النساء والحجاب والنقاب.. هكذا سارت الأمور على مرّ التاريخ
عندما صوتت سويسرا في السابع من مارس الجاري لصالح حظر ارتداء النقاب والبرقع، سارع كثيرون إلى اعتبار المسألة ذات قيمة رمزية أكثر من كونها ذات تأثير سياسي. ولكنّ مظهر المرأة يكتسي بالفعل قدرا من الأهمية في الساحة السياسية. فمنذ زمن بعيد، كانت تغطية وجوه النساء وأجسادهن قضية خلافية، وذلك قبل وقت طويل من ظهور الإسلام.
في السنوات الأخيرة، كان لدى الدول المسيحية بشكل رئيسي، وخاصة في أوروبا، مشاكل مع ارتداء النساء للحجاب والنقاب، الذي يُنظر إليه اليوم على أنه شكل من أشكال الإسلام الراديكالي. إلّا أنه عند النظر للتاريخ، نجد أن النساء المسيحيات واليهوديات هنّ أول من ارتدى هذا النوع من الملابس وذلك قبل ظهور الإسلام.
في التقاليد المسيحية، كان النقاب رمزًا للكرامة والعفة والعذرية. وبشكل عام، فإن مسألة لباس المرأة، وعلاقته بالتقوى ومراعاة القواعد الأخلاقية، هي جزء من التعاليم المسيحية وقد فرضها على مر القرون رؤساء الكنائس.
أمّا في الشرق الأوسط، فقد حاولت عدة بلدان تنظيم قضية لباس المرأة. ففي تركيا، تم حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكان الحجاب لسنوات عديدة مشهداً نادراً في المناطق الحضرية في معظم أنحاء المنطقة. ولكن خلال السبعينيات، جلبت الهجرة الجماعية من المناطق الريفية إلى العواصم والمدن نساءً يرتدين الحجاب والنقاب أحيانا، وإن كان ذلك لأسباب تتعلق بالتقاليد أكثر منه لأسباب دينية.
في عام 2018، تناول المتحف العالمي (Welt Museum) في العاصمة النمساوية فيينا جوانب مختلفة من الحجاب من خلال معرض خاص بعنوان: “مُحجّبة، غير مُحجّبة! غطاء الرأس”. وبينت مجموعة الأعمال المعروضة العديد من جوانب هذه القطعة البسيطة من القماش التي لا تزال تنقسم بشأنها الآراء والمدارس الفكرية. وضمّ دليل المعرض المُصمّم بعناية أمثلة غريبة للحجاب على مر القرون.
“محجبة، غير محجبة! غطاء الرأس”، معرض احتضنه “متحف العالم” في فيينا
قبل تنظيم المعرض في فيينا، كانت سوزانا بورغارتس، أستاذة عصر النهضة والتاريخ الحديث المبكر في جامعة بازل (شمال سويسرا)، قد تناولت الموضوع من منظور ثقافي-تاريخي، وتمخضت أبحاثها عن مقال علمي نُشر في عام 2016 تحت عنوان “النساء المغطاة؟ الحجاب في بدايات أوروبا الحديثة”.
في ضوء التصويت الأخير الذي شهدته سويسرا، طلبت SWI swissinfo.ch من البروفيسورة بورغارتس تسليط الضوء على الحجاب وأهميته، حيث أن الرمزية المتأصلة في هذه السجالات لم تحسمها نتيجة اقتراع السابع من مارس 2021.
بداية، توضح بورغارتس أن “تحرير” المرأة من تغطية نفسها في الغرب لم تكن عملية صريحة ومباشرة، وأن التطور التاريخي لعملية “رفع الحجاب” عن المرأة لم تكن عملية خطية. ذلك أنه بالرغم من إفراغ الحجاب من طابعه الديني في العالم المعلمن حتى، “فإن خضوعه لتقلبات الموضة لم يكن بأي حال من الأحوال علامة على أن الحجاب قد فقد معناه تمامًا”، كما تقول بورغارتس.
SWI swissinfo.ch: كيف تنظرين إلى تحول غطاء الرأس والحجاب من قضية مرتبطة بالأخلاقية والدين والجنس إلى هذا الخلاف السياسي الذي نشهده اليوم؟
سوزانا بورغارتس: اللباس بشكل عام، وخاصة غطاء رأس النساء وحجابهن، كان ولا يزال مشحونًا في كثير من الأحيان بمعان ثقافية بعيدة المدى، كانت وما زالت تُوظّف سياسيًا. على سبيل المثال، أعلن رجال الدين في مختلف الثقافات أن لغطاء الرأس وللحجاب أبعادا أخلاقية. كما تحول غطاء الرأس والحجاب مراراً وتكراراً إلى قضايا تتعلق بالسلطة، تقيس من خلالها مجموعات معينة مدى تأثيرها، (على سبيل المثال، رجال الدين في بازل حوالي عام 1700، أو في إيران اليوم).
