“وفي الانتظار مقاومة”.. خمسة أفلام لنيكولا فاديموف!
تستعيد منصّة DAFilms للأفلام الوثائقية عرض أعمال المخرج السينمائي المولود في جنيف نيكولا فاديموف، ما يفتح آفاقا جديدة بوجه المشاهدين بشأن فلسطين والحركة اليساريّة في سويسرا وراديكالية الصبر. فيما يلي، يستعرض الناقد السينمائي ألان ماتّلي أعمال فاديموف.
في الفيلم الوثائقي “أبولو غزة” (2018)، للمخرج السويسري نيكولا فاديموف، نرى مشهدًا يتجوّل فيه رجل الأعمال الفلسطيني جودت الخضري بين مجموعته الجميلة من نباتات الصبّار، ويعلّق قائلًا: “هذا المكان هو غزّة الحقيقية، أما غزّة المقهورة فهي مؤقّتة”، ويسترسل قائلا: “في غزّة، ما علينا إلا الصبر”.
عند التأمل في أعمال فاديموف الأخرى، التي تُخصّص لها حاليا مساحة على منصة الأفلام الوثائقية DAFilms، يبدو للمرء أنها تعتنق جميعها نفس النزعة الآملة المتروّية الواضحة في كلام الخضري.
ويبرز الصبر العنيد، الذي يتحمّل الحاضر وينتظر مستقبلا ليس لقدومه ضامن تماماً كنبات الصَبّار الذي يتحمّل حرارة الصحراء يوما بعد يوم، موضوعا ثابتا في الأفلام الخمسة المبرمجة في البرنامج الاستعادي “نيكولا فاديموف: جميع أشكال المقاومة” الذي تقترحه منصّة DAFilms والذي شاركت في إعداده مؤسسة الأفلام السويسريةرابط خارجي المعنية بالترويج للأفلام السويسرية مع خزينة الأفلام في الأوروغوايرابط خارجي.
DAFilmsرابط خارجي هي منصة بث إلكترونية تأسّست بمبادرة من Doc Alliance، وهي شراكة ابتكارية تم الاتفاق على تفعيلها بين سبعة من أبرز المهرجانات الأوروبية للأفلام الوثائقية تشمل مهرجان كوبنهاجن (الدنمارك) الدولي للأفلام الوثائقية CPH:DOXرابط خارجي ومهرجان لشبونة (البرتغال) للأفلام الوثائقية Doclisboaرابط خارجي ومهرجان الأفلام الوثائقية الألفية ضد الجاذبية (بولندا) Millennium Docs Against Gravityرابط خارجي ومهرجان مرسيليا (فرنسا) للفيلم الوثائقي FIDMarseilleرابط خارجي ومهرجان يهلافا (جمهورية التشيك) الدولي للفيلم الوثائقي Ji.hlava IDFFرابط خارجي ومهرجان رؤى من الواقع (مدينة نيون، سويسرا) Visions du Réelرابط خارجي.
وتهدف مبادرة Doc Alliance إلى تطوير الأعمال الوثائقية ودعم تنوعها والترويج المستمر للأفلام الوثائقية المُبدعة عالية الجودة. ومنذ شهر يناير 2022، يتضمن برنامج المنصة استعادة لمُجمل أعمال مخرج سويسري آخر هو طوماس إمباخ.
لا مندوحة من القول أن فيلم “أبولو غزة” يمثل جوهرة التاج لأعمال فاديموف المعروضة على منصّة DAFilms، حيث يروي الفيلم أحداثا عن قصّة اكتشاف تمثال قديم للإله اليوناني أبولو قُبالة سواحل غزة واختفائه الغريب بعد فترة قصيرة من اكتشافه، وهي قصة أصبحت بحد ذاتها رمزا للأراضي الفلسطينية المُتنازع عليها.
ظلّ تمثال أبولو، لفترة قصيرة بعد اكتشافه، سببا للبهجة والاحتفال بين أهالي غزة، ويقول أحد الصحفيين الغزّاويين: “إنها المرة الوحيدة التي تتصدر فيها غزّة عناوين الصحف لسبب غير الحرب”. إلا أن هذا الاحتفال لم يدم طويلا، وخار أمام جاذبية التوترات الجغرافية السياسية، وسرعان ما بدأت الشائعات حول التمثال تنتشر؛ شائعات بأنه هُرّب إلى غزّة من مصر وأخرى بأنه مزوّر وغيرها تزعم أن الجناح العسكري للحكومة الفلسطينية اختطفه لكفّ أيادي المتسللين الأجانب الذين لا يرون في التمثال إلّا فرصة لتحقيق ربح سريع.
ويرى الخضري، وهو واحد من بين العديدين الذين أجرى فاديموف مقابلات معهم، إنَّ المصير الذي آل إليه تمثال أبولو يعكس تاريخ مسقط رأسه المهمل والمنسيّ، ويؤكّد أن مجرد وجود التمثال هو في حد ذاته رمز لتاريخ غزّة الثقافي الغني، وأن حقيقة اختفائه هي تذكير صارخ بالصراعات التي تحجب أهمية غزّة وتاريخها عن الساحة الدولية. ومع أن الخضري يرى الحقيقة المؤسفة، إلا أن أن عزاءه الوحيد هو الأمل الممكن: “أن التمثال لا يزال موجودا في غزّة”؛ ويعقّب قائلاً: “إذا كان أبولو اختفى تحت ماء البحر قرابة ألفي عام [أو ربما لا]- فإن بإمكاننا أن نتحمّل أن يحتبئ على وجه الأرض خمس أو عشر سنوات أخرى حتى يظهر من جديد وتزدهر غزّة من جديد”.
سريالية الحرب والتهجير
يشكل الفيلمان الوثائقيان “أبولو غزّة” و”عايشين” ثنائيا أخّاذا على صفحة برنامج منصة DAFilms. وكان فاديموف أخرج الفيلم الوثائقي “عايشين” في عام 2010 في أحياء غزّة التي كانت تترنّح خلال فترة التصوير تترنّح تحت جولة أخيرة من عمليات القصف الإسرائيلي، وكان أهل القطاع آنذاك ينتظرون منذ وقت طويل جدا توقف القصف وتلقي معونات الأمم المتحدة وعودة الكهرباء.
وعلى الرغم من أنه أقل أفلام واديموف نضجا ضمن المجموعة المعروضة، إلا أنه يلمع كلما سقط عليه شعاع من السريالية في خضمّ الواقع الكئيب للحرب؛ وهو ما يبرز في المشهد الافتتاحي عندما يقود صاحب “الملاهي” صبياً عبر “مدينة الأشباح” التي دمرّها القصف وأصبحت حُطاما، ويشرح له كيف كانت الخدع المخيفة تعمل ومن أين كانت تأتي؛ ويُشبه حال الطفل وصاحب مدينة الملاهي حال مُهرّجيْن يقدمان عرضا ترفيهيا في غرفة مكتظة بالأطفال، وهو عرضٌ مستوحى من القصف بالقنابل يبعث على الرعب ولكنه مُسلّ في الوقت ذاته، كل ذلك بينما يهتز المبنى الذي يتواجدان فيه بسبب الانفجارات في الخارج.
ومن غير المستغرب أنَّ شبح الهجرة والشَتَاتْ يلوح في جزء كبير من هذين الفيلمين. وبالفعل فهو موضوع يشغل بال فاديموف منذ عام 1997 عندما كتب وأخرج فيلم “المُسافرون خلسة” (Clandestins) الدرامي، الذي يُعدّ أول عمل كبير له بالاشتراك مع المخرج الكندي دوني شوينار.
ويسرد فيلم “المسافرون خلسة” أحداثًا يحاول فيها ستة أشخاص عبور المحيط الأطلسي متسللين لبدء حياة جديدة في كندا. وهو المثال الذي تتجلى فيه حرفية فلاديموف وولعه بقصص الانتظار.
تدور أحداث الفيلم بالكامل داخل حاوية شحن وكأنها المنزل المؤقت لأبطال الفيلم، الذي يبدو أحيانا تجربة تكاد لا تطاق للاستنزاف النفسي. فمع اقتراب نفاذ الغذاء والماء وتوقف السفينة في منتصف المحيط ومع تصاعد حدة التوتر، يتغيّر المزاج من تفاؤل حذر إلى ذُعر مروّع تتخلله صور فاديموف وشوينار السوداوية الممتلئة بالعَرَقْ والوسخ والسُّخَام الذي يُزلزل في نهاية المطاف أكثر الشخصيات استعدادا وصلابة.
الراديكاليون السويسريون..
تتضمن مجموعة أعمال فاديموف فيلمين روائيين، إلا أن فيلم “مهمة الحرية” Operation Libertad الذي صدر عام 2012 أثبت أنه العمل الفني الأكثر إغراءً وجاذبية. وفي حين يفضّل فاديموف في “المسافرون خلسة“ أن يتناول القضايا الاجتماعية بصراحة مفرطة وهو ما يبدو واضحا في الكتابة التصريحية والإخراج الفني الشبيه بالإخراج المسرحي؛ إلا أن فيلم “مهمة الحرية” يترك – ربما نتيجة النضوج الإبداعي لفاديموف – مساحة أكبر للجدل والتناوش الأيديولوجي ولكن دون المساس بموقفه السياسي الصريح والواضح.
يحكي فيلم مهمة الحرية، من خلال رسالة من أب لابنته، قصة مجموعة من اليساريين الراديكاليين في جنيف قرروا في عام 1978 اقتحام أحد المصارف في زيورخ لإثبات أن القطاع المالي السويسري له تعاملات غير مشروعة مع عدد من الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية.
ولكن عندما يرفض موظف البنك المستهدف الإعتراف بعلاقاته مع الدكتاتوريات أمام عدسة الكاميرا يُصاب الثوّار الشباب بالذعر ويقومون بإيداعه على عجل في شاحنة ثم يفرّون إلى مخبإ آمن حيث ينتظرون عبثاً أن تتم تلاوة رسالتهم الثورية في نشرات الأخبار التلفزيونية.
وكما هو الحال في المسافرون خلسة، تعتمد ديناميكية مهمة الحرية الاستنزاف والتحطيم النفسي، لكنها ترتكز – من خلال تأطيرها المثير – على مُلاحظة مثيرة للاهتمام تتلخص في أن سويسرا نسيت على ما يبدو تلك المثالية الثورية التي حرّكت أجزاء معتبرة من اليسار السويسري حتى ثمانينيات القرن الماضي.
ووفقا لرواية فاديموف، فإن المغزى الأخلاقي من القصة ليس الفشل الهزلي بل السوداوي لمهمة “مهمة الحرية” الخيالية، بل مجرد التذكير بالماضي [أن حركات من هذا القبيل كانت موجودة بالفعل داخل الهياكل البرجوازية ذات السمعة السيئة في البلاد. ومن خلال هذه القصة، يخلُص الرواي في نهاية المطاف إلى أنه “بإمكانك بناءُ تاريخك”، ولكن لكي يتسنّى للمرء إعادة تشكيل مستقبله، فيجب عليه أولاً معرفة ماضيه الراديكالي.
..والسويسري الأكثر راديكالية
أحد هؤلاء الراديكاليين كان محور تركيز واهتمام فاديموف في فيلمه الوثائقي الصادر عام 2016 “جون زيغلر: تفاؤل قوة الإرادة” Jean Ziegler: The Optimism of Willpower . في هذا العمل الذي يُعتبر أحد أفلامه الوثائقية الأكثر تسلية، يتنقّل المخرج بوتيرة سريعة عبر محطات من حياة وأعمال زيغلر الذي يُعدّ أبرز المثقفين اليساريين الذين أنتجتهم سويسرا حيث رافقه في مؤتمرات خطب فيها وخلال اجتماعات لجنة تابعة للأمم المتحدة وطوال رحلة مليئة بالعبر إلى كوبا.
ويبدو فاديموف سعيدا بعرض الحيوية المُعدية التي ينخرط بها بطله الثمانينيْ في معاركه التي يخوضها متسلّحا بالصبر والوعي في مواجهة ويلات الرأسمالية العالمية. فلا يزال زيغلر يؤمن إيماناً راسخاً بثورتيْ كاسترو وغيفارا، ولا زال على استعداد للدفاع بحماس عن مبررات تقييد حكومتيْ كوبا وفينزويلا لبعض الحريات.
من المستبعد أن يؤدي فيلم تفاؤل الإرادة إلى تغيير آراء أيّ كان، ولكنّه – ومن خلال اعتماد نفس الروحية التي تتخلل عملية الحرية، لكنه قد يساعد الأجيال الشابة على فهم وتقدير السبب الذي جعل زيغلر شخصية بارزة في المقام الأول.
في كل الأحوال، يبقى فيلم “تفاؤل الإرادة” عملا تصويريا (في مجال البورتريه) أكثر إقناعاً من فيلم “الأسبرطيّون” (2014) الذي يستعرض حياة إيفان سوريل – وهو لاعب ماهر في الرياضات القتالية المختلطة يدير ناديا مشهورا لهذه الصنف من الرياضات في جنوب فرنسا وبالتحديد في الأحياء الشمالية من مدينة مرسيليا التي تُعاني اقتصاديا – بمنظورٍ واقعيّ دون أي تلطيف أو تجميل.
ومع أن فاديموف غالبا ما يقود توجّهات العالم الوثائقيّ حيث سبق أن تضمّن فيلمه “عايشين” عديد العناصر الأسلوبية التي برزت لاحقاً في أفلام الحرب الأهلية السورية مثل “وعد الكتائب” وفيلم “من أجل سما” للمخرج إدوارد واتس (2019)، إلا أن فيلم الأسبرطيون يبدو اعتيادياً على نحوٍ غير معهُود.
لا ريب في أن سوريل شخصية ملفتة وتستدعي التأمل، فهو يتلاعب بشكل روتيني بالخط الفاصل بين التأديب الفعّال والإيذاء اللفظي والجسدي، لكن الدروس (أو العبر) التي يُمكن اكتسابها من هذا التنقل عبر شوارع مرسيليا السيئة السمعة لا تكاد ترتقي فوق مستوى الابتذال أو التبسيط الوثائقي.
ومع كل ما سبق، لا يسهنا إلا الإشادة بروعة مجموعة أعمال نيكولاس واديموف المعروضة على منصّة DAFilms، حيث نجحت المجموعة في تسليط الضوء على التنوع الموضوعي والدقة في أعمال ابن جنيف البالغ من العمر 57 عاماً. إن مشاهدة الأفلام الستة المعروضة هو إعادة اكتشاف جمال غزّة وذورة اليسارية السويسرية، وأشكال الصبر المتفاوتة وإمكاناته الراديكالية؛ المقاومة الهادئة المتجسّدة في فعل الانتظار على بساطته.
مع كل ما سبق، لا مجال لإنكار الطابع الرائع لمجموعة أعمال نيكولا فاديموف المعروضة على منصّة DAFilms، حيث يُمكن القول بكل اطمئنان أن الاختيار نجح في تسليط الضوء على التنوع والصرامة المواضيعية في أعمال ابن مدينة جنيف البالغ من العمر سبعة وخمسين عاماً. ذلك أن ارتحال المُشاهد بين الأفلام الخمسة المقترحة أشبه ما يكون إعادة اكتشاف لجمال غزّة ولذورة اليسارية السويسرية، وخاصة لتجليات الصبر المتفاوتة وإمكاناته الجذرية؛ أي المقاومة الهادئة المتجسّدة في فعل الانتظار على بساطته.
وُلد نيكولا فاديموف في جنيف عام 1964، وبدأ حياته الفنيّة كعازف غيتار في فرقة لموسيقى الروك وشارك في تأسيس فضاء ثقافي بديل في المدينة يُعرف باسم L’Usine (أي “المصنع”)، ثم التفت إلى الإخراج التلفزيوني في قناة التلفزيون العمومي السويسري الناطقة بالفرنسية. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ اهتمام فاديموف بالشؤون الاسرائيلية – الفلسطينية، عندما أنجز أول فيلم وثائقي له عام 1989 بعنوان،: “يهودي، عربي، يمني”. بالإضافة إلى أنشطته السينمائية، يُشرف فاديموف على إدارة قسم الأفلام في جامعة جنيف للفنون والتصميمرابط خارجي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.