مهرجان لوكارنو السينمائي: حيث تلتقي الأحلام بالذكاء الاصطناعي
أخطُّ هذه الكلمات بينما أتواجد في ردهة خافتة الإضاءة خُصِّصت للنقاد السينمائيين (غير) الرسميين في مهرجان لوكارنو السينمائي. تُشير عقارب الساعة إلى السادسة صباحاً، وعيناي اللّتان أعياهما السهر تجهدان في النظر إلى شاشة الحاسوب بإضاءتها الساطعة. وتخطر على بالي فكرة لا أقوى على طردها من رأسي؛ ما أعظم الشبه في النُطق الفرنسي للفظ (de bonne heure)، أي "ساعة باكرة"، ولفظ (bonheur)، أي "سعادة" - كم يعكس هذا التآلف الدلالي ما أشعر به في داخلي الآن!
سرت مساء يوم الأربعاء مع موكب يقصد “BaseCamp”، وهو مبنى مخصص لورش العمل الفنية المرتبطة بمهرجان لوكارنو. وما أن غربت الشمس حتَّى تناثرت وسائد حمراء كبيرة في جميع أرجاء الحديقة، موسومة بعلامات تجارية سويسرية.
وبدأت أضواء أرجوانية تتلألأ عبر أقواس الحديقة، وأخذ الزائرون (والبعوض) يتدفقون ببطء ليجلسوا في مقاعدهم.
البداية: مغيب الشمس
عندما أرخت الشمس خيطها الأخير عند الساعة الثامنة وأربعة وأربعين دقيقة مساءً، اعتلى رافائيل ديرنباخ، منسِّق فعالية “ليلة طويلة من الأحلام حول مستقبل الذكاء”رابط خارجي، ما يشبه خشبة المسرح ورحَّب بنا في عوالم متعددة من التجارب المتجسدة فينا – النوم، والسير أثناء النوم، والحلم، والحلم الواعي، واليقظة.
ووصف السيد ديرنباخ في كلمته التطورات التي طرأت على صورتنا للذكاء وكيف تحوَّلت إلى حلم محموم يظهر في مشهد تشوبه الأزمة البيئية والديناميات السياسية والعمَّالية المرتبطة بثورة تطور الذكاء الاصطناعي.
وبعد الكلمة الافتتاحية، حان الوقت ليغرق الحاضرون في حلم جماعي، قد يتحوَّل أحياناً إلى هلوسات أو كوابيس. وظلَّ الباب مفتوحاً طوال الليل لمناقشة الذكاء بجميع أشكاله، العاطفي والتكنولوجي والسينمائي، إلَّا أنَّ الذكاء الاصطناعي كان كالمغناطيس، لا تكاد مناقشة تبدأ إلا وتنجذب نحوه.
ثمَّ قامت ديفيكا جيريش، النائبة المشاركة لرئيس تحرير مجلّة “فيلم كومنت” (Film Comment)، بتقديم ضيوف النصف الأول من الليلة ومنهم شين دنسون، أستاذ الدراسات السينمائية والإعلامية المشارك في جامعة ستانفورد، والذي ألقى محاضرة عن التحولات الإعلامية الحالية، وعمَّا يسمّيه “الوسائط ما بعد السينمائية”.
وارتكزت محاضرته على الآراء المتضادة حول الذكاء الاصطناعي، متسائلاً إن كانت التكنولوجيا ستُحدث “توسّعاً جذريًّا في قوى الذكاء أم أنَّها ستحلّ محلّها حاجبةً قوى العقل”. وبينما أنا أستمع إليه، لم يسعني إلَّا أن أفكر أنّ كلّ محاضرة عن الذكاء الاصطناعي تتضمن دائماً جزءاً يقول فيه المتحدِّث: “في الواقع، هذا الجزء من النصّ كتبه الذكاء الاصطناعي”، ويؤكد على أن الحدود بين القدرات الإدراكية لدى البشر والآلات لم تعد بالضرورة واضحة كما في السابق.
وبالطبع، هذا ما فعله دنسون. ولكنه لم يركن إلى تفسير كارثي، بل وصف الظاهرة بأنها دعوة إلى “عدم الوضوح”. وقال إنَّ العثرات والعلل والأخطاء غير المتوقعة في بعض الأعمال الفنية التي توظِّف الذكاء الاصطناعي أو الخوارزميات، تُشكِّل تحديًّا يدفع نحو تخطي التفاهم السهل وغير المعقد.
الذكاء العاطفي
وفي النصف الثاني من الليلة، تحدَّثت غالا هيرنانديز لوبيز، وهي فنانة وباحثة ومنتجة أفلام، ناقلةً المناقشة إلى مستوى أكثر عاطفية. وركَّزت على الاتجاه نحو تغليب المفهوم الإنساني على الذكاء الآلي، حيث قدَّمت أمثلة لحالات عديدة كان البشر فيها (وفي الغالب الرجال) يطمحون إلى إنشاء علاقات عاطفية ورومانسية، وحتى أبعد من ذلك، مع الآلات.
وتضمنت الأمثلة التي عرضتها روبوتَ الدردشة سيّء السمعة ريبليكا (Replika)، الذي يمكنه الخوض في “حديث شهواني” مع المستخدمين، وإليزا (ELIZA)، واحدة من أقدم روبوتات الدردشة التي يمكنها تقمُّص ردّ فعل طبيب نفسي تجاه مرضاه. وسلَّطت الضوء على الرموز المستخدمة للتفرقة بين الجنسين في لغة الحب الرقمية.
لاحقًا، تبادل كلّ من كيفن ب. لي، هو صانع أفلام وكاتب مقالات فيديو وأستاذ متخصص في مستقبل السينما والفنون البصرية في جامعة سويسرا الناطقة بالإيطالية، وأندريا إ. ريزولي، مدير مختبر الذكاء الاصطناعي السويسري، الحديث عن تطوّر الذكاء الاصطناعي عبر التاريخ وعن حدوده وتأثيره على الطريقة التي نقيِّم بها التعبير الفني.
ويتفق لي مع وجهة نظر دنسون، قائلاَ إنَّ العلل هي فرص تدفع نحو التصوير والتشخيص النقدي لما يحدث من صواب وخطأ في طريقة عمل الخوارزميات. ومن ناحية أخرى، أكَّد ريزولي أن هناك تحسُّناً يطرأ على جودة وهياكل مجموعات البيانات التي يستخدمها الأشخاص لتدريب الآلات، ولكننا لا يمكننا أن نتأكَّد أنها خالية من التحيُّز أو التطرُّف ثنائي القطب.
النصف الآخر من الليلة
انتهت المحاضرات بعد منتصف الليل، واستيقظ الإيقاع الليلي. وبصوت ليس من هذا العالم، لكنه يبعث الهدوء أيضًا، قدَّمت الفنانة “سُوف”، والتي تولّت مهمّة التقديم في الجزء المتبقّي من التظاهرة، العديدَ من التجارب الحسّية التي تنتظرنا، بصوتها القادم من عوالم أخرى، والهادئ رغم ذلك.
وفي ركن في الفناء الخلفي، امتلأت طاولة كبيرة بمختلف أنواع الصلصات والتوابل والخضروات. حيث قدَّم لنا الباحثان أندرياس بيتلر وفابيان فاي عرضاً عنوانه “اصنع الفوكاتشيا الخاصّة بك”، وكان العرض فرصة للتعرُّف على أذواق مختلفة ولقاء أشخاص جدد والتحدث معهم. ولم يمض وقت طويل حتى أخذ خبز الفوكاتشيا طريقه إلى معداتنا. ومعه، استولت علينا رغبة شديدة في النوم، فاستلقيت على الوسائد النديَّة، وباغتني نوم لم يغلب تماماً يقظتي، فكنت أستيقظ كل خمس دقائق على أصوات وصور وأحاسيس مختلفة.
وسألت نفسي؛ هل سمعت فعلاً توماس ماينيكه يعزف موسيقى أغنية حملت كلمات من كتاب تيودور أدورنو “بروتوكولات الحلم”، أم أنها كانت هلوسة؟ لقد كتب أدورنو: “دفعتني محاولاتي للتأمل، وشكوكي أثناء الحلم، إلى الاستيقاظ “. وهذا ما حدث معي، مرارًا وتكرارًا.
وفي الساعة 5:30 صباحاً عندما أوشكت الشمس أن تشرق، حوّلت المصمّمة متعدّدة التخصّصات لورا بابك نبضات قلوبنا إلى موسيقى أثناء عرضها لتجسيد الأصوات الكامنة داخلنا.
كانت ملاحظةُ قلبي المصاب بالانسداد الرئوي، والذي يعاني من عدم انتظام دقات القلب، وهو يومض بإصرار على الشاشة تبدو وكأنها تجربة تحدث مرّة واحدة في العمر. كان جسدي لا يزال على قيد الحياة وكان يغني بثبات أغنيته الخاصة. ووسط الإيقاعات، سمِعته يشتكي من الإرهاق وقلة النوم.
انقطع الحوار الذي كان يدور بداخلي عندما قدَّم لي رافايل ديرنباخ باقة من اللافندر، هدية لأولئك الذين تمكنوا من أن يسافروا إلى آخر ليلة الأحلام. خرجت حاملةً النبتة المعطّرة في شوارع لوكارنو، بينما تخطر على بالي فكرة غريبة: أن أبدأ يومًا جديدًا بالخزامى، تلك النبتة المرتبطة بالنوم.
أويكو سوفوغلو هي ناقدة سينمائية ومترجمة مستقلة تركية مقيمة في باريس. تكتب لمجلات سينمائية متعددة منها مجلة التيازي (Altyazi) ومجلة سوروسيني (Sorociné) ومجلة موبي نوتبوك (MUBI Notebook)، وموقع كورت فيلم البلجيكي Kortfilm.be، وموقع توكنج شورتس Talking Shorts.
ترجمة: ريم حسونة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.