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.