SWI swissinfo.ch: هل هذا يعني أن أولئك الذين يرتدون مثل هذه الأغطية كانوا ولا يزالون مهتمين فقط بالتبعات السياسية للباسهم؟
سوزانا بورغارتس: لا، على الإطلاق. يُمكن أن توفر الأغطية الحماية أيضًا، بينما يمكن أن يؤدي الكشف للفضح. في السنوات الأخيرة، تم توظيف أغطية الرأس والحجاب الكامل (النقاب) بشكل متزايد كرمز واضح للصراع المرير بين “الغرب العلماني” و”الإسلام”. ومع ذلك، إذا ما نظرنا إلى العديد من أشكال الحجاب المختلفة على مدار التاريخ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان مثل هذا الحديث عن “صراع الحضارات” لا يقيد بالفعل خيارات النساء في التصرف بدلاً من توسيعها. وبناءً على ذلك، فإن قواعد اللباس – سواء كانت تُلْزِمُ أو تَحْظُرُ – تمثل مشكلة بالنسبة لثقافة تعتمد على حرية الاختيار للأفراد.
SWI swissinfo.ch: إلى أي مدى قاتلت النساء الأوروبيات ضد قواعد اللباس المنظمة لـ “تغطية الجسد”، وهل هناك أمثلة عن تحقيقهن لتقدم كبيرا قبل القرن العشرين؟
سوزانا بورغارتس: تاريخ الأزياء وتنظيم ارتدائها متنوع للغاية بحيث لا يُمكن سرده في بضع جمل. ومع ذلك، هناك بالتأكيد أمثلة تاريخية على أن النساء لا يخضعن لأنظمة ملبس معينة فحسب، بل يُطوّرن أيضًا أشكال ومواد لباسهن بأنفسهن، ويعملن على تغييرها وتكييفها مع احتياجاتهن.
في بداية القرن السادس عشر، نجح نساء نورنبرغ (Nuremberg) النبيلات بمساعدة الأرشيدوق فرديناند، أحد أمراء العائلة المالكة في النمسا، في التخلص من أغطية الرأس التقليدية (المسماة) “شتورتس” الصلبة والمصنوعة بإتقان، وذلك ضد إرادة أعضاء مجلس المدينة، الأمر الذي أصبح مثالاً شهيراً. في إسبانيا، من ناحية أخرى، مُنعت النساء من ارتداء الحجاب في نهاية القرن السادس عشر لأنهن استخدمن – بنظر منتقدين ذكور – ما يسمى بغطاء الجسم “التابادو” بطريقة فاحشة لإغواء الرجال.
SWI swissinfo.ch: على الرغم من استخدام الحجاب كرمز للتقوى والالتزام الأخلاقي، ألم يُوجد أيضًا أشكالًا جديدة من الرموز الحسية أو الجنسية؟
سوزانا بورغارتس: سبق وأن ذكرت “التابادو” كأحد أشكال التلاعب بارتداء الحجاب. إذا نظرنا إلى التاريخ الطويل لغطاء الرأس، نجد العديد من الأمثلة على الأشكال العصرية للحجاب – سواء حجاب هويك “huyk” الذي كانت مواطنات هولندا الحديثة في البدايات يرتدينه، أو الاستخدام الغريب للحجاب من قبل محظيات البندقية اللواتي أردن جذب عملائهن وتقديم أنفسهن كنساء محترمات في نفس الوقت، أو الصرعة الجديدة في نهاية القرن الثامن عشر عندما استخدمت النساء العصريات موضة الحجاب الرّهيف لتعزيز جاذبيتهن.
في الغرب أيضًا، ظل النقاب شائعاً كموضة حتى يومنا هذا تقريبًا، وتم إنتاج الأقمشة (الخاصة به) في مناطق المنسوجات الرائدة مثل شمال إيطاليا، وبالقرب من زيورخ، أو في سيليزيا، لجميع أنحاء أوروبا، كما جاء في كرونيتس (Krünitz)، وهي موسوعة كانت مهمة في بداية القرن التاسع عشر. واستخدمت النساء المشهورات مثل أميرة موناكو، أو الأرامل مثل جاكي كينيدي، هذا الصنف من النقاب حتى القرن العشرين. في السنوات الأخيرة فقط، ترسّخ الإكراه على كشف الوجه في الغرب وحل ذلك محل استخدام أغطية الرأس بالكامل تقريبًا.
الأستاذة الدكتورة سوزانا بورغارتس، مؤلفة “النساء المغطيات، الحجاب في أوائل أوروبا الحديثة “، الصادر سنة 2016، وأستاذة التاريخ الحديث المبكر في معهد الدراسات الأوروبية الشاملة بجامعة بازل، شمال سويسرا.
المزيد
لماذا أثارت مبادرة “حظر النقاب” كل هذه الضجة الإعلامية؟
(ترجمه من الإنجليزية وعالجه: ثائر السعدي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا